آيات المواريث: حين يجتمع القطع والإحكام والتفصيل..

آيات المواريث: حين يجتمع القطع والإحكام والتفصيل..

حدّث أبو ذرّ التّونسي قال: إنّ ما يميّز مبادرة السبسي الدّاعية إلى المساواة في الميراث بين الجنسين ـ عدا وقاحتها وصفاقتها وجراءتها على الله ورسوله وأحكامه وتشاريعه ـ هو ذلك الكمّ الهائل من المغالطات وتلك الشّحنة القويّة من الاستخفاف والاستبلاه للشعب التونسي المسلم الأبيّ…

فبعد أن كان “البجبوج” حريصا على إلباس جريمته جبّة الإسلام وتمريرها عبر “القنوات الشّرعية” وإخراجها مخرج الاجتهاد والتأويل والمقاصد تضليلاً للرّأي العام ومداراة للمشاعر الإسلاميّة، إذا به وقد اصطدم بالرّفض الشّعبي الكاسح لتقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة يتخلّى عن ذلك الرّداء الشرعي الشفّاف الذي يخفي عورة استهدافه الصّريح لحدٍّ من حدود الله… فقد برّر السّبسي مبادرته الأخيرة في المساواة بين الجنسين في الإرث على قاعدة التّناصف بأنّ ذلك (لا يُعَدُّ مخالفًا للدّين لأنّ الإرث ليس مسألة دينيّة في الإسلام وإنّما يتعلّق بالبشر والله ورسوله تركا المسألة للبشر للتصرّف فيها بحسب ما يرون)… وهو خطاب فضّ وأرعن يقطُرُ علمانيّةً ووقاحةً وينهلُ دون تحفُّظ من المدرسة اليعقوبيّة اليساريّة الفرنسيّة التي تنكر الدّين وتفصِلُه عن الحياة وتُقصيه عن أنظمة المجتمع وتقصُرُه على الطّقوس التعبُّديّة وتزُجُّ به في غياهب المعابد والمقابر…ومثل هذا الخطاب المستفزّ لم يجرؤ عليه بورقيبة نفسه الذي رضع العلمانية من ثدي (جان دارك) مباشرة، فتحاشى طيلة حياته استهداف أحكام الميراث واعترف بأنّ (هاذيكا فيها نصّ) ثم مات وفي قلبه غصّة أنّه لم يجد شبه دليل يُمكّنه من تحقيق حلمه…كما ولم يجرؤ عليه الرّهط التسعة الذين حبّروا تقريراللجنة المذكورة، فلم يُنكروا أنّ المسألة منصوص عليها شرعًا بآيات محكمة وقطعيّة، وقُصارى ما ادّعوه أنّ قطعيّة النصوص مقاربة بشريّة وليست حقيقة مطلقة وأنّ الفقهاء المسلمين اجتهدوا تاريخيًّا في العديد من الأحكام القطعيّة…

حريّة الاختيار..؟؟

وقبل البتّ في المصادر الرئيسيّة نعرّج على مغالطتين مسمومتين حفّتا بها لتهوين خطبها على الشعب المسلم وتمرير سُمّها الزُّعاف في دسم الأوهام والمصروف اللّغوي السخيّ… المغالطة الأولى هي اعتبار أنّ مبادرة السّبسي قد ضمنت للشعب التونسي حق الاختيار بينها وبين أحكام المواريث الشرعيّة فلم تتصادم بالتالي مع عقيدته الإسلاميّة وما رسخ في وجدانه، وهو كلام متهافت مردود شرْعًا وواقعًا: فهذه المبادرة عمليًّا تخيّرُ العلمانيّين بين المنظومتين الوضعيّة والشرعيّة وتحفظ لهم حقّهم في مخالفة الشّرع، بينما تُلزمُ المسلمين بأحكام الكفر وتجبرهم عليها في جميع الأحوال…فمجرّد جعل أحكام المواريث الشرعية محلّ اختيار مع الأحكام الوضعيّة هو تحاكم للطّاغوت، إذ لا يجوز للمسلم شرْعًا أن يختار بين حكم الله وحكم البشر لقوله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)…وبذلك فالتونسي المسلم إذا خضع لهذا القانون يكون قد خالف الشرع واحتكم إلى الكفر ولو اختار المنظومة الإسلاميّة…

أمّا على مستوى التّطبيق فإنّ حريّة الاختيار هذه مجرّد ادّعاء ينفيه الواقع وتكذّبه الممارسة: فهي حريّة شكليّة ظاهريّة فحسب لأنّ السّبسي جعل من مبادرته هي الأصل والمبدأ في المواريث أمّا الإسلام فهو فرع وهامش…ومن تبعات ذلك أنّه من لم يعبّر عن رغبته في تقسيم ميراثه وفق الشّرع ولم يقم بالإجراءات القانونية حال حياته وقبل مماته فإنّ تركته تُقسّم بالتناصف، وكذلك الحال بالنّسبة لمن يُتوفّى قبل بلوغ سنّ الرّشد (18 سنة) لأنّه يعدّ فاقدًا للأهليّة…وهي كلّها إجراءات إداريّة بيروقراطية معقّدة قد تغيب عن البعض ـ لاسيّما الأمّيون والمرضى وكبار السنّ ـ أو يتكاسلون عنها فيفاجئهم الموت قبل القيام بها مع رغبتهم في الاحتكام إلى الشّرع…كما أنّ المبادرة تركت إمكانيّة الرّجوع عن الاختيار مفتوحة يمكن للشخص التّراجع عنها متى شاء، وتركت باب الطّعن القضائي فيها مفتوحًا على مصراعيه حتّى بعد موت المورّث خاصّةً إذا كان اختياره في مرحلة متقدّمة من العمر أو في مرض موته أو بتأثير أبنائه الذّكور…والبقيّة تُترك (للقضاء النّزيه)…

إنصاف للمرأة..؟؟

المغالطة الثانية هي الادّعاء بأنّ المبادرة ستنصف المرأة وترفع عنها الظّلم وتعطيها حقّها وتحسّن من وضعيّتها بما سيعود بالنّفع على الأسرة والمجتمع… بمعنى أنّ الله تعالى غير عادل ولا منصف ظلم المرأة وغمطها حقّها بينما السّبسي أعدل وأعلم من الله سيصلح بمبادرته هذا الخطأ ويساوي بين الرّجل والمرأة (هكذا…) وهو ادّعاء وقح ظاهر البطلان: فالله هو الخالق وهو المدبّر (ألا لهُ الخلق والأمر) والتشريع من خواصّه وصلاحيّاته (إن الحكم إلاّ لله) وهو أدرى بحقوق مخلوقاته (ألا يعلم من خلق وهو اللّطيف الخبير)…وإنّ قاعدة التّناصف (الماتيماتيكيّة) القائمة على منطق (الففتي ـ ففتي) ظالمة عمليًّا للمرأة وغير منصفة حسابيًّا لها: فتوريث المرأة نصف ميراث الرّجال ليست قاعدة مُطّردة مطلقة في كلّ المجالات، فمن ضمن (34) حالة هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف ميراث الرّجل، بينما في الحالات الثلاثين الباقية ترث المرأة إمّا مثل الرّجل أو أكثر من الرّجل أو ترثُ هي ولا يرث معها الرّجل، وذلك لاعتبارات اقتصاديّة واجتماعيّة وأسريّة دمويّة تقوم أساسًا على درجة القرابة وموقع الجيل الوارث وأعباء تكاليف كل طرف في الأسرة…

فهذا التّقسيم الربّاني للتّركات كلُّه حكمة وعدل وإنصاف ورحمة لكلا الجنسين، والإسلام منظومة متكاملة تؤخذ في كُلّيتها، وكونها أعطت الرّجل ضعف المرأة في تلك الحالات الأربعة فذلك نظير واجب الإنفاق على الأسرة الموكول للرّجل والذي أُعفيت منه المرأة حتى وإن كانت ثريّة…وبذلك تكون مبادرة السبسي قد غمطت المرأة حقّها في الثلاثين حالةً الباقية وأجبرتها على العمل والمشاركة في نفقات البيت نظير التّناصف في الحالات الأربعة، بل مكّنت الزّوج من رفع قضيّة إهمال عيال في حقّ زوجته إن هي امتنعت عن المشاركة في مصاريف الأسرة…هذا فضلاً عن كون المبادرة مشروعًا ملغّمًا وخطيرًا ومفتوحًا على الفتنة والتّقاطع التّدابر يُضعضع أركان المجتمع ويُضعف تماسُكه ويعصف ببناء الأسرة ويُحدث فيها شُروخًا لا تندمل بما ينجرُّ عنه من قطع أرحام وضغائن وأحقاد بين الإخوة والأخوات خاصّةً والورثة الذكور والوارثات الإناث عمومًا…

الشمول والكمال

نأتي الآن إلى المصادرة الأساسية التي برّر بها السبسي مبادرته: فالادّعاء بأنّ الإرث ليس مسألة دينيّة في الإسلام وأنّه شأن متروك للبشر خاضع لأهوائهم ومصالحهم لا يعكس جهل السبسي وزمرته بالإسلام والأحكام الشرعية ـ فقد كان دعا بنفسه وعلى لسان لجنته إلى الاجتهاد في أحكام المواريث ـ بقدر ما يعكس رغبة في تكريس مفهوم يعقوبي فرنسي للدّولي المدنيّة، متطرّف حتّى بالمنظور الأوروبي، ينكر الدّين إجمالاً ويفصله كليّة عن الدّولة ولا يرى له أيّ موقع فيها…وهو ادّعاءٌ لا يصدُق حتّى في حقّ المسيحيّة وهي مجرّد ديانة روحّة كهنوتيّة قائمة على بعض التّعاليم، أمّا الإسلام فهو عقيدة أي فكرة كليّة لم تترك كبيرة ولا صغيرة في الحياة وما قبلها وما بعدها إلاّ أحصتها وصبغتها بصبغتها وأعطت حكمها فيها…وهو مبدأ في الحياة تمامًا كالرّأسمالية والشيوعيّة أي عقيدة عقليّة ينبثق عنها نظام بفكرته وطريقته، وهو بصفته تلك يتميّز أوّلاً بالشمول: إي أنّه منظومة حياة كاملة متكاملة تعالج علاقة الإنسان بخالقه (عقائد + عبادات) وعلاقته بنفسه (أخلاق + مطعومات + ملبوسات) وعلاقته بغيره (معاملات + عقوبات)…كما تتميّز ثانيًا بالكمال: أي الاكتفاء الذّاتي وعدم النّقصان وعدم الاحتياج إلى غيره من الشرائع والأفكار، يقول تعالى (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) ويقول (ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكلّ شيء) ويقول (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا)…هذا هو لسان حال الشريعة الإسلاميّة: التّمام والكمال والرّضوان اللّدني الرّباني، استغرقت الحياة واختزلتها في أحكام التكليف الخمسة (واجب ـ حرام ـ مكروه ـ مندوب ـ مباح) بحيث ليس هناك شيء أو فعل في الحياة إلاّ وله في القرآن الكريم والسنّة المشرّفة إمّا دليل أو علامة أو أمارة أو قرينة تُحيل على حكمه شرعًا وتُصنّفُه ضمن حُكمِ من أحكام التّكليف الخمسة، لا نستثني من ذلك أحكام المواريث بوصفها جزءًا لا يتجزّأ من علاقة الإنسان بغيره (معاملات)…

القطع والإحكام

على هذا الأساس ما كان للشريعة الإسلاميّة المتّسعة والمتميّزة بالشمول وبالكمال أن تغفل عن أحكام المواريث أو أن تكِلها إلى عقول البشر واهوائهم: فالمال مالُ الله ونحنُ مُستخلَفون فيه، قال تعالى (وأنفقوا ممّا جعلكم مُستخلَفين فيه)…وكما بيّن لنا صاحب المال ومالكه الأصلي كيف نتصرّف فيه حال حياتنا، فقد بيّن لنا أيضًا كيف نقسّمه على ورثتنا بعد مماتنا: فقد خصّ الله تعالى المواريث بأحكام عديدة استغرقتها وفصّلتها بدقّة وبيّنتها بكلّ وضوح… أمّا العمود الفقري لهذه الأحكام من حيث الكثافة التعبيريّة والشحنة الدّلاليّة فيتمثّل في الآيات (11-12-13-14) من سورة النّساء ومطلعُها قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين)…فقد اجتمع فيها ـ دون غيرها من آي القرآن ـ القطع والإحكام والتّفصيل مع التّأكيد والتّغليظ والتّحذير والوعيد، بحيث صيغت من لدُن حكيم خبير ـ شكلاً ومضمونًا و أسلوبًا وتعبيرًا ودلالةً ـ لبيان الأحكام بدقّة متناهية وتوضيحها وتفصيلها وتدقيقها بشكل يرفع عنها كلّ التباس ويُقيم بها الحُجّة ويُعذرُ الله تعالى حتّى عُدّت من المعلوم من الدّين بالضّرورة… وفي بيان عظمتها ومكانها من الشّرع يقول الإمام أبو بكر بن عربي (اعلموا أنّ هذه الآيات ركن من أركان الدّين وعُمدةٌ من عُمَد الأحكام وأُمٌّ من أمّهات الآيات): فهي آيات قطعيّة الدّلالة لا تقبل التّأويل ولا تحتمل إلاّ المعنى الواحد المقصود منها ، كما أنّها مُحكمة غير منسوخة قولاً واحدًا ومعانيها لا تحتمل مفهوم المخالفة…أمّا عن شحنتها الدّلاليّة فهي من الكثافة والتركيز والتدقيق بمكان بحيث استغرقت المواريث بالتفصيل الذي يُقصي أيّ إمكانيّة للّبس أو الخلط أو الإبهام أو الغموض ويُجلي المعنى المقصود ويُبيّنُه بوضوح في مختلف أوضاعه وحالاته… وقد شمل هذا التّفصيل الورثة (أولادكم ـ ذكر ـ أنثى ـ نساء ـ أمّ ـ إخوة ـ أزواج ـ أخ ـ أخت ـ أبويه…) والأنصبة والمقادير ( النّصف ـ الرّبع ـ الثّلث ـ السّدس ـ الثُّمُن ـ الثّلثان…) كما شمل الوضعيّات (فإن لم يكن له ولد ـ فإن كان له إخوة ـ فإن كان لهنّ ولد ـ فإن لم يكن لكم ولد ـ رجل يورث كلالةً ـ من بعد وصيّةٍ يوصى بها أو ديْنٍ…)

التّأكيد والتّحذير

ولم يكتف الله تعالى بهذا التّبيان والتّوضيح الضافي الشافي، بل أردفه بالتّأكيد والتّغليظ والتحذير والوعد والوعيد بشكل مُركّز قلّ نظيره في القرآن الكريم: فقد تكفّل الله سبحانه بنفسه بتفصيل المواريث وبيانها ولم يوكل أمرها لأحد من البشر بمن فيهم الأنبياء (يوصيكم الله ـ فريضةً من الله ـ وصيّة من الله) وذلك بخلاف سائر الأحكام الشرعيّة التي تكفّلت السُنّة النّبوية بتفصيل مجملها أو تخصيص عامّها أو تقييد مُطلقها، حتّى أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لم يزد عن القول (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله)…وقد نسب الله تعالى هذا التّقسيم للمواريث إلى عِلمه وحكمته وحِلمه (إنّ الله كان عليمًا حكيمًا ـ والله عليم حليم) في إشارة منه إلى أنّ العقل البشري عاجز عن فهم الحكمة من هذا التّقسيم وتبيُّن وجه الحقّ والعدل فيه (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيُّهم أقرب لكم نفعًا)…كما جعل الله قسمته تلك حدًّا من حدوده (تلك حدود الله) وبذلك تصبح مشمولةً بآيات الحدود جميعها (تلك حدود الله فلا تعتدوها ـ تلك حدود الله فلا تقربوها ـ ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه…) ثمّ استعمل أسلوب المراوحة بين التّرغيب والتّرهيب والوعد والوعيد، فرغّب في الالتزام بأحكام الميراث (ومن يُطع الله ورسوله نُدخله جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) وحذّر المخالفين لأمره وشدّد عليهم وتوعّدهم بالويل والثّبور بأسلوبٍ فريد في القرآن الكريم: فقد حصَرَ آيات الميراث المذكورة بنارين، فبدأهنّ بقوله (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلمًا إنّما يأكلون في بُطونهم نارًا وسيصلَوْنَ سعيرًا) وختمهُنّ بقوله (ومن يعصِ الله ورسولَهُ ويتعدّ حدودهُ نُدخلهُ نارًا خالدًا فيها وله عذابٌ مُهين)…ولم يكتف تعالى بذلك بل عاد في آخر آيةٍ من سورة النّساء وذكّر بنصيب كُلٍّ من الذّكر والأنثى مُنوّهًا بعلمه اللّدُنيّ مُحذّرًا من مُخالفته بما يُؤدّي إلى الضلال المُبين (وإن كانوا إخوةً رجالاً ونساءً فللذّكر مثل حظّ الأنثيين يُبيّن الله لكم أن تضِلّوا والله بكلّ شيء عليمٌ)…فأين السبسي من كلّ هذا بين يديّ الله..؟؟

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This