أضواء على أجهزة دولة الخلافة: مقدّمة عامّة
قرّاء جريدة التّحرير الأفاضل: نعتزم فيما يلي إحداث ركن نقدّم فيه أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة لتبسيطها وتقريبها من تصوّر المتلقّي بشكل واضح العبارة يسير الفهم عمليّ التّطبيق رفعا لكلّ التباس يمكن أن يعلق في الأذهان حول الدّولة الإسلاميّة ومشروع حزب التّحرير: فممّا عمّق الهوّة بين الأمّة ومشروعها غياب النّموذج الإسلامي من الواقع وتشويهه في الأذهان في مقابل ازدهار النّموذج الغربي وتجسُّده في أبهى صوره ووقوع المسلمين أسرى مغناطيسه الزّائف..وقد اهتبلها الكافر المستعمر أرضيّة خصبة بثّ فيها سمومه وأمعن في تضليل المسلمين وحرفهم عن طريقة الإسلام المخصوصة في الوجود لإجهاض مشروعهم واغتصاب سيادتهم وسلطانهم وتأبيد تبعيّتهم وارتهانهم له..فكان من أصعب الأشياء تقريب واقع منظومة الحكم في الإسلام من هذه الأذهان المضلّلة المضبوعة العاجزة عن الانعتاق من ربقة ما تعيشه وتمارسه وتخضع له من أنظمة ديمقراطيّة فاسدة، فلا تملك إلاّ أن تقيس غائب منظومة الحكم في الإسلام على شاهد المنظومة الديمقراطيّة العفنة..هذا القياس المغلوط نحا بالدّولة الإسلامية ـ أنظمة وأجهزة ومؤسّسات ـ نحو التّماثل بل التّماهي مع طراز الدّولة الدّيمقراطية ـ واقعا وصلاحيّات ـ رغم التّنافر المشطّ بينهما شكلاً ومضمونًا..ومن يستكثر على الإسلام نظام حكم ودولة متميّزة من باب أولى أن ينكر على تلك الدّولة أجهزة خاصّة مختلفة عن سائر النّظم المعروفة، لاسيما إذا كانت أدلّتها شحيحة أو غير صريحة أو غير قطعيّة في ثبوتها أو في دلالتها، وهذا مكمن الإشكال..لكلّ ذلك فقد ركّزنا على أجهزة الحكم في دولة الخلافة ليصبح شكلها واضحا مدركا في الأذهان قبل أن يكون ـ بإذن الله تعالى ـ واقعا ماثلا للعيان..
الدّولة والعقيدة
ممّا لاشكّ فيه أنّ العقيدة الإسلاميّة عقيدة سياسية روحيّة متّصفة بالشمول والكمال: فهي تختزل في ذاتها مبدأ ومنظومة عيش لم تترك جليلاً ولا حقيرًا في شؤون الحياة والحكم إلاّ أحصته وفصّلته (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)..فنظام الحكم في الإسلام متفرّد مختلف كل الاختلاف عن سائر أشكال الحكم التي عرفتها البشريّة سواء في الأساس الذي يقوم عليه أو المقاييس والأحكام التي ترعى بمقتضاها الشّؤون أو في الدّستور والقوانين المطبّقة أو في الشكل الذي تتمظهر به الدّولة الإسلاميّة.. وذلك لأنّ فلسفة الحكم في الإسلام متميّزة عن سائر الفلسفات السياسية :فنظام الحكم في الإسلام ـ أوّلاً ـ منبثق عن العقيدة الإسلاميّة في كلّ كبيرة منه وصغيرة، وهو ـ ثانيًا ـ قائم على قواعد أربعة لا يضاهيه فيها نظام آخر: (السّيادة للشرع ـ السلطان للأمّة ـ نصب خليفة واحد فرض على المسلمين ـ للخليفة وحده حقّ تبنّي الأحكام الشرعيّة). وكون العقيدة الإسلاميّة أساس الدولة يفترض أن يتمثّل هذا الأساس في كلّ شيء يتعلّق بوجودها وشؤونها دقّ أو جلّ :فلا يجوز أن يكون لدى الدّولة أيّ مفهوم عن الحياة أو الحكم إلاّ إذا كان منبثقا عن العقيدة الإسلاميّة (ديمقراطيّة ـ قوميّة ـ وطنيّة ـ اشتراكيّة) ولا أن يوجد في حكمها أيّ مفهوم ملكي أو امبراطوري أو جمهوري، وقس على ذلك دستورها وقوانينها ومحاسبتها، فالدولة وأنظمتها وتشاريعها محصورة تحديدًا بما انبثق عن أساسها الذي قامت عليه ألا وهو العقيدة الإسلاميّة ويحرم شرعًا مخالفة ذلك الأساس.. وينسل ممّا سبق أيضًا أنه لا يجوز أن يوجد في أجهزة الدّولة الإسلاميّة مؤسّسات بمفهوم مخالف للإسلام شكلا ومضمونا ومحتوى ومواصفات وصلاحيّات :فأجهزة دولة الخلافة مختلفة متميّزة بالضّرورة عن أجهزة النظم المُتعارفة ـ وإن تشابهت في التّسمية وبعض الشّكليّات ـ وذلك لاختلاف فلسفة الحكم والخلفيّة العقائديّة التي قامت عليها الدّولة وأُرسيت عليها تلك الأجهزة..
الأجهزة والعقيدة
فالعقيدة الإسلاميّة وطبيعة الأحكام الشّرعيّة المنبثقة عنها هي التي تتطلّب وتملي وتفرض مؤسّسات مخصوصة متفرّدة تختزل مجموع المفاهيم والمقاييس والقناعات التي قام عليها المجتمع الإسلامي وتكرّسها وتترجمها عمليّا في الواقع فلا يمكن أن توجد وتتحقّق وتتجسّد في الحياة إلاّ عبر تلك المؤسّسات..هناك علاقة جدليّة حيويّة ترابطيّة متينة بين عقيدة الدّولة ومنظومة حكمها وأجهزتها: فالأجهزة هي المؤسّسات والهياكل التنظيميّة والأطر الإداريّة التي يقوم عليها نظام الحكم ويعتمدها في رعاية شؤون النّاس وفق ما تمليه عليهم عقيدتهم، وهذا يقتضي ـ أوّلاً ـ أنّ شكل الأجهزة ومضمونها وطبيعتها وصلاحيّاتها ومواصفاتها وشروط القائمين عليها تفرضه العقيدة الإسلاميّة. كما يقتضي ـ ثانيًا ـ أنّ تلك الأجهزة هي وحدها التي تمكّن السلطة من رعاية شؤون منظوريها على أساس العقيدة الإسلاميّة، فهي القناة الشرعيّة والوحيدة التي يتجسّد بها الإسلام عمليّا في الواقع..فأمير الجهاد مثلا أو دائرة علم وخبر أو مصلحة التّابعيّة أو مصلحة أهل الذمّة لا يمكن أن توجد إلاّ في دولة الإسلام، كما أنّ مجلس الأمّة في الإسلام ليست له صلاحيّة التشريع، والوزارة ليست بواقع وصلاحيّات أنظمة الحكم الدّيمقراطيّة ،وقس على ذلك سائر الأجهزة. من هذا المنطلق فإنّ أجهزة الدّولة الإسلاميّة يجب أن تحدّد مواصفاتها بعمليّة اجتهاديّة صحيحة وتؤخذ من الأجهزة التي أقامها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عندما أسّس الدولة الإسلاميّة في المدينة، ويحرم شرعًا اعتماد مؤسّسات بالمعنى الدّيمقراطي أو الشيوعي أو الملكي أو الامبراطوري أو الاتحادي.. فهيكل أجهزة دولة الخلافة تشريع واجب الاتباع وأحكام شرعيّة من أحكام الطريقة وليس مجرّد وسائل وأساليب أملاها الواقع يمكن أن تختلف باختلاف الزّمان والمكان والظروف..
أجهزة دولة الخلافة
وباستقرائنا لنصوص السّيرة النبويّة المتعلّقة بتأسيس الدّولة الإسلاميّة في المدينة نتبيّن بجلاء أنّ أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة هي 13 جهازا: ثلاثة منها للحكم المحض (الخليفة ـ معاون التّفويض ـ الوالي ومنه العامل) وجهاز خاصّ بالشّورى والمحاسبة (مجلس الأمّة ـ مجالس الولايات) وجهاز خاصّ بالقضاء (قاضي القضاة ـ قضاء المظالم ـ قضاء الخصومات ـ قضاء الحسبة).. أمّا البقيّة فأجهزة إداريّة محضة على غرار: وزير التّنفيذ ـ دائرة الحربيّة (أمير الجهاد ـ رئيس الأركان ـ أمراء الألوية ـ قادة الفرق ـ مدير شرطة الجيش) ـ الأمن الدّاخليّ (مدير دائرة الأمن الدّاخليّ ـ أصحاب الشّرطة) ـ الصّناعة (مدير دائرة الصّناعة ـ مدراء المصانع الحربيّة ـ مدراء المصانع الثّقيلة ـ مدراء مصانع المواد الإلكترونيّة) ـ بيت المال (خازن بيت المال ـ أمناء دواوين الواردات ـ أمناء دواوين النّفقات ـ مصرف الدّولة) ـ الخارجيّة (مدير دائرة الخارجيّة ـ السّفراء والقناصل ـ المبعوثون الدبلوماسيّون ـ مدير دائرة الاتّفاقات والمفاوضات) ـ الإعلام (مدير مصلحة الإعلام ـ مدير دائرة علم وخبر ـ مدير دائرة الأخبار الاستراتيجيّة ـ مدير دائرة الأخبار العامّة) ـ مصالح النّاس ويضمّ مديريّ مختلف المصالح (التّعليم ـ الصحّة ـ المواصلات ـ الاتّصالات ـ العمل ـ الرّيف والريّ ـ التّطوير العلميّ والتّكنولوجيا ـ الثّروات والمعادن ـ الطّاقة والكهرباء ـ النّفط والغاز ـ الأراضي ـ الغابات والمراعي ـ التّابعيّة ـ أهل الذمّة..). والملاحظ أنّ الجهاز الإداريّ بوصفه أسلوب إدارة، ومصالح النّاس بوصفها متجدّدة متطوّرة فقد وقع تحيينها وإخضاعها لمقتضيات العصر ومتطلّباته، فهي قائمة غير مغلقة بل قابلة للتنقيح والزّيادة والنّقصان والإدماج..
دولة افتراضيّة
سنقوم في هذا الرّكن بتفصيل هذه الأجهزة ـ واقعا وطبيعة وشكلا وشروطا ومواصفات وصلاحيّات ـ رائدنا في ذلك أن نبرهن لقرّائنا الأفاضل أمرين أساسيّين: أوّلا: أنّ حزب التّحرير يمتلك مشروعا سياسيّا مبدئيّا إسلاميّا مبلورا مفصّلا واضحا في كليّاته وجزئيّاته وأدقّ تفاصيله ،بخلاف سائر الفقاقيع الحزبيّة التي تؤثّث الأوساط السياسيّة في العالم الإسلاميّ، فهي طفيليّات غير مبدئيّة من جنس الواقع العفن تفتقر لمشروع سياسيّ وتحوم حول المنظومة الرّأسماليّة الديمقراطيّة في نسختها التّابعة المرتهنة رأسمالها السياسيّ يُختزل في ارتياد السّفارات وتلقّي التّعليمات والتّمويلات.. ثانيا: أنّ دولة الخلافة الإسلاميّة التي يدعو لها حزب التّحرير ليست خيالا يداعب الأحلام ولا رغبة تستأثر بالنّفوس عن هوى ولا شعارا أجوف فضفاضا يُرفع من باب الشّعبويّة والمزايدة السياسيّة، بل هي دولة افتراضيّة كاملة شاملة جاهزة نظريّا لا ينقصها حال قيامها إلاّ وضع الرّجل المناسب في المكان المناسب.. وهذا ديدن حزب التّحرير في ثقافته ومشروعه: ينتهج القاعدة العمليّة الذّهبيّة (فكر يتبعه عمل من أجل غاية في جوّ إيمانيّ) والله المستعان وعليه التّكلان..
أ, بسّام فرحات
CATEGORIES بطاقات خاصة