آن الأوان لتحطيم الصنم

آن الأوان لتحطيم الصنم

    منذ ما يقارب القرنين ظلت بلادنا، تونس، كحال أغلب بلاد الإسلام، تتفلّت من بين أيدي أبنائها، وتقع فريسة تنهشها أنياب كلاب ضارية، تحت وقع صراع وحشي لقوى أوروبية تتنافس فيما بينها على بسط النفوذ وعلى الاستئثار بالغنائم. أتى كل ذلك بعد أن استفحل فينا الضعف الفكري والسياسي، فتصدعت جبهتنا الفكرية والثقافية والسياسية أمام هجوم الأفكار التي استحدثها الغرب الكافر بعد انفلاته من هيمنة الكنيسة وتحرره من رجال الدين، وسيطرت طبقة البورجوازيين على الحكم في أوروبا.

    وعلى وقع الهجوم الفكري والسياسي والاقتصادي الذي كان يقوده المبشرون والمستكشفون والتجار، تحت رعاية وتوجيه سفراء وقناصل دولهم الأوروبية ورجال مخابراتهم، بدأت تتشكل طبقة من الحكام ظهرت عليهم ملامح فكرة الانفصال عن الدولة العثمانية بوصفها الدولة الإسلامية، والاتجاه نحو تلك الدول الأوروبية التي بدأ تأثيرها على الأوضاع في بلادنا يبرز ويتعاظم، وخضوع الحكام للتدخلات الأجنبية بدأ يتجلى أكثر وأكثر، يستمدون من تلك العلاقات دعما لسلطانهم ونفوذهم، استقواء بالأجنبي على إمامهم ودولتهم، تحت التأثير المتعاظم للقناصل الأجانب والتدخل الخارجي غير الخفي. وقد تشكلت حول أولئك الحكام طبقة من التجار و”رجال الأعمال” ارتبطت مصالحهم الأنانية بنظرائهم الغربيين، بل أصبحوا يستمدون سلطانهم ونفوذهم من التمكين للأجنبي على حساب أهلهم وبلدهم.

ومما فاقم الخطر على البلاد وأفقدها بوصلتها، بوصفها بلادا إسلامية يجب أن لا يسوسها إلا الإسلام، نشوء بطانة سوء حول الحكام من “المشايخ والعلماء” زينت لهؤلاء الحكام سوء أفعالهم، بإصدار الفتاوي، والتأصيل لخياناتهم لله ورسوله أمام عجز المخلصين منهم التصدي لتلك الخيانات، حتى استطاعت القوى الأوروبية الكافرة استصدار أمر من باي تونس، حينها، يمكن للاقتصاد الأوروبي من أن يتسرب إلى البلاد التونسية، كتمكين الوافدين على بلادنا من أن يحترفوا سائر الصنائع مثل أهل البلاد ولا فضل لأحدهم على الآخر، وإعطاء الرّعايا الأجانب امتيازات كبرى كحقّ شراء الأراضي والاستقرار النهائي بالبلاد التونسية.

وباحتلال البلاد وزرع علمانية التعليم وإنشاء المدارس والمعاهد القائمة على مناهج التعليم الفرنسي اللائكي، واعتماد اللغة الفرنسية في تعليم أبناء النخبة، وتمكين خريجي هذه المدارس والمعاهد من المناصب العليا في الدولة والمجتمع، وحرمان خريجي التعليم الزيتوني منها، رغم حرص القائمين على التعليم الأهلي تأصيل الناشئة وتربيتهم على التمسك بهويتهم العربية الإسلامية وتثبيت روح الإيمان في نفوسهم، ومدهم بالعلوم الصحيحة، فقد عمل الاستعمار على تغييب كل ذلك، وإخماد صوته سواء بالقوة أو بصياغة برامج تستجيب لرغباته في تأبيد بقائه، مما مكن لإيجاد وسط سياسي وفكري وثقافي منبهر بأفكار المستعمر وثقافته ولا يرى الحياة إلا من خلال وجهة نظر ذاك الكافر المستعمر، يحتل مناصب الحكم والتسيير.

اتخذ هذا الوسط السياسي والثقافي وأرباب المال، الذي تربى على عين الكافر المستعمر، موقف العداء الشرس من الإسلام كمبدأ وطراز حياة، وصار تعامله مع نمط العيش بالإسلام كعدو يجب معاداته، وعدم السماح له بالرسوخ في ثقافة المجتمع، واتخذ من موقفه ذاك استراتيجية ثابتة، ينكر على من ينادي بوجوب الدعوة لاستئناف العيش بالإسلام، ويجرّم كل من يدعو إلى إعادة بناء المجتمع على أساس وجهة نظر الإسلام ومفاهيمه عن الحياة، حتى غدت فكرة فصل الدين عن الحياة والنظام الديمقراطي الرأسمالي الناشئ عنها صنما يعبد من دون الله، رغم ما تشاهده العين المجردة من المآسي والضنك الذي جرته وجهة النظر تلك ونظامها على البشرية.

 ومع انفجار الأهل في تونس، ثورة ضد هذا النظام، وانتشارها في عالمنا الإسلامي وبلوغ صداها أرجاء المعمورة، والمناداة بإسقاط هذا النظام، ونحت شعار لهذه الثورة العالمية: “الشعب يريد إسقاط النظام” والذي لن يتخلى عنه الثائرون وقادتهم إلا ببلوغ الثورة مداها، فإن الغرب الكافر المستعمر بمكره، والنبت النكد للفكر والثقافة الرأسمالية بيننا، تًنادًى لوأد هذه الثورة. وحين عجز عن بلوغ مأربه ولم تلن له قناة الأمة، ولم يعد الناس يأبهون لحكامهم، أُتي بقيس سعيد في محاولة يائسة لتضليل الناس عن قضيتهم ورسالتهم في الحياة، بعد أن استعصى ذلك عن كامل الوسط السياسي. فتحت أمام قيس سعيد الأبواب وأطلقت يده يفعل ما يشاء. لكن الفشل والخسران سيكون محتما للجانه الحلزونية وخارطة طريقه، وستكون وعوده للناس بالفرج سرابا خُلّبا، فهو لا ينازع خصومه أفكارهم ومناهجهم، فكلهم ينهلون من نفس المعين، الفكر الديمقراطي العلماني، وإنما هو ينازعهم شهوة الحكم، والاستعداد للخدمة.

وعلى هذا يقع على عاتق الأمة وقواها الفاعلة الحية، عبء تغيير هذا الواقع، وإسقاط ذلك الصنم، وذلك باسترداد إرادتها بقطع دابر كل أفاك، وافتكاك المبادرة من أعداء الإنسانية وذلك بإقامة دولة الحق والعدل، الخلافة على منهاج النبوة.

 وإننا لا نعني بقوى الأمة الفاعلة الحية:

      ــ الأحزاب السياسية على كثرتها، فهي ليست حية إذ اتخذت من فكر الضلال، فكر العدو المستعمر، أداة حرب على نور الله وشريعته السمحاء. ولا هي فاعلة إذ لا ثقل حقيقي لها في الناس، بعد أن انقطاع الرجاء منهم.

      ــ منظمات “المجتمع المدني” بأصنافها، فهي منبتّة عن المجتمع وعن همومه وقضاياه بل هي حرب عليه، بتبنيها فكرا ثبت بالدليل العقلي فساده وخطره على البشرية. وهي أداة من أدوات النظام الاستعماري، لارتباطها به عملا وفكرا وتمويلا.

      ــ اتحاد الشغل، تحديدا، بكل تمثيليته الزائفة لقطاع هام من المجتمع، إذ لا يعدو إلا أن يكون وسادة هوائية ابتدعها النظام الرأسمالي لترقيع عورات نظامه يحركها، كلما تعطل سيره وبدأ الناس ينتبهون إلى جرائمه. أما نطام الإسلام فلا يحتاج إلى نقابات تطالب بحقوق المظلومين، ولا يسمح بتواجدها فالحلول في طبيعة العقود المبرمة بين العامل وصاحب العمل، وفي القضاء الشرعي كفاية حين التنازع.

إلا أن خطابنا يشمل جميع أفراد الأحزاب السياسية، ومنظمات “المجتمع المدني”، واتحاد الشغل، بوصفهم من أبناء هذه الأمة ويقع عليهم فرض حمل الدعوة إلى إقامة شرع الله كسائر الأمة.

أما الذي نعنيه بقوى الأمة الفاعلة الحية ف:

     ــ ذوي المكانة في أقوامهم ومن له رأي فيهم، وأُولي العزم فيهم، ومن حباه الله برئاسة الناس.

     ــ العلماء والأئمة الخطباء ومن جعلهم الناس قدوة لهم في دينهم.

     ــ رجال الأعمال وأرباب المال ومن حباه الله بنعمه فكانت له سلطة على منظوريه.

     ــ رجال الفكر والثقافة والأساتذة الجامعيين ورجال القانون.

     ــ أهل قوتنا وركن منعتنا ومن لنا عليهم حق نجدتنا وفرض حماية بيضتنا، والذود عن عقيدتنا وشريعة ربنا.

كل هؤلاء يقع عليهم فرض تحطيم ذلك الصنم الذي غرزة بيننا وفي عقول أبنائنا عدو لا يرقب فينا إلا ولا ذمة. يقول الحق تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين (51)

أ, عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
Share This