يُطلق الكثير من العلمانيين صيحة الفزع في كلّ محطّة انتخابيّة من ظاهرة الرشوة السياسيّة وتغوّل المال السياسي الفاسد الذي يتّهمونه بإفسادالأوضاع في البلاد، ويرون أنّ المشكلة ليست في النّظام بل المشكلة عندهم في عدم صلاح الأشخاص القائمين عليه الذين أوصلهم المال السياسي الفاسد الذي يقف حائلا دون شفافيّة الانتخابات فأثّر في نتائجها تأثيرا.
والمحقّق فيالأمريجد أنّ الدّافع لإطلاق صيحات الفزع هذه ليس مردّه نزاهة الصّائحين ولا هو تعفّفا منهم إيمانا بعدم جواز ذلك،إنّما صيحاتهملعدم قدرتهم على مجاراة أصحاب اللوبيات ذوي الإمكانيات الضّخمة.
إنّ الرشوة السياسية ومنها ما يعرف بالمال السياسي الفاسد، هو ذاك المال الذي تنفقه جهات خفيّة وبطرق ملتوية قصد التأثير على موقف جمع من النّاس أو كسب وضمان تأييدهم في قضيّة ما. والدافع الرئيسي للّجوء إلى هذه الأساليب إنّما هو انتهازية القائمين عليها وسعيهم لنيل السيادة على أقوامهم بما هم ليسوا أهلا له وبما لا يقدرون على التمكّن منه بالطريق الطبيعي وذلك استجابة لرغبة غريزيّة في السعي إلى السيادة والسيطرة والطموح القويّ للجمع بين الجاه والثروة.
دور رأس المال في الحياة السياسية في النظام الديمقراطي
لقد اشتهر النّظام الرأسمالي بقوّة تأثير أصحاب المال فيه إذ هم في الحقيقة المتحكّمونفي دواليب الدولة فهم الذين يفرضون التشريعات والقوانين ويرسمون السياسات،ثمّ هم الذين ينصّبون الحكام لتنفيذها، وقد نتج عن هذا ظلم كبير في المجتمعات أحسّ به عموم النّاس وأدركوا أنّ الدولة تحت الهيمنة الرأسماليّة ليست دولتهم، بل هي دولة الشركات وأصحاب المال، الأمر الذي دفع بالكثير من الناس لرفع أصواتهم للمطالبة بضرورة الوقوف أمام هيمنة رأس المال على مسار الانتخابات. وقد نجحوا في اقتلاع بعض التشريعات ظنّا منهم بأنّها الكفيلة بصدّ هذا الفساد ومنع المفسدين من التسلّط على دوائر القرار في السلطة، إلا أنّه وبالرغم من وجود هذه التشريعات فإنهم لم يقدروا على القضاء على هذا الفساد ولم تنجح هذه التشريعات في تحقيق الغرض من إنشائها وسوف يبقى العجز قائما أمام تغوّل المال على الحياة السياسية مهما اجتهد المجتهدون ما لم يقع تغيير الأساس الفاسد الذي أُنشئ عليه المجتمع للارتباط الوثيق بينهما.
ليس هذا النّوع من الفساد حديث عهد في الوجود، وليس وجوده مربوطا بزمن معيّن أو أناس معيّنين بل وجوده مقرون بنمط عيش المجتمعات وفساد الأسس التي تقوم عليها. ولقد عرفت المجتمعات البشرية منذ القدم وجوده،يذكر القرآن الكريم ما حصل في الأقوام السالفة، فهذا فرعون الذي حاول استمالة السحرة والتأثير فيهم للوقوف أمام موسى ودعوته، فاستقدم السحرة لمناظرة موسى وبدل البحث عن الحقّ سعىإلىإغراء السحرة بالأموال والمكانة المرموقة، قال تعالى “وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ( 114).
وفي زمن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقد ذكرت أصحاب السير انّ عتبة بن ربيعة وهو سيد من سادات قريش قد كان يوما جالسا في ناديهم ورسول الله صلى الله عليه وسلّم جالس في المسجد لوحده،قال لسادة قريش: ” … ألا أقومإلى محمد فأكلّمه وأعرض عليه لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها يشاء و يكفّ عنّا ؟ فقالوا:”بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه”. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد، أسمع؛ قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطبّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه”.. أو كما قال له.
فخطاب عتبة يحمل رغبة قادة قريش وحرصهم الشديد على أن يتخلّى الرسول صلّى الله عليه وسلّم على دعوته مقابل عروض مغرية ماديّة واجتماعية وهذا في حقيقته ما هو إلارشوة سياسيّة.
الرشوة في الأحزاب السياسية
الأحزاب السياسيّة في النظام العلمانيلا تعتمد في عملها إلا على أساس المال فبه تكسب الأعضاء وبه تشُدّ إليهاالأنصار والمؤيدين وبه تطفو الأحزاب وتظهر وبغيابه تموت وتندثر، ومن جرّاء هذا المال السياسي جدّت ظاهرة السياحة الحزبيّة هرولة وراء المصلحة أينما كانت ولو ببيع الذمم. فأفسدت هذه الأحزاب الكرتونية الحياة السياسية وأفسدت الذّوق العامّ وساهمت في تركيز الانتهازية والأنانية ووضعت العراقيل أمام أي عمل حزبي جادّ لإنهاض الأمّة.
إن الاعتماد على المال في العمل الحزبي مخالف لما يأمر به الإسلام ومخالف للعمل الحزبي الطبيعي في الأمة، فالحزبيّة عند المسلمين هو قيام بفرض وطاعة لأمر الله تعالى فلا يُنتظر من الانخراط فيه تحصيل مال أو منافع كما انّ جعل المال أساس الانخراط في العمل الحزبي مخالف لسيرة الانبياء والمرسلين وقد أورد القرآن الكريم في الكثير من الآيات نفي اتخاذ الأجر على عمل الانبياء والمرسلين قال تعالى ” وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) ” كما قال :” قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا (57 ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِين (109) (الشعراء)وكما قال ايضا: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين ﴿86﴾
فساد الأساس العلماني وصلاح الإسلام
إنّ النّاظر إلىالأساس الذي اعتمدته الديمقراطيّة في بناء المجتمعات ليدرك فساده ولا يمكن أن يُنتج إلا مجتمعا يغلب عليه الفساد،فقاعدة السيادة للشعبالتي أعطت حقّ التشريع وسنّ القوانين إلى النّواب هي أصل البلاء وهي التي فتحت الأبواب أمام هيمنة رأس المال ودفعتهإلى السعي للسيطرة على أجهزة الدولة لضمان مصالح مالكيه تشريعا وتنفيذا.
وقاعدة السيادة للشعب لا تعترف إلا بالقيمة الماديّة مقياسا للأعمال، فالكل يوزن بميزانها ولا قيمة لأيّ شئ غيرها فهذا المقياس هو الذي صوّر الحياة بأنّها معركة بين النّاس تُستباح من أجل الفوز بها كلّ الوسائل والأساليب.
أمّا الإسلام قد حمى المجتمع من كلّ أنواع الفساد وأحكم غلق المنافذ المؤدّية إليه، فالقاعدة فيه أنّ السيادة للشرع وحده لا للبشر،فجعل التشريع بيد الله وحده فحال دون تسرّب المفسدين وأموالهمإذ الصلاحيات النيابيّة في مجلس الأمة(تبعا لهذه القاعدة) ليست تشريعيّة، بل للمحاسبة وإبداءالرأي فقط وهو ما يُبعد الانتهازية عن السعي للعضوية في المجلس النيابي.
وينتج عن قاعدة السيادة للشرع وحده أنّ مقياس الأعمال هو الحلال والحرام،ولهذاالمقياس دور عظيم في صرف النّاس عنالانتهازية والسعي وراء المصالح الضيقة. أمّا النظرة التشريعية (في قاعدة السيادة للشرع) حين التشريع فهي تقوم على النظر إلى مشاكل النّاس باعتبارها مشاكل إنسانية فقط، فهي لا تنظر إلى الفقراء فتقوم بالتشريع لفائدتهم على حساب الأغنياء، ولا تنظر إلى الأغنياء فتشرّع لفائدتهم على حساب الفقراء، فالتشريع الربّاني ينظر إلىالإنسان من حيث هو إنسان فلا يحابي أحدا ولا يميّز أحدا على أحدأو فئة على أخرى، وقد وقفت هذه القاعدة سدّا منيعا أمام تسرّب المفسدين الى دوائر القرار وحمت المجتمع من تسلّط الأقوياء على الضّعفاء. بخلاف قاعدة السيادة للشعب التي يقوم عليها النّظام الديمقراطي والتي تجعل النظرة التشريعية لديها بيد الفئة القوية فتستخدمها لما يخدم مصالحها على حساب الفئات الضعيفة،فسلطة القويّ هي النّافذة في هذا النّظام وهذا أمر ملاحظ وجليّ وفساده ملموس ومحسوس لكلّ النّاس.
إن النظام العلماني لا يخلو من الفساد في أي جزئية من جزئياته، فكل ناحية من نواحيه مدعاة للفساد ومجلبة للمفسدين ويبرز ذلك كأشدّ ما يكون فيالنّظرة إلى الحكم،فالعلمانيون يعتبرونه غنيمة تبذل من أجل الفوز به الأموال الطائلة لشراء الذّمم وتُسخّر كل الإمكانيات للظفر به أو للتأثيرفي من بيده الأمور لأنّ الحاكم عندهم إنما هو أجيريخضع لتأثير القويّ ولتوجيهه وبذلك تشكّل هذه النظرة بابا كبيرا للفساد ومساحة مهيّأة لتسرّب المال السياسي الفاسد.
أما عند المسلمين في المجتمع الإسلامي فالنظرة الى الحكم تختلف كل الاختلاف عن تلك التي يصوّرها النظام العلماني اذ يعتقد المسلمون بأنّ الحكم أمانة ومسؤوليّة فمن أقامه بحقّه كانت له القربى عند الله واستحقّ رضاه وأما إن لم يؤدّه على وجهه وسار فيه على غير أمر الله تعالى فمآله الخزي والندامة يوم القيامة. إنّ النّظرة إلى الحكم عند المسلمين تحمل مفهوم العبادة فالتنافس من اجل الظفر به ليس من أجل تحقيق مصالح ذاتية او فئويّة كما في النظام العلماني بل من اجل طلب رضا ربّ العالمين لا غير وقد نهى سبحانه وتعالى عن جعل المنافع أساسا لبيعة الخليفة،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌأليمٌ: رجلٌ على فضل ماءٍ بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجلٌ بايع رجلًا بسلعةٍ بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه، وهو على غير ذلك، ورجلٌ بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفَى، وإن لم يُعْطِه منها لم يَفِ).
إن النظام الديمقراطي بكل مفاهيمه يمثّلا خطرا على البشريّة،إذ هو أصل كل الشرور في العالم، وانّ الإسلام هو دين الرحمة وهو دين الأمنوالأمان. وان مسؤولية إنقاذ البشرية إنما هو موكول للمسلمين وهو أمانة في أعناقهم. وانّ الله سبحانه وتعالى لسائلنا عن ذلك، فاللهم يسّر لنا إقامة شرعك وحمل دعوتك.