أبعاد تصاعد الخلافات في النظام الجزائري
بينما تصاعدت في هذه الآونة وتيرة الضغط على الجيش الجزائري كي يتدخل لفرض التغيير السياسي على خلفية الوضع السياسي المتأزم في البلاد بسبب غياب الرئيس، جاء رد المؤسسة العسكرية قوياً ومباشراً وحاسماً على من يطالب بذلك، كما ورد في افتتاحية العدد الأخير من مجلة “الجيش” تحت عنوان “جيش لا يحيد عن مهامه الدستورية”، وذلك على لسان الفريق أحمد قايد صالح قائد أركان الجيش: “سيظل جيشنا جيشاً جمهورياً ملتزماً بالدفاع عن السيادة الوطنية وحرمة التراب الوطني، حافظاً للاستقلال، جيشاً لا يحيد أبداً عن مهامه الدستورية مهما كانت الظروف والأحوال”. أي أن “الجيش لن يقوم بانقلاب عسكري”. فيما تولى رئيسُ مجلس الأمة عبد القادر بن صالح ورئيس المجلس الشعبي الوطني السعيد بوحجة (رئيسا البرلمان بغرفتيه) مهمةَ الرد على من يستعجل تطبيق المادة 102 من الدستور التي تقضي بإزاحة بوتفليقة من منصبه بسبب مرضه وعجزه وطول غيابه وعدم قدرته على تسيير شؤون الحكم في البلاد، حاملين بقوة على خصوم الرئيس ومشككين في نوايا أصحاب هذا التوجه، ومتهمين هؤلاء الخصوم بدفع البلد نحو المجهول.
إلا أن الفراغ الذي أحدثه مرضُ الرئيس وانسحابه كلياً – أو غيابه ولو جزئياً – عن ساحة التأثير أثار شهيةَ الحكم والسيطرة لدى كل من رئاسة هيئة الأركان، وكذلك في محيط الرئيس، سعى كل منهما لاستغلاله في تعزيز موقفه والتموقع داخل هذه العصبة المرتبطة سياسياً بالإنجليز وكسب النفوذ من خلال لعبة التمسك بـ”فخامة الرئيس” وتأييد وتنفيذ برنامج الرئيس، حياًّ أو ميتاً وهو ما جعل قائدَ الأركان يسعى مبكراً إلى كسب التأييد لتعزيز نفوذه بدعم مجموعته ورفاقه والمحسوبين عليه مصلحياً وجهوياً في مؤسسة الجيش. وهو ما تسبب في إيجاد قطبين متصارعين متنافسين بقوة على النفوذ والزعامة ضمن زمرة بوتفليقة نفسها.
وبالرغم من كل التجاذبات السياسية حول تفعيل المادة المذكورة 102 من الدستور الجزائري الجديد (88 سابقاً) التي تحكم حالةَالشغور في أعلى هرم السلطة في الجزائر، فإن زمرة بوتفليقة المرتبطة بالإنجليز كانت قد نجحت من خلال انتخابات 2014م الرئاسية في تمرير وتكريس التمديد لبوتفليقة إلى غاية 2019م. كما أن حكومةَ عبد المالك سلال (السابقة) كانت قد “نجحت” أيضاً في إجراء الانتخابات التشريعية يوم 04/05/2017م رغم المقاطعة الكبيرة والعزوف غير المسبوق، حيث كانت نتائجُها صادمةً ونسبةُ المشاركة فيها متدنية. إذ أظهرت أن أكثر من ثلثي المسجلين في القوائم الانتخابية هم من المقاطعين.
كما أشارت مصادر متعددة أن مؤسسة الجيش التي أبدت تذمراً واضحاً من أداء الحكومة ووزرائها الفاسدين كانت نزلت في ذلك الاستحقاق بأوامر لعناصرها بالانتخاب من خلال الورقة البيضاء! وهو ما عكس حالة الامتعاض لدى قيادة أركان الجيش تجاه المتنفذين في محيط الرئيس كما في رئاسة الحكومة والوزارات ومما آلت إليه الأوضاع في البلاد. إذ كان المحيطون بالرئيس من جميع الأطراف الفاعلة من أمثال سلال وبوشوارب وحداد وغيرهم خلال سنواتٍ عديدة، وحتى ممن سبقوهم كعمار سعداني وشكيب خليل (وزير الطاقة الأسبق) وشركائهم والمقربين منهم ومن أرباب الأعمال الموالين لهم (وهم ألوف)، بل حتى من الطرف الآخر المدعوم من فرنسا من النافذين في منظومة الحكم من الجنرالات وشركائهم من رجال الأعمال وأبنائهم وأشقائهم، قد تورطوا جميعاً في نهب المال العام بشتى الوسائل والطرق، ومن ذلك سرقة العملة الصعبة من الخزينة العمومية عبر البنوك من خلال تحويل العملة في التجارة الخارجية عبر الاستفادة من الفارق الكبير بين سعر العملة الأجنبية في السوق (الموازية) وبين السعر الرسمي في بنوك الدولة، وعبر تهريب المال إلى الخارج والتهرب الجبائي واستثماره في شركات وبنوك الدول الغربية بل وتأسيس شركاتٍ هناك في الخارج. ومن خلال الاستيراد غير المحدود لكل أصناف السلع والبضائع والمستهلكات من الصين ومن شتى بقاع الأرض، ومن خلال القروض والصفقات المشبوهة والرشاوى في الشراكة الأجنبية ومشاريع الاستثمار الزائفة والوهمية في الصناعة والزراعة.
وإذ تسبب هذا النزيف في الوصول سريعاً اقتصادياً إلى حافة الهاوية وسياسياً إلى الخطوط الحمراء مع نفاد صندوق ضبط الإيرادات ومع انهيار أسعار النفط إلى ما دون 50 دولاراً وتقلص الريع وتراجع احتياطات البلد من العملة الأجنبية إلى نحو 100 مليار دولار بحسب أرقام بنك الجزائر، جيء بعبد المجيد تبون رئيساً للحكومة في منتصف شهر 5/2017م، وهو الرجل الإداري الذي يفتقر إلى الحنكة والمناورة السياسية في معالجة ملفات منظومة حكمٍ وسلطة متعفنةٍ فاسدة تقوم على توافق بين أجنحة لها نفوذ في كافة مؤسساتِ وأجهزة دولةٍ أطرافـُها متصارعة ومرتبطة بالأجنبي!! يذكر أن فاتورة الاستيراد في الجزائر كانت تجاوزت 60 مليار دولار (سنوياً) مع نهاية 2014م.
وقد جيء بـتبون من أجل “ترتيب” الوضع والحد ولو جزئياً من نهب المال العام وترشيد النفقات ومن تغول المال الفاسد، إذ مهمته كانت محددة بأمرين اثنين هما: (1)ضبط ومعالجة ملف الاستيراد و(2) إعادة النظر في ملف الدعم الحكومي لأسعار الطاقة والمنتجات الاستهلاكية الآتية من الخارج. وذلك تحسباً لما سيفرضه منطقُ التوازنات المالية وحتميةُ ضبط الميزانية في السنوات المقبلة، تفاديا للعجز في الميزان التجاري وحفاظاً على الاستقرار في منظومة الحكم القائمة في البلد، لضمان مصالح لمستعمِر الأوروبي وضمان مصالح الزمر النافذة في الدولة! إذ في حالة استمرار العجز في الميزان التجاري بالوتيرة الحالية، فإن الجزائر ستكون مجبرةً على الاقتراض واللجوء مجدداً إلى صندوق النقد الدولي مع نهاية العشرية الحالية على أبعد تقدير. وهو ما يعني أن النظام السياسي في البلد سيفقد هامشَ المناورة أمام ضغوط القوى الخارجية الدولية، أي أمريكا تحديداً.
إلا أنه بدا واضحاً أن الوزير الأول الجديد عبد المجيد تبون رغم أنه نشأ سياسياً في أحضان النظام ضمن زمرة بوتفليقة، فإنه لا يتقن المناورة ولا يمتلك الثقافة ولا الحنكة السياسية اللازمة لتسيير الشأن العام في ظروف الصراع السياسي الصعبة والحرجة!. فكان تصريحه بـضرورة “الفصل بين المال والسياسة” أول مطب وقع فيه، فكان أن اصطدمت قراراتُ وتدابير حكومته التي اتخذها في قطاعات مختلفةٍ كالصناعة والزراعة وقطاع البناء والتجارة الخارجية وغيرها.. اصطدمت برفض وغضب المستفيدين من الريع والمنتفعين من المستوردين ومن أرباب العمل (الباترونا) ومَن وراءه من الجنرالات والنافذين في الأوساط السياسية والاقتصادية الذين تعتمد مصالـحُهم على الاستيراد من الخارج، خاصةً من المناوئين في المؤسسة العسكرية لزمرة بوتفليقة المتحكمة في دواليب السلطة في البلاد. نجم عن هذا الرفض سريعاً حراكٌ سياسي أثمر بياناً مشتركاً صدر عن اجتماع نزل الأوراسي في العاصمة بين ممثلي طبقة الشغيلة وممثلي أرباب العمل أُعلن من خلاله، وبطبيعة الحال من منطلق دعم وتنفيذ برنامج الرئيس، البرنامج الذي لم يعد له في الحقيقة واقع على الأرض.
تحرك إثر ذلك سريعاً أصحابُ القرار في قصر المرادية، أي مَن يمارس ويتحرك ويتحدث باسم الرئيس، لتنحية تبون وإبعاده بعد 83 يوماً من تنصيبه تفادياً للتصعيد ومزيد من التأزم والاحتقان – ما ينبئ عن وجود صراع حاد في أعلى هرم السلطة – والإتيان برئيس الديوان في الرئاسة أحمد أويحيى رئيساً للحكومة، وهو رجل النظام العارف بدواليب السلطة والعارف بتركيبة النظام والمطلع على الأمور في الدولة وصاحب الملفات الحساسة في الظروف الحرجة، إذ هو “رجل المهمات القذرة” كما قال هو عن نفسه يوماً, ورغم تلويحه بأيام صعبة آتية ستواجهها البلاد إلا أنه سعى بل سارع إلى طمأنة الجميع من خلال عقد الثلاثية (الحكومة – نقابة العمال – أرباب العمل)، في انتظار ما سوف يُــقْدم عليه من سياسات توافقية وما ستتخذه حكومتُه من تدابير لترشيد النفقات العمومية وإجراءات تقشفية ضرورية تحضيراً للمرحلة المقبلة، التي ستشهد في شهر 11/2017م انتخاباتٍ محلية للبلديات ومجالس الولايات، وانتخاباتٍ رئاسية في 2019م. كما أنه المؤهل لتحضير خطة استبدال الرئيس في حالة (إعلان) وفاته، لضمان “استمرار الدولة” والاستفادة من الريع ومن موارد البلاد وثرواتها مع مَن سوف يأتي بعده.
وفي الأخير يجدر أن نذكِّر بما يجب أن يدركه أهلُ الجزائر وما ينبغي أن يتخذه شعبـُها من مواقف تجاه ما تقترفه هذه الزمر المتسلطة عليه الفاسدةُ المرتبطةُ بالاستعمار، التي تعبث به وبمصيره ومصير أبنائه. فثرواتـُه التي صُرف منها على يد هؤلاء ما يربو على تريليون (ألف مليار) من دولارات النفط والغاز في هذه السنوات الأخيرة، أي منذ مجيء بوتفليقة رئيساً فقط، يبدو أنها ذهبت إلى غير وجهتها الصحيحة! حيث هو الآن (أي الشعب) بحسب القائمين على النظام في البلاد يواجه مجدداً سياسةَ التقشف وظروفاً صعبةً نتيجة انهيار أسعار النفط، بل ويواجه مستسلماً (!!) مصيراً مجهولاً على جميع المستويات!!
إن المخرج من هذه الأنفاق المظلمة، يكمن حصراً في نظام الخلافة – بديلاً حتمياً يمنع تدخلَ الكافر المستعمر في شئون الجزائر وأهلها بل وشئون الشعوب الإسلامية كافة، ويحقق العزةَ والرفعةَ والنماء وكل أصناف الخير للمسلمين جميعاً في دولةٍ واحدة جامعةٍ للأمة في ظل شريعة الإسلام الشامخ
بقلم: صالح عبد الرحيم – الجزائر