أصنام تاريخيّة للتأصيل والمرجعيّة : بورقيبة وبن يوسف نموذجا
حدّث أبو ذر التونسيّ قال :ممّا لا شكّ فيه أن التيّارات العلمانيّة في تونس بكافّة تمظهراتها (ديمقراطية ـ ليبرالية ـ وطنية ـ قومية ـ يساريّة ـ اشتراكيّة ـ متأسلمة) تمرّ بأزمة هويّة وانتماء حادّة توشك أن تعصف بها، فهي في بحثها الدّؤوب عن التّأصيل والمرجعيّة التاريخية تلقي بنفسها في أحضان الزّعماء التّاريخيّين وتدّعي الانتماء إليهم والصّدور عن مدارسهم بشبه الدّليل لتختلق لنفسها عمقا شعبيّا يستر غربتها وانبتاتها عن الأمّة، فمن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل…وقد كنّا رأينا بعض تلك الفقاقيع الحزبيّة والمستوطنات الفكريّة تنسب نفسها زورًا وبهتانًا للمجاهد عبد العزيز الثعالبي وللشّهيد سيّد قطب بل وللصّحابي الجليل أبي ذرّ الغفاري…أمّا أهمّ صنمين تاريخيّين اعتُمدا في الوسط السياسي التونسيّ لتبييض الأزلام والعملاء وتأصيل الأيتام واللقطاء فهما ـ بلا منازع ـ بورقيبة وبن يوسف : ففيما تمسّحت الأحزاب القوميّة والمتأسلمة بصالح بن يوسف بوصفه عروبيًّا إسلاميًّا أصيلاً، لاذت الفقاقيع العلمانيّة واليساريّة برمزيّة بورقيبة بوصفه ـ نظريًّا ـ محرّر البلاد وباني الدّولة الحديثة وناشر التّعليم ومحرّر المرأة…إلخ… وممّا لا شكّ فيه أنّ تاريخ تونس ـ القديم منه والحديث ـ قد حبّرته بعد الاستقلال العصابة البورقيبية بمداد التّغريب والعمالة وأثّثتهُ بما يتّفق مع التّوجهات السياسيّة والأيديولوجيّة (للمجاهد الأكبر) ويخدم طبيعة (النّظام الوطني الرّأسمالي التابع) الذي يروم إرساءهُ، ممّا أفقده أي مصداقيّة علميّة وحوّله إلى حلبة لتصفية حسابات الكافر المستعمر مع انتماء البلاد الإسلامي…على أن هذا المسخ والتّشويه قد طال بالأساس مرحلة (الكفاح الوطني) بما نصّب بورقيبة في المخيال الشعبي التّونسي زعيمًا واحدا أوحد، وأقصى أيّ دور لسائر (الزّعماء والمناضلين) لاسيّما صالح بن يوسف…
هيئة بن سدرين على الخط
في هذا الإطار، يبدو أنّ هيئة بن سدرين للحقيقة والكرامة قد تحوّلت إلى حلبة لتصفية الحسابات بين الفُرقاء السياسيّين والإيديولوجيّين الباحثين عن صنم تاريخيّ يعتنقونهُ : فقد أثارت جلسات استماعها العلنيّة المنعقدة في شهر مارس المنصرم جدلا ولغطا وردود أفعال متباينة ،إذ تضمّنت شهادات حول (مرحلة الكفاح الوطني) شكّكت مُعظمها في نزاهة (زعيم الحركة الوطنيّة) الحبيب بورقيبة و أكّدت على أن دوره في الاستقلال كان (محدودًا) بالنّظر إلى تغييب أطراف أخرى أكثر أهمية وفاعليّة، و(مشبوهًا) بالنّظر إلى علاقته بالمستعمر الفرنسي، و(قذرًا) بالنّظر إلى الانتهاكات والتّصفيات التي اقترفها تجاه خصومه السياسيّين…وتبعًا لذلك دعت بن سدرين إلى إعادة كتابة تاريخ تونس المتعلّق بمرحلة الاستقلال استنادًا إلى الشهادات وأعمال التقصّي التي جمعتها هيئتها…هذا القطع مع القراءة الرسميّة التي تُبوّئ بورقيبة مرتبة الزّعامة والبطولة والقيادة والرّيادة أثارت أيتامهُ ولُقطاءه من بني علمان لاسيّما الحزب الدّستوري الحرّ وحزب المبادرة وحركة مشروع تونس التي اعتبر أمينها العامّ محسن مرزوق أنّ تلك الحركة (عمل إيديولوجيّ حاقد يصبّ في مصلحة طرف سياسي يكره الدولة الوطنيّة العصريّة قبل أن يكره الحبيب بورقيبة)…على أنّ ما ساقته الهيئة من شهادات بوصفها (معلومات جديدة تقطع مع القراءة الرّسمية وتستدعي إعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية)، من قبيل عمالة بورقيبة لفرنسا وتآمره على الفلاّقة وخيانته للثورة الجزائريّة وتصفيته لخصومه السياسيّين وتغييبه للزعامات والمجاهدين…كلّ ذلك يفتقد أوّلاً لعنصر المفاجأة: فهي معلومات مستهلكة تناولتها بحوث وأطروحات علميّة أكاديميّة وارتقت بها إلى مصافّ الحقائق، وقد كنّا نحن شباب حزب التّحرير سبّاقين في كشفها وترويجها …ويفتقد ثانيًا للأهميّة السياسية التي تُؤهّله لقلب معطيات تاريخ الحركة الوطنيّة بما يستنقذه من مستنقع العمالة ويقتضي إعادة كتابته: فكلا (الزّعيمين) يصدُران عن مشروعين استعماريّين معاديين لهويّة البلاد ومُقدّراتها وانتمائها العقائدي والحضاري، يختلفان في الجهة ويشتركان في الارتهان… لذلك ومساهمةً منّا في إنارة الرّأي العامّ نتصفّح من جديد أحداث الصّراع اليوسفي البورقيبي في ضوء شهادات هيئة بن سدرين: فهل في تلك المعلومات من الإضافة ما يدفع إلى إعادة كتابة تاريخ تلك الحقبة أم أنّها مجرّد (كواليس سياسيّة ونميمة حزبيّة) لا تُخرج (الحركة الوطنيّة) من مستنقع العمالة، بقدر ما ترفع أسهم صالح بن يوسف العُروبي المُتأسلم بوصفه (عمشة في دار العميان)..؟؟
صراع استعماري
أواسط خمسينات القرن المنصرم، ركبت كلّ من أمريكا وبريطانيا مبدأ (حقّ الشعوب في تقرير مصيرها) لتصفية الاستعمار القديم وانخرطت في صراع دولي لوراثته بما حوّل المستعمرات الفرنسيّة إلى ساحات لحرب باردة ترتع فيها المخابرات والعملاء…إزاء هذه الوضعيّة وجدت تونس نفسها في مهبّ التبعيّة مرغمةً قسرًا على خيارين أحلاهما مرّ: الخيار الأمريكي القومي العُروبي، والخيار البريطاني الوطني التّغريبي الاستئصالي، وقد مثّل كلّ من الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف ومن سار في ركابهما وقود احتراب بالوكالة بين الإمبراطورية العجوز بريطانيا وأمريكا القوّة العظمى النّاشئة، كما مثّل الحزب الحرّ الدستوري التونسي إطارًا لهذا الصّراع وحلبةً لهُ…ورغم أنّه نشأ في أحضان فرنسا ورضع من ثديها الحقد على العُروبة والإسلام، إلاّ أن الدّاهية بورقيبة آثر أن يراهن على الجواد الرّابح مُنحازًا إلى بريطانيا وعمل على تصفية الوجود الفرنسي بالمرحليّة والتدرّج مُستغلاّ نفوذه في الحزب والكاريزما التي تمتّع بها…أمّا صالح بن يوسف السياسي (الجربي) الشاب الذي يشغل آنذاك خطّة الأمانة العامّة للحزب فقد وجد نفسه مدفوعًا بالنّفس الثّوري العروبي المتأسلم في أحضان أمريكا مُندرجًا في سياق مشروعها المتمثّل في ركوب موجة المدّ القومي لاقتلاع بريطانيا وفرنسا من مستعمراتها في البلاد العربيّة، هذا المشروع الذي تولّى كبر تنفيذه والتّسويق له ميدانيًّا جمال عبد النّاصر في مصر وسوريا واليمن ثمّ في شمال إفريقيا لاسيما الجزائر…وعلى نقيض الخطّة البورقيبية البريطانيّة ارتأى بن يوسف تنسيق المجهودات المغاربيّة أوّلاً ثمّ العربية على المدى البعيد وتوحيد النّضالات وفق شعاره “التّحرير شامل أو لا يكون لنيل الاستقلال التامّ اللامشروط”…وقد حاول بن يوسف (انطلاقًا من مكتب المغرب العربي بالقاهرة) أن يستند إلى رمزيّة عبد النّاصر وزعامته وإلى الرّياح القوميّة التي هبّت على المنطقة العربيّة في تلك الحقبة حتّى يجد لنفسه ولمشروعه بالوكالة موطئ قدم في وسط سياسي تونسي موصد أمام العمّ سام حكر على الإمبراطورية العجوز…
تصادم حتميّ
وبالمحصّلة وجدت تونس نفسها إزاء مشروعين متناقضين متنافرين حدّ الشّطط ـ فكرًا وولاءً ومرجعًا وتصوّرًا وتصميمًا وتنفيذًا ـ فكان لا مناص من التّصادم والصّراع لتحديد (الذّكر المُسيطر) الذي سيتولّى بالوكالة مرحلة ما بعد الاستقلال…وأمام استبشار بورقيبة بعرض الاستقلال الدّاخلي وانخراطه فيه كُليًّا بوصفه (اتّفاقًا إيجابيّا وخطوة عملاقة نحو الظّفر بالاستقلال التّام) وحثّه للمقاومين على النّزول من الجبال وتسليم أسلحتهم عارض بن يوسف تلك الخطّة معتبرًا إيّاها (خطوة إلى الوراء واستقلالاً مزيّفا منقوصًا شكليّاً صوريًّا يعزل تونس عن سياقها القومي الطّبيعي الكفيل بالاستقلال الحقيقي) كما عدّ نضال الشّعبين الشّقيقين الجزائري والمغربي (جزءًا لا يتجزأ من النّضال الوطني التونسي)…وفي خطاب له أمام طلاّب جامع الزّيتونة بتاريخ 7/10/1955 اعتبر بن يوسف أنّ ما أقدم عليه بورقيبة (مؤامرة استعماريّة جديدة واتّفاقية منقوصة تمثّل خطرًا على حرّية تونس وأمنها) حاثًّا المقاومين على مواصلة الكفاح… وقد لاقى موقفه ذاك صدًى كبيرًا بين شرائح واسعة من المقاومين خاصّةً في الوسط والجنوب فامتنعوا عن تسليم أسلحتهم للسّلطات التونسيّة النّاشئة، كما دعّم جماعة الثعالبي والحزب القديم موقف بن يوسف ممّا أحدث انقسامات وانشقاقات في صفوف اتّحاد الشّغل واتّحاد الطلبة الزيتونيّين…ورغم محاولات التّوفيق وإصلاح ذات البين من طرف العقلاء غير الواعين على طبيعة الصّراع فقد انخرط بن يوسف في حملة لتأليب الرّأي العام ضدّ خيارات بورقيبة ولم يتورّع عن اتّهامه (بالخيانة الوطنيّة والكفر والعمالة للغرب والتّآمر على الثورة الجزائريّة والعداوة لكلّ ما يمتّ بصلة إلى العروبة والإسلام) بما يشي باحتدام الصّراع الإنجليزي الأمريكي وينذر بالحلّ الدّموي للخروج من المأزق…
“عمشة في دار العميان”
إلى هذا الحدّ حزمت بريطانيا صاحبة الامتياز في الوسط السّياسي التونسي أمرها لاتّخاذ إجراءات جذريّة كفيلة بحسم الصّراع لصالحها: فانخرطت مع عميلها بورقيبة في تصفية فلول الفلاّقة المتنطّعين، وأزاحت بن يوسف من الأمانة العامّة للحزب الدّستوري ممّا اضطرّه إلى الهجرة والالتحاف بعباءة مصر عبد النّاصر…وقد حاول اليوسفيّون اغتيال بورقيبة أكثر من مرّة مّما اضطرّ بريطانيا إلى ضرب الحركة اليوسفيّة والقضاء عليها، فانهمك النّظام البورقيبي في قمع دموي وحشي لاجتثاث اليوسفيّين بلا شفقة ولا رحمة تُوّج بتصفية زعيمهم صالح بن يوسف نفسه في 12 أوت 1961 ليستتبّ الأمر لبورقيبة ومن ورائه بريطانيا…هذا ما كشفت عنه أطوار الصّراع البورقيبي اليوسفي: صراع عمالات بين رجالات بريطانيا ورجالات أمريكا لا ناقة للشعب التونسي فيه ولا جمل، وبما أنّ التاريخ يكتبه القويّ والمنتصر فكان من الطّبيعي أن يؤثّثه بورقيبة وحده لا شريك له وأن يضرب صفحًا عن إجرامه وخياناته وأن يدرج بن يوسف طيّ النّسيان…وإنّ ما قامت به هيئة بن سدرين ما هو إلاّ إزالة الأتربة وتسليط الأضواء على الجزء المنسيّ من ذلك التّاريخ الذي وإن كان يشترك مع الرّواية الرّسمية في العمالة والمتاجرة بالأمّة وقضاياها ومقدّراتها إلاّ أنّه يتميّز عنها بنفس عروبي إسلامي أصيل يُدرجه في خانة (عمشة في دار العميان) بامتياز دون أن يرقى به إلى مصافّ المعطيات الجديدة الكفيلة بإعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية التونسية…
بسّام فرحات