لا يزال السياسيون وأهل القرار في بلد الزيتونة يعيشون تحت خط الفقر السياسي في جميع تصرفاتهم في شؤون الناس ويظهر هذا جليا في الاحتفالات التي تقام في بلادنا بما يسمى مهرجان الفرانكفونية. وقد انطلقت فعاليات الأيام الفرانكفونية بتونس من يوم الأربعاء 06/03/2019 وتواصلت إلى غاية 24/03/2019، وذلك بتنظيم مجموعة من الأنشطة الثقافية والفنية والندوات وحلقات النقاش التي تضم عددا من الدول الفرانكفونية في العالم، وذلك بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للفرانكفونية الموافق ليوم 20 مارس من كلّ سنة.
الفرانكفونية أو الديك المذبوح
لا شك أن الموقع السياسي لفرنسا على الساحة الدولية قد تغير كثيرا عما كان عليه في السابق ف”فرنسا اليوم” ليست “فرنسا الأمس” والدليل على هذا عنتريات رئيسها الغر ماكرون أمام الولايات المتحدة الأمريكية والتي يتبعها في كل مرة باعتذار أو تأويل حتى لا يثير غضب الدولة الأولى في العالم لأنه يدرك حقيقة ما قد يفعله “ترامب المتعجرف” لا فقط في فرنسا وإنما في القارة العجوز عن بكرة أبيها.
إن الديك الفرنسي (شعار تعتز به فرنسا) قد هرم وشارف على الهلاك لولا بقية من فتات المساعدات الأمريكية.. ورغم أن أنف هذه الدولة قد مرغ في التراب إلا أنها تمارس دور القوة على تونس (تسردك علينا بالمثل التونسي) فتفرض علينا الاحتفال بالفرانكفونية لمدة شهر مع احتضان قمتها في العام 2020 لتذكرنا دائما بألم الاستعمار الذي لم يندمل جرحه. وبالطبع لا يمر هذا الخزي والعار إلا تحت أيدي طبقة سياسية خانت الأمانة (أمانة الحكم) وأياد مرتعشة لا تمارس السيادة على أرضها ونخبة مازالت تحت تأثير “الصدمة الحضارية”.
خسارة النفوذ السياسي والثقافي
لقد خسرت فرنسا نفوذها السياسي والاقتصادي في تونس لصالح المستعمر البريطاني وهي اليوم تخسر مجددا معركة النفوذ اللغوي والثقافي, وبقدر ما يزداد الحضور الانجليزي “فتوّة” و “قوّة” بقدر ما يمرض الوجود الفرنسي في السياسة واللغة, وتزداد شيخوخة ثقافتها هرما. ولعل كساد البضاعة الثقافية الفرنسية وانحسارها أمام ما تشهده الثقافة الإسلامية من اختلاج في صدور الشعب وإقبال بدا ظاهرا في عديد المناسبات هو ما يفسر تشبث الرئيس الفرنسي ماكرون برئيس تونس صاحب العقلية السياسية الهرمة المهيأة لقبول المشاريع البالية والسلع القديمة (الأنتيكا) لإعادة إيجادها في واقع حياة الناس, وذلك بتسخير كل مقدرات الدولة المالية والإعلامية, وتجنيد المراكز الثقافية والأماكن العامة على ذمة الرهن الاستعماري.
الدجل الفرنسي أو الأعور الفرانكفوني
وكانت مديرة المعهد الفرنسي بتونس “صوفي رينو”، قد أعلنت في ندوة صحفية عُقدت يوم الثلاثاء 5 مارس بمدينة الثقافة، عن برنامج الأيام الثقافية التي سيعقبها احتضان تونس للقمة الفرانكفونية خلال السنة القادمة.
وبيّنت مديرة المعهد الفرنسي بتونس أنّ برنامج “خريطة العالم” يهدف إلى تسليط الضوء على التنوع الثقافي واللغوي للدول الفرانكفونية، من أجل تعزيز القيم الكونية المشتركة.
تحاول فرنسا الضحك على ذقون الناس بتمرير مشاريعها السياسية من خلال قنطرة الفرانكفونية التي تسمح حسب زعمها بنشر روح التعددية اللغوية والثقافية وتوهم الناس أن الرابطة الدولية للفرانكفونية ليست إلا مجالا للتقدم والرقي فتبدي على لسانها من الأحلام الوردية ما تبطن في صدرها من الأطماع الاستعمارية في حين أن الأمة تعلم اليوم أن “النفعية” و”الماكيافلية” و”الغاية تبرر الوسيلة” وغيرها من الأفكار السياسية هي المحرك الأساس للدول الغربية في العالم, وخصوصا التي تشهد ضعفا في موقفها السياسي الدولي. وكأن التاريخ لم يسجل الإرهاب الثقافي واللغوي الذي كانت تمارسه فرنسا ولا زالت على الشعوب فتفرض لغتها وقيمها على المستعمرات بقوة الحديد والنار. والتاريخ شاهد كيف أن فرنسا سعت إلى طمس معالم الثقافة الإسلامية من خلال فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية وإدخال اللغة العامية على المناهج التربوية فكانت النتيجة جيلا مغتربا “مشوه الفكر مسلوب الإرادة يخدم المحتل بطواعية وحتى دونما وعي منه بذلك.
ولعل أرشيف التاريخ الفرنسي يذكرنا ب”الطريقة المباشرة” ل”إيرني كاري” أو “بيداغوجيا الازدواج” ل”لويس ماشويل” اللذان كانا يدفعان تحت أنظار القرار السياسي الفرنسي إلى تحقيق الاستلاب الفكري تمهيدا للاستلاب الاقتصادي. يقول ايرني كاري “من واجبنا ومصلحتنا تلقين حضارتنا لشعوب المستعمرات وإن نشر لغتنا هي الوسيلة الأكثر إلحاحا والضمان الوحيد لبلوغ هذه النتيجة”.
المستقبل لأولاد المستعمرين والتخلف لأولاد المسلمين
تعلم اللغة الانجليزية يعني نجاح الطالب الفرنسي والدولة الفرنسية سوف تتحمل نفقات كل طالب يرغب في اجتياز امتحانات اللغة الانكليزية أو هكذا صرح الوزير الفرنسي ادوارد فيليب على صفحة حسابه على التويتر وهو هنا كسياسي مسئول عن الأجيال الصاعدة يدرك مكمن المستقبل الأفضل لأبناء فرنسا ويدرك تماما أن الفرانكفونية لا تصلح لعالم اليوم ويشعر أن الفرنسي لا بد وأن يعيش مستقبلا أفضل, في حين أن خطاب ماكرون في زيارته لتونس كان على العكس تماما إذ قال “الفرانكفونية ليست مشروعا قديما بل هي مشروع مستقبلي فتحدث اللغة الفرنسية يعد فرصة حقيقية على المستويات الاقتصادية والثقافية”. هذه الازدواجية ليست غريبة عن العقلية الغربية وساستهم فمواصفات سيارة الأوروبي مثلا ليست هي نفسها سيارة العالم المتخلف وقس على ذلك.
ولو كانت الفرانكفونية فرصة فلماذا لا يدرسها الغرب لأبنائه. وقبل أن تقنعنا فرنسا بالفرانكفونية فلتقنع أبناءها أولا وقد رفض أبناؤها لغتهم الأم لعجزها عن مواكبة العالم كما رفض أبناؤها أفكارها بعد أن تبين لهم شؤم الديمقراطية و”السترات الصفراء” التي لا يسكن لهيبها في شوارع الحرية المزعومة تغنينا عن كل دليل. وصدق من قال “لو كان البومة فيها خير ما يخلفوها الصيادة”.
ومن أحسن من الله حكما…
لا شك أن المناوشات بين فرنسا وبريطانيا تحصل من حين لآخر من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من “كعكة تونس” ( على حد تعبير المهدي جمعة أيام كان رئيس حكومة) ولا شك أن جيوش التاج البريطاني وضباط الجمهورية الفرنسية يتفقون على إزاحة الإسلام من الوصول إلى الحكم وهذا هدف استراتيجي لا تختلف عليه قوى الغرب شرقا وغربا, ولكن المؤلم أن تكون أرض الصراع هي بلاد المسلمين بأدوات محلية تضعنا في كماشة “قدرية سياسية” تخيرنا بين شكسبير أو فولتير من أجل تركيز الحضارة الغربية وفتح المستوطنات الفكرية الخبيثة وإحياء الفرانكفونية المحنطة بدماء آخر مسلم. ويكفينا لدفع هذا “الشر الاستعماري” أن نقف وقفة رجل واحد, ففرنسا تستنجد بمقدرات بلادنا من أجل ضخ الدماء في جثة الفرانكفونية وتعول على تونس لتكون رأس حربة في مشروعها هذا. ونفهم من هذا أنها بالفعل تحتاجنا لتحقيق مآربها السياسية كما تحتاجنا لتوفير قوت سكانها وبنزين سياراتهم كما تحتاجنا لاستغلال مياهنا الإقليمية وممراتنا البحرية وتحتاج أيضا لأجوائنا حتى تعبر طائراتها بسلام إلى مقاطع الذهب واليورانيوم بمالي. إذ مكامن القوة عندنا وليست عندهم فيكفي أن نقف ونقول لا ونمتلك قرارنا السياسي, فتونس لا ينقصها المال وإنما تنقصها أمانة الرجال.