أزمة القطاع الصحّي في تونس هل هي أزمة موارد ماليّة… أم أزمة حكم ونظام سياسي؟!
كشف وزير الصحة التونسي سليم شاكر في تصريح لإذاعة “موزاييك” يوم السبت 23 أيلول/سبتمبر الجاري أنّ العجز في ميزانية المستشفيات العمومية بلغت قيمته 770 مليارا من المليمات مما دفع المزوّدين إلى رفض تزويد هذه المؤسسات بالمستلزمات الطبية. وقال الوزير إن ما عاينه خلال الزيارة التي أدّاها مساء الخميس المنقضي إلى عدد من المؤسسات الصحية بالعاصمة دفعه إلى إقرار إحداث خلية أزمة وتكليف فريق بإجراء تدقيق معمّق بمختلف المؤسّسات الاستشفائيّة العموميّة انطلاقا من مستشفى شارل نيكول ليشمل مختلف المؤسّسات الاستشفائيّة الجامعيّة والجهويّة للوقوف على الإخلالات والنقائص.
شكلت المسألة الصحية أحد العناوين الكبرى ”لدولة الحداثة التونسية”، إلا أن “ثورة 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 – 14 كانون الثاني/يناير 2011” أظهرت زيف إحصائيات التجميل التي قدمها نظام بن علي حول النظام الصحي؛ إذ صارت المنظومة الصحيّة العموميّة أحد أبرز عناوين غياب عقليّة الرعاية عن “دولة الحداثة”.
فتعرية الواقع الصحي المتأزم داخل المستشفيات تكتشفه حالما تطأ قدماك باب المؤسسة حيث تعترضك طوابير المرضى ممن أنهكهم الانتظار فافترشوا الأرض بحثا عن راحة يأملون أن تتحقق بعد لقاء لا يتجاوز في غالب الأحيان العشر دقائق مع طبيب غير مختص ليحيلهم على آخر بعد موعد يتجاوز الأربعة أشهر ليصل حدود السنة!
هذا الاكتظاظ المسجل داخل كل الأقسام وبطء العلاج الذي ينتج عنه تعكر حالات بعض المرضى ذوي الحالات الحرجة يضاف إليه نقص الأدوية، إلى جانب فقدان التخصصات الطبية والنقص الفادح في عدد الأطباء والأعوان… زائد البنية التحتية المهترئة.
ورغم صيحات الفزع التي أطلقتها جميع الهياكل ذات العلاقة بالشأن الصحّي، ورغم الشكايات التي وجّهت في الغرض من قبل عامّة النّاس، إلّا أنّ جميعها جوبه إمّا بالتجاهل أو بالوعود الزائفة والمشاريع الوهميّة.
وهو ما عبّر عنه سابقا الكاتب العام للجامعة العامة للصحّة السيد عثمان الجلّولي في مقال نشر بتاريخ 26 تشرين الأول/أكتوبر 2016 “إن الوضع الصحي في المستشفيات العمومية وخاصة منها في المناطق الداخلية تجاوزت مرحلة النقص لتصل حد المؤسسات غير الصحية ومؤسسات خاوية تفتقر إلى أبسط ضروريات الخدمة اللائقة في ظل تجاهل تام من كافة الحكومات المتعاقبة التي حولت الخدمة الصحية من خدمة مجانية إلى خدمة مدفوعة الثمن حتى أصبح المريض أمام واقع جديد ينذر بالخطر، مشيرا إلى أن الحكومات المتعاقبة وعوضا أن تسارع إلى النهوض بهذا القطاع الذي يزداد سوءاً يوما بعد يوم تعمد في كل مرة إلى التخفيض من ميزانية التصرف للمؤسسات الصحية خاصة بالنسبة للخط الأول (المجامع الصحية والمستوصفات)، معتبرا ذلك بمثابة المسمار الأخير الذي يدق في نعش القطاع الصحي العمومي الذي طاله الاستهداف منذ سنوات بنيّة التفويت فيه وخصخصته وتحميل الناس لنفقاتهم الصحية بما يعني تحويل الخدمة الصحية إلى سلعة…”
ونبه الكاتب العام إلى المخاطر التي تحدق بالقطاع من خلال ما تضمنته المشاريع المختلفة لميزانية الدولة سنة 2017 وبرامج وزارة الصحة التي لا تفي وفق تعبيره بالحد الأدنى، إذ لم يستثن من ذلك ما وصفه بالترهل والانحدار للخط الثاني والخط الأول حيث تفتقد هذه المؤسسات في كثير من الحالات إلى الأدوات والمعدات اللازمة على غرار وحدات القسطرة وأقسام القلب والإنعاش والجراحات المختلفة، محذرا من «النزوع نحو الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع العام الأمر الذي ينذر بضرب مرجعية القطاع العمومي وتغيير طابع الخدمة من حق إلى امتياز بالإضافة إلى مساوئ الشراكة على المال العام وعلى العاملين به».
إذن.. أمام هذا الوضع المتردّي نسأل: ما الفائدة من الإجراءات التي اتّخذها وزير الصحّة سليم شاكر في زيارته الأخيرة بـ”تشكيل خليّة أزمة”؟!
والحال أنّ كافّة المعالجات والحلول التي يطرحها الوزير ومن ورائه حكومته – مثلما هو الأمر لجميع الحكومات المتعاقبة – معالجات وحلول مبنيّة على أساس عقليّة النظام الديمقراطي المطبّق، والذي بان عجزه عن رعاية الشؤون، والذي جعل من قطاع الصحّة غنيمة، لا حقّا للنّاس على الدولة.
نقول…
أولا، إنّ قيمة هذا العجز المرتفعة تعكس حجم الأزمة وغياباً كلياً للدولة واستقالتها عن رعاية شؤون الناس ومنها الرعاية الصحية.
ثانيا، إن هذا العجز يأتي في سياق السياسة الممنهجة التي تنتهجها الدولة لضرب القطاع العام وفرض الخصخصة حتى في مجال الرعاية الصحية استجابة لإملاءات الخارج.
ثالثا، مَنْ مِنَ العقلاء يصدّق أن أزمة نظام ومشكلة حكم… ستحلها خلية أزمة لوزير لم يستفق على هذا الوضع المتفاقم منذ سنوات إلا بعد معاينة لمستشفيات العاصمة في المدة الأخيرة؟ وماذا سيفعل لو ألقى نظرة على غياب أبسط مستلزمات الرعاية الصحية في المناطق الداخلية؟
إنّ هذه الحالة الصحية الفظيعة هي انعكاس لنموذج الحكم الحالي في تونس، حيث إنّ الديمقراطية تبيح للدولة التخلّي عن دورها لفائدة القطاع الخاص… ما يتسبّب في تحويل المرضى إلى زبائن، وأصبحت كلفة الرعاية الطبية وأسعار الأدوية فوق طاقة معظم النّاس، فتحول التطبيب إلى تجارة مربحة، وكل ذلك يخدم نخبة صغيرة من الرأسماليين فقط على حساب الملايين من الناس البؤساء!!
وعدا عن أزمة الديون التي تعانيها المستشفيات الحكومية وغيرها من الأزمات، يضرب الفساد قطاع الصحة في تونس أكثر من غيره من القطاعات، وهو ما أظهرته عدة قضايا اختلاس وتزوير وأدوية غير صالحة في السنوات الأخيرة.
وعليه، وأمام عجز الديمقراطيّة التي دان بها “حكامنا”، كان لزاما علينا أن نبيّن الجانب الشرعي في المسألة، والذي يفرض على الدولة في الإسلام توفير الرعاية الصحيّة لجميع الناس التابعين لها، بغض النظر عن العرق أو المذهب أو الجنس أو غيره…
لقد ورد في مقدمة الدستور لحزب التحرير في المادة رقم (125): “أما الصحة والتطبيب فإنهما من الواجبات على الدولة بأن توفرهما للرعية، حيث إن العيادات والمستشفيات، مرافق يرتفق بها المسلمون في الاستشفاء والتداوي. فصار الطب من حيث هو من المصالح والمرافق. والمصالح والمرافق يجب على الدولة أن تقوم بها لأنها مما يجب عليها رعايته عملاً بقول الرسول e: «الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر. وهذا نص عام على مسؤولية الدولة عن الصحة والتطبيب لدخولهما في الرعاية الواجبة على الدولة، وهناك أدلة خاصة على الصحة والتطبيب: أخرج مسلم من طريق جابر قال: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ e إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ». وأخرج الحاكم في المستدرك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: «مَرِضْتُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بِنَ الْخَطَّابِ مَرَضاً شَدِيداً فَدَعَا لِي عُمَرُ طَبِيباً فَحَمَانِي حَتَّى كُنْتُ أَمُصُّ النَّوَاةَ مِنْ شِدَّةِ الْحِمْيَةِ».”
ولتوفير الرعاية الصحية، فإنّ دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة القادمة قريبا بإذن الله تعالى، ستعيد هيكلة جني الإيرادات وفقا لقواعد الشريعة الإسلامية، حيث ستجني عائداتها من الممتلكات العامة مثل الطاقة ومن تصنيع الآلات ومن المنشآت الحكومية مثل المنشآت الكبيرة، ومن الخراج… وستوقف جني الضرائب، مثل ضريبة المبيعات والدخل التي تخنق النشاط الاقتصادي. كما سترفض دولة الخلافة أخذ قروض ربوية من الدوائر الأجنبيّة، والتي تستهلك تونس الآن لتسديدها نسبة هائلة من نفقاتها.
لذلك، فإنّ الخلافة ستسيطر على القطاع الصحي وستوفر الخدمات الصحية بالمجان، كما ستسمح بوجود مرافق صحية خاصة لتوفير الرعاية الصحية من أجل الربح، وبالتالي فإنّها ستوجد التوازن الصحي الذي يوفر الرعاية التامة لكل الرعايا.
وقد ورد في مقدمة الدستور لحزب التحرير في المادة رقم (164): “توفر الدولة جميع الخدمات الصحية مجاناً للجميع، ولكنها لا تمنع استئجار الأطباء ولا بيع الأدوية”، وجاء في شرح المادة: “وأما جواز أن يستأجر الطبيب وتدفع له أجرة فلأن المداواة مباحة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: «يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا». ولأنها أي المداواة منفعة يمكن للمستأجر استيفاؤها فينطبق عليها تعريف الإجارة، ولم يرد نهي عنها”.
ختاما نذكّر الحكّام في تونس…
إن أزمة الحكم، لا يحلها إلا نظام حكم بديل عن الرأسمالية ومنتجاتها التي تسوم الناس سوء العذاب فتتاجر حتى بأمراضهم وأبدانهم، نظام رباني عادل ستطبقه دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة قريبا بإذن الله فيتجسد مفهوم الرعاية الحقة في جميع المجالات.
وأن طريق الغرب الذي سلكتموه بتطبيق أنظمته، هو من سبّب الشقاء للنّاس، وهو سبب البلاء، وهو أصله وفرعه…
فكيف ترضون لأنفسكم أن تبقوا حاجزا أمام الأهل في تونس لينعموا بشريعة الحق والعدل والنّور؟!
قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [سورة النساء: 69]
خبيب كرباكة