الهجرة السريّة بعض شرور الاستعمار، ولا علاج لها إلاّ بزواله
لئن عُرّفت “مذكرات التفاهم” في الأعراف الدولية بأنها وثيقة تتضمّن اتفاقاً بين طرفين أو أكثر، للبدء بعمل مشترك بين هذه الأطراف، يتحدّد بموجب هذا الاتفاق نوعية الأدوار الموكولة لكل طرف وما هي المسؤوليات والصلاحيات المترتبة عليه ضمن بنود المذكرة بحيث يكون لدى كل طرف كافة التفاصيل المتعلقة بآلية العمل بشكل واضح ومفهوم وشامل. فإنّ مذكرة التفاهم حول “الشراكة الاستراتيجية والشّاملة” التي أمضتها تونس مع الاتحاد الأوروبي في 16 جويلية الجاري، والمتعلقة بعدة مجالات، بينها تعزيز التجارة ومكافحة الهجرة غير النظامية، شذّت عن كل عرف، واتسمت بمفارقات خطرة:
1 ــ أن فصول مذكرة التفاهم حول “الشراكة الاستراتيجية والشّاملة” الممضاة مع تونس هي مقررات لقادة الاتحاد الأوروبي والتي زكّاها المجلس الأوروبي في اجتماع 30 جوان 2023 ببروكسيل، كما ورد على لسان رئيسة المفوضية الأوروبية حين قالت: “لقد عملت فرقنا بجد للتوصل إلى حزمة قوية تمثل استثمارا في ازدهارنا واستقرارنا المشترك وفي الأجيال المقبلة”. فاستغلت الكتلة الأوروبية أوهن الأوضاع السياسية التي تمر بها بلادنا لتستفرد بقيس سعيد الذي لم يشرك معه أحدا من الوسط السياسي ولا المنظمات “الوطنية”، ولا حتى برلمانه، في ما يسمى بمفاوضات مذكرة التفاهم هذه، وذلك خطوة أولى يخطوها الأوروبيون في اتجاه توسيع هذا النمط من التعاون في مرحلة لاحقة، ليشمل دولا أخرى من حوض المتوسط مثل مصر.
2 ــ أنّ فصول هذه المذكرة هي في الحقيقة إملاءات، حدد الاتحاد الأوروبي ثمنها وقرر مقاديرها، فتفضّل على سلطة تونس ب 150 مليون يورو لسدّ بعض عجز ميزانية البلد، و105 ملايين يورو لمكافحة الهجرة غير النظامية، في صورة قوارب ورادارات نقالة وكاميرات وعربات، صونا للحدود الأوروبية، حتى وإن زعمت السلطة في تونس أن بلدنا لن تقبل أن تصبح حارس حدود لدول أخرى، وأنها تفاوض من منطلق الند للند وليست على طريقة “السيد والتابع” أو “الإملاءات الفوقية”، ثم تعهّد لقيس سعيد بمنحه قرضا بقيمة 900 مليون يورو” شريطة التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
3 ــ أن مذكرة التفاهم هذه، وإن كان قيس سعيد يخادع نفسه بأنه سيحقق، بإمضائها كسبا للتونسيين بـالحديث عن “التقريب بين الشعوب”، ولسنا ندري ما مفهومه للتقريب بين تونس والأوروبيين، إلا مزيدا من التبعية؟ أو حديثه عن “أن تكون المذكرة مشفوعة في أقرب الأوقات بجملة من الاتفاقيات الملزمة”، ولسنا ندري بما سيلزم الأوروبيين..فهي لا تعني عند الاتحاد الأوروبي إلا إعادة التونسيين من المقيمين بشكل غير نظامي ودون وثائق من بلدان الاتحاد هذا، وهو البند الجاري تنفيذه حاليا دون صخب إعلامي، أو موضوع أفارقة جنوب الصحراء، وتولي تونس عبء صدهم عن أوروبا.
إلا أن الجرم الأخطر الذي تخفيه مذكرة التفاهم الفاجرة هذه، والتي سعد قيس سعيد بإمضائها، والتي أرادت من خلالها أوروبا الاستعمارية، تحميل جريرة استعمارها للشعوب الإفريقية، واستعباد أهلها والاستحواذ على مقدراتها، واستمرار نهب خيراتها، بل وبسط نفوذها عليها، من خلال النواطير الخونة الذين فرضتهم على أهل إفريقيا قاطبة، مما أكره غالبية أهلها على محاولة النزوح إلى حيث تكدُّس الثروات، من أجل البحث عن أدنى مقومات العيش، بأن حولت القضية إلى مجرد حالات إنسانية، فتحول الحديث إلى رفض الخطاب “العنصري” وتجريم الدعوة “للكراهية”، وصار الجدل منصبا حول “عنصرية” التونسيين، بل ونال أهل صفاقس نصيبا عظيما. بل إن السّاسة الأفارقة حكاما ومعارضة ومنظمات لم ترتق هممهم، وهم يخوضون في هذا الشأن، إلى جرأة وبراغماتية رئيسة وزراء إيطاليا “ميلوني” حين أشارت إلى بعض الحقيقة، خدمة لبلدها، لما طلبت من فرنسا أن ترفع يدها عن مستعمراتها في إفريقيا حتى يستقر أهلها فيها، ولا يضطرون للهجرة إلى بلدها. فلا قيس سعيد تجرأ وتحدث عن الاستعمار، السبب الحقيقي في مآسي الشعوب، فراح يداري فشله بالحديث عن الشبكات الإجرامية التي تستغلّ بؤس الإنسان، وعن الجماعات غير القانونية التي تتاجر بالبشر وتزج بهم في قوارب الموت وتستغلهم لأغراض إجرامية، وأن وجودهم في تونس مصدر “عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة”، مما أثار موجة تنديد من قبل منظمات حقوقية، وعن تغيير التركيبة الديمغرافية لتونس وإفقادها صفة الدولة العربية والإسلامية. ونحا نحوه رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي “موسى فكي” مبرزا عنترياته حين أدان “بشدة تصريحات السلطات التونسية الصادمة ضد مواطنينا الأفارقة، والتي تتعارض مع روح منظمتنا ومبادئنا التأسيسية”، مطالبا السلطات التونسية “بحل قضايا الهجرة بهدف جعل الهجرة آمنة وكريمة ونظامية”. فهل أن إيواء السلطات التونسية لهؤلاء الضحايا في خيام، مثلا، أو معاملتها لهم بصفة آمنة وكريمة ونظامية، حل لقضايا الهجرة، ولمأساة الإنسان الإفريقي يا سيد “موسى فكي”؟
فالقضية قضية استعمار دول رأسمالية كافرة لشعوب مستضعفة، نصبت نفسها سيدة عليهم، واستأثرت دونهم بمقدرات بلدانهم، وأفقدتهم إنسانيتهم، وجاءت اليوم تذرف دموع التماسيح على ما أصابتهم به من جور وهوان، ثم صاحت في العالمين أن على تونس أن تتحمل مسؤوليتها تجاه هؤلاء البؤساء!! سنظل نشقى مادام هؤلاء الحكام، الذين يرون في عُتاة الاستعمار قدوة لهم، مسلطين على كواهلنا، ولا يرون إلا ما يراه أولياء نعمتهم، ولن يرفع عنا هذا الضنك إلا بقطع أيديهم عن رقابنا، حتى يزول عنا كيد أولئك المستعمرين. فأهل إفريقيا شمال الصحراء وجنوبها كلنا ضحايا نفس المستعمر الرأسمالي الكافر، إلا أنه مازال ينجح في تنصيب نفسه حكما علينا ومصدرا لتفكيرنا، حتى صرنا نعادي، نحن الضحايا، بعضنا البعض.
لقد جمع الأوروبيون جمعهم وأتونا صفا، بعد أن فكروا وقدروا، قبل أن يسبقهم الإنجليز والأمريكان، تثبيتا لهيمنتهم علينا، وخداعا لنا على أنفسنا، ويأبى عبيدهم منا، إلا متابعتهم والرضا بالذل تحت سلطانهم، وليس لنا والله إلا الصدق واجتماع كلمتنا على الحق الذي جاءنا من عند ربنا ففيه خلاصنا وعتق رقابنا، نحل الحلال ونحرم الحرام، وننزع عنا تحكم الكافر المستعمر فينا وتسلطه علينا، ونقطع يده الغادرة بنا، ونقتعد مقاعد العز الذي ارتضاه لنا مولانا جل وعلا، من أجل إنقاذ البشرية من رجس العلمانية والديمقراطية الفاجرة. فقاعدة “مذكرة التفاهم” معهم لا تكون إلا على ما قال ربنا سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ (15) يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيم”. (16) ـ المائدة ـ
CATEGORIES كلمة العدد