إلغاء (الأبارتايد) في جنوب إفريقيا  توبة وتكفير واعتذار أم التفاف وتبييض واستثمار..؟؟ 2/1

إلغاء (الأبارتايد) في جنوب إفريقيا توبة وتكفير واعتذار أم التفاف وتبييض واستثمار..؟؟ 2/1

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: في مثل هذا الشهر من سنة 1998 صدر تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا مُعفيًا دهاقنة الفصل العنصري من مسؤوليّتهم عن التمييز ضدّ السّود وانتهاك حقوق الإنسان ـ في مفارقة عجيبة ـ ولكن إذا عُرف السّبب بطُل العجب: فقد عرفت السياسة الدّولية إثر الحرب الكونيّة الثانية آليّة جديدة في التّعامل بين الدّول والشعوب التي تتقاسم ماضيًا استعماريًّا أو عُبوديًّا مشتركًا ـ هي آليّة الاعتذار ـ وتتجسّد وفق المعادلة التّالية: الاعتراف بالجرائم فالتّعويض المادّي للضّحايا ثمّ ردّ الاعتبار لهم وفتح صفحة جديدة معهم (وطاح الكاف على ظلّو)…وكان من الواضح في حينه أن هذه الحركة تتنزّل في إطار سعي القوى المتنفّذة آنذاك إلى تصفية الإرث الاستعماري القديم ورسكلته وإعادة تدويره لصالحها، ثمّ إزاحة المعرقلات التي تحول دون استقرار الخارطة السّياسية الجديدة للعالم بصورتها المفروضة في مؤتمر يالطا حُدودًا وإيديولوجيةً وولاءات…أمّا باكورة هذه الآليّة والحدث المؤسّس لها فهو الاعتذار الألماني لليهود الذي توسّع فيما بعد ليشمل أوروبا فالعالم أجمع، ثم اعتُمدت لرأب الصّدع بين ثنائيّات أخرى من قبيل: اليابان/أمريكا والسّود/البيض في جنوب إفريقيا، لتشمل مؤخّرًا إيطاليا/ليبيا وفرنسا/الجزائر دون أن ننسى الاعتذار الأمريكي لأحفاد العبيد…ولئن أظهرت بعض الدّول ليونة في الانصياع لهذه الآلية على غرار إيطاليا التي قدّمت تعويضات سخيّة واعتذر برلسكوني بنفسه من نجل الشّهيد عمر المختار…فإنّ دولاً أخرى استكثرت على مستعمراتها السّابقة مجرّد حركة رمزيّة عن عقود الإذلال والاستغلال على غرار موقف فرنسا من إرثها المشين في الجزائر…أمّا جنوب إفريقيا فقد عمدت إلى ركوب تلك الآليّة والاستثمار فيها وتوظيفها للتفصّي من جرائمها عبر الالتفاف حول الاستعمار والاستعباد والعنصريّة والمزايدة على بعض شكليّاتها وأعراضها دون المساس بكنهها وجوهرها…

في الاعتذار

إنّ فهم وتبرير هذه المواقف التي تبدو ظاهريًّا متباينة يقتضي استعراض مفهوم الاعتذار في الاصطلاح الشرعي، ثم النظر في واقعه كآليّة سياسيّة ـ منشأً وتطبيقًا ـ انطلاقًا من النّماذج الحديثة…فالاعتذار عن الذّنوب والتّوبة منها هو كما بيّنه حجّة الإسلام الغزالي (معنى ينتظم من ثلاثة أمور مُرتّبة تقتضي بعضَها: علم فحال ففعل) : أمّا العلم فاقتناع بفداحة الجرم المقترف، يُولّد حالة نفسيّة من الأسف والنّدم وعقدة الذّنب، تُفضي بدورها إلى فعل يتمثّل في العزم على الإقلاع والتّكفير بالجبر والاعتذار…فهل يتطابق هذا المعنى مع الاصطلاح السّياسي..؟؟ أي هل أنّ النماذج المتحقّقة تنسلُ حقيقةً من هذه الخلفيّة المشاعريّة النّفسية وتعبّر فعلاً عن رغبة صادقة في تجاوز أخطاء الماضي ،أم أنّ وراءها حسابات سياسيّة مشبوهة..؟؟ للأمانة التّاريخية فإنّ آليّة الاعتذار هي صناعة يهوديّة صهيونيّة صِرفة، استُخدمت في شكل بلطجة سياسيّة مستندة إلى أساطير وافتراءات لإخضاع الغرب ثمّ البشريّة قاطبة إلى ابتزاز مادّي ومعنوي عبر إذكاء عقدة الذّنب تجاه (الهولوكوست) المزعوم وجعله بمثابة الطّقس التّعبدي المفروض بسلطة اللّوبيات اليهوديّة والماسونية وسيوفها المشرّعة في وجوه السياسيّين والمفكّرين والمناضلين من قبيل اللاّسامية والإرهاب…أمّا باقي الأمثلة التي تحقّقت فهي في معظمها اعتذارات باهتة مصطنعة (صفراويّة) من منطلق مصلحي براغماتي ضيّق أملتها طبخات سياسيّة أو اقتصادية أو أمنيّة جنى ثمارها الجاني المعتذر لا الضّحية المُعتذر منها…

بين التّنظير والممارسة

فقد فتح الاعتذار الإيطالي أبواب ليبيا وأسواقها مشرّعة أمام الاستثمارات والبضائع الإيطالية وأمّن لها احتياجاتها من الطّاقة في خضم الأزمة الاقتصادية العالميّة… ومكّن الاعتذار للسّود في جنوب إفريقيا الأقلّيات البيضاء من التفصّي من جرائم (الأبارتايد) بأخف الأضرار مع مواصلة السّيطرة على دواليب السّياسة والاقتصاد واحتكار المناصب والثّروات…أمّا الاعتذار السّنوي المفروض على اليابانيّين، فهو استعراض أمريكي وقح للقوّة وجلد ياباني ذليل للذّات يحمّلها مسؤوليّة فظاعات الحرب العالميّة الثانية ويؤبّد هزيمتها ويُبرّئ مَن اقترف في حقّها أبشع جريمة حرب بقصفها بقنبلتين نوويّتين أتتا على نصف مليون نسمة…وقس على ذلك اعتذار أمريكا لمواطنيها السّود الأفارقة عن أخطاء العبوديّة: فهو مجرّد مناورة سياسية ذات طابع عنصري للتخلّص من عبء تاريخي ثقيل بأقلّ التكاليف عن طريق إفراغ الاعتذار من محتواه والتفصّي من تبعاته كونه صادرًا عن رجل أسود (أوباما) لأبناء جلدته…وحتّى قانون تعويض ضحايا التّجارب النوويّة الذي صادق عليه مجلس النواب الفرنسي (2009)، فإلى جانب تأخّره نصف قرن فهو مجعول للاستهلاك الدّاخلي استجابةً لضغوطات قدماء الجيش الفرنسي المحليّين، أمّا مفعوله الخارجي فهزيل ومقصور على مناطق معيّنة ومكبّل بمعايير صارمة تقصي معظم الضحايا الجزائريّين والعرب من دائرة التعويض…

جنوب إفريقيا نموذجًا

إنّ التركيبة السكّانية والحراك العقدي الثقافي في جنوب إفريقيا يُعدّ أرضية خصبة للعنصريّة ويرشّح هذا البلد إلى أبشع أنواع الفصل العنصري ألا وهو (الأبارتايد)… فإلى جانب العرقيّة السوداء المحليّة المتكوّنة من (الزّولو + البانتو) استوطن المنطقة منذ القرن 17م مهاجرون أوروبيّون (كالفينيّون) ذوو أصول هولنديّة وفرنسيّة وألمانيّة، وقد عُرفوا باسم (البوير) ثم (الأفريكان) لاحقًا…والكالفينية فرقة متطرّفة من المذهب البروتستانتي طُردت من أوروبا بعد حرب المائة عام لأنّها ترفض التعايش مع غيرها من المذاهب والفرق المسيحية فضلاً عن الأديان والشعوب والعرقيّات الأخرى…وخلال القرن 19م حلّ الاستعمار البريطاني على المنطقة بما يجُرّه وراءه من كِبر وبَطَر وعنجهيّة وبراغماتيّة، وسرعان ما استقدم معه العمالة الرّخيصة من الهنود والباكستانيّين ـ مسلمين وسيخًا وهندوسًا ـ بما حوّل جنوب إفريقيا إلى بركان هادر من العرقيّات والثقافات، وبرميل بارود يوشك أن ينفجر…ومع أنّ نشأة الفصل العنصري تُنسب عادةً إلى الحكومة الأفريكانيّة البيضاء، إلاّ أن ذلك النّظام يُعدّ عمليًّا من تركة الاستعمار البريطاني الذي نظّم منذ القرن 19م حركة السّود في مستعمرتي (الكاب + ناتال) من مناطقهم القبليّة إلى المناطق التي يحتلّها البيض بشكل يحظُرُ عليهم ارتيادها ويُقيّد انتقالهم من منطقة إلى أخرى ويمنع تواجدهم في شوارع المدن بعد حلول الظّلام ويوجب عليهم حمل تصريح المرور في كلّ الأوقات…فكانت هذه هي الرّحم التي اعتمل فيها نظام الفصل العنصري ومنها وُلدَ…

في الأبارتايد

أمّا عن الأبارتايد، فهو حالة متفرّدة من العنصريّة الرّسمية الصّريحة المتميّزة بطبيعتها المؤسّستية والمترجمة حقوقيًّا بالنصوص القانونيّة والدّستوريّة كأساس علني لسياسات الدّولة العموميّة في مختلف مناحي الحياة…وتعني كلمة (الأبرتايد) في لغة الأفريكانو (فصَلهُ ونَبَذهُ ووضعه جانبًا) بما يُحيل عليه ذلك من معاني الدّونية والتهميش والإقصاء والإلغاء والاحتقار والازدراء…وقد ساد هذا المفهوم أدبيّات الحياة السّياسية في جنوب إفريقيا أواسط أربعينات القرن 20م وتولّي الحزب الوطني اليميني الأفريكاني الأبيض كِبرَ التّبشير بهذا النّظام والدّعاية لنموذج حكمه مدفوعًا بهاجس حماية البيض والدّفاع عن مصالحهم ومكاسبهم…أُقِرّ نظام التّمييز العنصري وطُبّق منذ سنة 1948 وطيلة نصف قرن إلى أن تمّ إلغاؤه سنة 1993، وكان يهدف إلى خلق إطار قانوني يحافظ على الهيمنة السياسيّة والاقتصادية للأقليّة البيضاء (بين 15 و20%)…وبموجب الأبارتايد قُسّم سكّان البلاد إلى أربع مجموعات عرقيّة منفصلة: الأفريكانو (البيض) والبانتو (السّود) والملوّنين (تزاوج بينهما) والآسويّين (هنود وباكستانيّين)، ومهّد ذلك لتفرقة شاملة أنتجت مجتمعين متباينين في كلّ شيء ويسلكان مسارَي تنمية مختلفين تمامًا…فقد أدّى هذا الفصل العنصري أوّلاً إلى تفرقة ترابيّة بين المجموعات حيث حُدّدت مناطق حضريّة معيّنة لكلّ مجموعة بنسب غير متساوية ولا مُنصفة ممّا أوجد معازل السّود الشّبيهة بمحميّات الهنود الحمر حيث الاكتضاض والفقر والجريمة…وأدّى ثانيًا إلى تفرقة سياسيّة حيث حُرم السّود والملوّنون من حقّهم في الاقتراع والانتخاب والمشاركة في الحياة السياسيّة…وأدّى ثالثًا إلى التّفرقة الخدماتيّة، حيث فُصلت أجهزة التعليم والصّحة والنّقل والإدارة وسائر الخدمات المختلفة مع أفضليّة مطلقة للبيض…كما أدّى رابعًا إلى تفرقة أمنية: حيث اعتُبر البيض جنسًا ساميًّا محميًّا وفوق القانون بينما شدّد النظام قبضته الأمنية على البقيّة واضطهد مناوئيه بلا رحمة وألقى بزعامات حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في السّجون وتصدّى للحركات الاحتجاجية بالقمع الوحشي الدّموي، فكانت مجازر (سويتو) الرّهيبة وغيرها من الانتهاكات التي هزّت ضمير العالم…

مُكرهٌ أخاك..

لقد كان من الواضح أنّ هذا النظام القرَوسطي المغرق في الدّيكتاتورية والعنصريّة يحمل بذور فنائه في ذاته وآيل لا محالة للسّقوط وأنّ ذلك مسألة وقت لا غير: فمنطق العصر ومستوى تحضّر البشريّة لم يعد يقبل مثل هذا الشّذوذ العقلي والشّكل الوقح والمنحطّ من الاستعباد والميز العنصري الجدير بعصور الظّلام…كما كشف القمع الوحشي للتحرّكات الشّعبية السّلمية عن ضعف النّظام وهشاشته ومحدوديّته وعدم قدرته على الصّمود دون إصلاحات جذريّة تعيد البلاد إلى حياة سياسيّة واجتماعيّة طبيعيّة تنصف الأغلبيّة السّوداء وتساير المتغيّرات الهائلة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا: فقد استشرى الوعي السّياسي وتنامي الحراك الشّعبي وتوسّعت المعارضة الدّاخليّة بشكل لم يعد ينفع معه القمع والقبضة الأمنيّة…كما أنّ رجال الأعمال وأصحاب الشّركات العملاقة من البيض المحليّين بدؤوا يضغطون باتّجاه إحداث إصلاحات محدودة لرفع العقوبات الاقتصادية ضدّهم والحظر الذي فُرض على شركاتهم…على المستوى الإقليمي أيضاً سُجّلت متغيّرات جذريّة تتمثّل خاصّةً في استقلال الدّول الإفريقيّة وتحرّرها من نير الاستعمار والعبوديّة وتعبئتها لقضيّة جنوب إفريقيا، وإنّ ضرورة الانسجام مع الجوار الإقليمي يوجب مواكبة هذه المستجدّات…أمّا على المستوى الدّولي فمنذ الستّينات أخذت الاعتراضات الدّولية على نظام الأبارتايد بالازدياد ممّا أدّى إلى نبذ دولة جنوب إفريقيا وعزلتها العالميّة ومقاطعتها من قبل المجتمع الدّولي سياسيًّا واقتصاديًّا…وبذلك يتّضحُ أنّ نظام الأبارتايد في مرحلة متقدّمة من الاحتضار جرّاء الاحتقان الدّاخلي والحصار الدّولي الخانق والتّعبئة الإفريقيّة ضدّه، وليس أمامه إلاّ أن ينحني أمام العاصفة السّوداء ـ مكره أخاك لا بطل ـ  ويبحث عن قفّاز وطني محلّي يغريه ببعض الإصلاحات الشّكلية حتّى يضمن تواصل سيطرة البيض على الحكم واحتكارهم للثروات…

مانديلا (يسار) ودوكليرك فازا بجائزة نوبل للسلام بعد نجاح مفاوضاتهما في إنهاء نظام التمييز العنصري (أسوشيتد برس)

مانديلا (يسار) ودوكليرك فازا بجائزة نوبل للسلام بعد نجاح مفاوضاتهما في إنهاء نظام التمييز العنصري (أسوشيتد برس)

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This