أرض بلا سيادة وحكومة منقادة: الفلاحون في قلب الأزمة…
لقد بات من الواضح أن التداعيات السلبية لانتشار فيروس كورونا قد طالت جل الأسواق في العالم بما فيها السوق التونسية، فكل المؤشرات تدل على أن الوضع على درجة كبيرة من الخطورة، وربما تزيد الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في تأزيم الوضع الإقتصادي أكثر فأكثر، وقد أشار الخبير الإقتصادي ووزير المالية الأسبق عبد الحكيم حمّودة في تدوينات سابقة بأنّ “البطالة في تونس سترتفع سنة 2020 من 14,9 في المائة إلى 18,8″، وأضاف بأنّ تونس مُقدمة على إنكماش إقتصادي غير مسبوق، قد يبلغ 3,8 في المائة, كما ذكر أنّ الدولة تحتاج إلى تعبئة موارد ب10 في المائة على الأقلّ من الناتج القومي الخام أي ما يعادل 12 مليار دينار لإنقاذ الاقتصاد.
فقد كانت الإجراءات التي اتخذها الحكومة مسايرة للمعالجات الأوروبية, فكانت لها نتائج متباينة ومتذبذبة بحكم عدد الوفيات والإصابات المتفاوتة من يوم إلى آخر, فلا أحد يمكنه تحديدها, ولكن سلبياتها جلية وظاهرة للعيان, خاصة على قطاع الفلاحة الذي يؤمن سلّة غذائنا وقوت عيالنا..
إذ تأثر الفلاحون وصغار المنتجين من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة للحد من انتشار الوباء, فكان لقطع الطرق ومنع التنقل بين المدن الأثر السلبي على مستوى ترويج المنتوجات الفلاحية التي تعيش عائلات الفلاحين على عائداتها المحدودة, وتعالت عديد التشكيات من الفلاحين والبحارة من ركود منتوجاتهم بسبب إجراءات الإغلاق وما يتعرضون إليه من تعطيل وتضييفات في تنقلاتهم سواء لممارسة أنشطتهم أو للتزود بالمستلزمات أو لتزويد أسواق الجملة بالمنتوجات الفلاحية والبحرية.
وقد انسحبت الأضرار بنسبة كبيرة على الأرياف التي تتكون بنيتها التحتية بالأساس من 80 بالمائة من الضيعات صغيرة المساحة التي لا تتمتع بدعم أو تمويل من الدولة. ومن بقية من الضيعات الكبرى المملوكة للدولة أو الخواص التي تتمتع بدعم حكومي وتعتمد الزراعات المكثّفة والمروية بهدف التصدير أساسا.
كما تدهورت وضعية مربي الماشية بكل فئاتهم, وصارت تكاليف نشاطهم مضاعفة تبعا للارتفاع المتواصل لأسعار الأعلاف المركبة وللنقص الفادح للأعلاف الخشنة وخاصة في مناطق الوسط والجنوب. نتيجة غلق الأسواق الأسبوعية للدواب وللأعلاف الخشنة ونتيجة الصعوبات التي يلاقيها ناقلو الأعلاف من الشمال إلى المناطق الأخرى. وفي هذا السياق نذكر مثلا مدينة بنزرت التي تعتبر من أبرز الجهات المنتجة للأعلاف الخشنة بامتياز, شهد هذا القطاع فيها تعثرا كبيرا أخلّ بعملية البيع بعد إقرار حضر التجوال, فارتفع فيها العرض وقلّ الطلب نتيجة عدم قدوم وتخوف تجار الوسط والجنوب من سحب رخصهم . وتمّ بذلك حرمان قطيع الوسط والجنوب ومختلف الجهات من أعلاف ذات جودة عالية وبأسعار معقولة, ما يعني مباشرة تدهور قطيع الماشية وتلاشيه نظرا لقلّة توفر الأعلاف الخشنة واحتكارها من قبل التجار والسماسرة في أماكن إنتاجها..
وعلى مستوى الإستهلاك الداخلي من المفترض أن يقود غلق قنوات التصدير إلى توفر فائض من المنتجات بعد توجيهها إلى السوق المحلية لامتصاصها، الأمر الذي من المفترض أيضا أن ينجر عنه اختلال بين العرض والطلب بشكل يؤدي في مرحلة معينة إلى انهيار الأسعار، لاسيما وأن الحجر الصحي يحد من الاستهلاك المحلي ويقلص الطلب على عديد المواد الغذائية. قلنا” من المفترض”, ولكن, الواقع أظهر عكس ذلك, إذ بقي حال الأسواق على ما هي عليه من إرتفاع الأسعار.
حالة من الفوضى وتعطّل المصالح والمرافق رافقتها حملات من “مشتريات الذعر”, إذ رافق ظهور الوباء لهفة عامّة على تخزين المواد الغذائية خوفا من عدم توفرها في الأيام القليلة القادمة في الأسواق. وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على إحساس عام بفقدان السند والكيان المنظم للحياة زمن الرزايا, وانعدام تام للثقة في المسؤولين رغم كل رسائل الطمأنة التي يرسلونها في وسائل الإعلام بشكل يومي.
فرغم بلوغ صابة الحبوب للموسم الفارط 24 مليون قنطار، بالرغم مما طالها من حرق وإهدار في المجاري وما أتلفته الأمطار.. إلا أن القائمين على شأن البلاد قالوا إن حاجيات تونس تستوجب استيراد 52 بالمائة من مجموع الإنتاج. وكذا فيما يخص مادة الحليب, فعلى الرغم من وجود اكتفاء ذاتي إلا أنه قطاع مرتبط باستيراد الأعلاف، مثلما هو الحال للبيض واللحوم, اذ أعلن وزير التجارة محمد المسيليني، انه سيتم توريد 60 طن من لحوم الأبقار لتعديل السوق خلال شهر رمضان. كما أعلن وزير الفلاحة والصيد البحري عن التعاقد لتوريد كميات من الحبوب التي تغطي 4 أشهر بالنسبة للقمح الصلب و5 أشهر للقمح الليّن.
وقد تأثرت شركات تصدير المنتجات الفلاحية خاصة على مستوى الأسواق الرئيسية في المبادلات التجارية على غرار الإتحاد الأوروبي الذي وصفته كل الحكومات التونسية ب “الشريك الأوّل” الذي قرر وقف التجارة البينية مع بقية العالم. وكذلك روسيا التي أوقفت تصدير القمح لوقت غير محدد.
ومن جهة أخرى, احتشدت نقابات مختلفة للتباكي على الخسائر الحاصلة للمصدرين وللفئة المنتفعة من عمليات السمسرة العابرة للقارات الذين اكتنزوا من عرق الفلاحين التونسيين ما أودعوه من أموال ضخمة في البنوك الأوروبية, بعد سنين طوال من الانتفاع بالغطاء السياسي والقانوني الذي أتاح لهم فرص الاستعمار الملبوس بثوب الاستثمار, شركات عملاقة مهما ارتفعت نسب خسائرها اليوم فإنه لا يمكن أن يقيسها عاقل بجوعة فرد واحد من أهل البلد وأرضه تخرج من كل الثمر, إذ يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “أيما أهل عرصة أمسوا وفيهم جائع فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله.”
مهما يكن من أمر الإجراءات التي اتبعتها السلطات التونسية لمجابهة وباء كورونا, سواء أكانت عين الصواب أم غير ذلك, فإن الفلاح التونسي لقي منها بالغ الضرر, ولم يرى من الحكومة غير الإهمال والإصرار على إهدار مجهوداته بالتوجه نحو التوريد والاعتماد على المنتوج الذي تستقدمه بالعملة الصعبة, في ضرب مباشر للقطاع وتأكيدا منها )الحكومة( على مواصلة نهج التبعية المذلة حتى في زمن الحجة لكل ما هو محلي.
وإن تونس بلد فلاحي، حباها الله بالخيرات من زيتون وتمور وحبوب وأراض خصبة وشاسعة، ولها من الكفاءات البشرية ما يخولها تثمينها وتحقيق أرقام قياسية في المواد الأساسية كالحبوب والحليب واللحوم وكل ما نحتاجه لتحقيق أمننا الغذائي.
ولكن, لن يكون ذلك إلا بعد التوقّف الفوري عن تسيير شؤون الناس بسياسات منقادة زادت في اتساع الفجوة بين تراكم رأس المال عند حفنة من أصحاب الجشع اللامتناهي والوضعية المأساوية لعامة الناس, وتقاطعت فيها كلّ سبل الكوارث والجوائح, واستوجبت إحلال غضب الله على الناس عامة. فأمسكت السماء عنا ما فيها من قطر وتعطّلت الأرض المعطاءة حتى كاد ينوبنا القحط.
فإن “الدولة” هي كلمة سر النجاح في تخطي كل العقبات والعراقيل التي تحول دون تمكننا من استرداد أراضينا وما حوت باطنا وظاهرا, وهي التي تجنبنا مغبّة الحاجة لباقي الأمم, ولكن أيّ دولة؟
إنها الدولة التي تجعل محور عملها وأساسه, إحلال حكم الله في أرضه وبين عباده لتُخلص المسلمين من التبعية التي ورّطهم فيها العملاء وأنسالهم المتعاقبون, وتُعيد سيادتهم المفقودة على أرضهم منذ عقود. إنها دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. جعّل الله ميعاد عودتها قريبا.
أحمد بنفتيته