إلى أين … يا تونس؟
يكثر السّؤال هذه الأيّام عن المصير والمسير، إلى أين نسير؟ وما هو المصير؟
خاصّة مع الغموض الذي ما فتئ يزداد حول ما يفعله الرئيس وما ينويه، هل يعدّل الدّستور أم يلغيه؟ هل سيُواصل رفض الحوار؟ من هي الحكومة التي سيُعيّنها وما طبيعتها؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟
مشكلتنا تكمن في طرح السّؤال الصّحيح،
سؤال إلى أين تسير؟ هو سؤال المراقبين والمنتظرين لا سؤال الفاعلين، وهو أيضا سؤال الحائرين الذين لا يدرون ما يفعلون أو ما يُفعل بهم,
ماذا حصل يوم 25 جويلية؟ استباق ثورة وإنقاذ للنّظام.
خرج الرئيس يعلن عن أحكام استثنائيّة، مستندا إلى الدّستور. وتمحورت كلّ تصريحاته وخطاباته حول: الفساد والنّظام السّياسي، والقانون الانتخابي
-
المحور الأوّلمحاربة الفساد فقد اختزله الرئيس في أشخاص الفاسدين،بما يعني أنّ الرئيس سيمضي في تتبّع أشخاص الفاسدين ومعاقبتهم، ممّا يعني إغراقا للقضاء والقضاة في تتبّع قضايا قد تثبت وقد لا تثبت، ولكن هل سيزول الفساد؟
الفساد في تونس فساد قانونيّ، فالقوانين الفاسدة هي التي برّأت كبار الفاسدين الذين ينهبون ثروات البلاد بشكل قانونيّ، والقوانين الفاسدة هي التي منعت البنك المركزي (مثلا) أن يقرض الدّولة دون فوائد وجعلت إقراض الدّولة من البنوط الخاصّة ملزما بما يعني إلزاما للدّولة بإثراء الأغنياء وبخاصّة البنوك الأجنبيّة التي هي شركاء للبنوك التّونسيّة، وكلّ ذلك على حساب الشعب. أليس هذا أكبر الفساد؟ القوانين الفاسدة أباحتلمنظّمات (ما يسمّونه المجتمع المدني) تتلقّى تمويلات أجنبيّة، ومعلوم أنّ من يموّل هو من يحكم، فصار للأجانب نصيب في حكم البلاد وتقرير مصيرها يسرحون ويمرحون في البلاد يخدمون مصالح الأجانب بشكل قانونيّ بواسطة القوانين الوضعيّة التي يفرضونها في البرلمان وتنفّذها السلطة التنفيذيّة. فإلى أين يتّجه مسار محاربة الفساد؟
سيشغلون النّاسوالقضاة بآلاف القضايا لأشخاص فاسدين، وسيسرقون أعمارهم في تتبّع قضايا فرعيّة لن تُنهي الفساد أو تقلّل منه ما دامت القوانين يضعها الأقوياء أصحاب المصالح والنّفوذ فسوف يستمرّ الفساد ويستشري. والأخطر من ذلك أنّ زعم محاربة الفساد سيكون ستارا يغطّي اقتحام المستعمرين وعبثهم بتونس وبأنظمتها (ومنها النّظام القضائي) لأنّ القانون لا يُجرّم التدخّل الأجنبيّ. ولأنّ كلّ الطّبقة السياسيّة وعلى رأسهم الرئيس يسمح للأجانب بالتّدخّل في شؤوننا ويسمع لهم.
-
المحور الثّاني نظام الحكم أو قل تغيير أسلوب الحكم من برلماني إلى رئاسي. بتعلّة أنّ الأسلوب البرلماني لم يتماش مع طبيعة المشهد السياسي التّونسي. هذا المحور صار حديث الوسط السياسيّ منذ انتخاب الباجي قايد السبسي، الذي دعا إلى إعادة النّظر في دستور 2014 لتوسيع صلاحيّات الرئيس، والسؤال هل تسير الأمور نحو تعديل الدّستور أو تغييره؟ وكيف سيكون ذلك؟ هل سيكون بإعلان إلغائه أو تعليق العمل به؟ هل سيكون بلجنة جديدة يعيّنها الرئيس لتعديل الدّستور أو كتابة دستور آخر ثمّ عرضه للاستفتاء؟ أسئلة كثيرة ينشغل بها الإعلام والأحزاب السياسيّة هاته الأيّام ويُشغل بها الرأي العامّ ليُغرقه في قضايا هامشيّة بأسئلة عبثيّة إذ ما الفرق بين دستور 1959 أو دستور 2014 أو دستور قيس سعيّد (الجمهوريّة الثّالثة)؟ ما الفرق الذي سيُحدثه دستور جديد؟ هل سيُخرج البلاد من أزمتها؟ هل سيمنع تدخّل الأجانب أو يحدّ منها؟
والسّؤال الحقيقيّ من سيضع الدّستور؟ كلّ الوسط السياسي ومنهم الرئيس قيس سعيّد، متّفقون على الأساس العلماني الدّيمقراطي للدّستور ولأنظمة الحياة، وكلّهم متّفقون بل مجمعون على لزوم التدخّل الأجنبي وبخاصّة في صياغة الدّستور والقوانين. هذه هي المقدّمات التي يُسلّم بها الوسط السياسي العلماني في تونس، ومنها يتبيّن جواب سؤال إلى أين؟
إلى علمانيّة تفصل الإسلام عن حياة المسلمين في تونس وديمقراطيّة تمكّن للقويّ فقط من الوصول إلى مراكز القرار واستمرار لتحكّم القوى الاستعماريّة في بلادنا.
وللتّذكر فإنّ الرئيس دعا إلى استعادة دستور 1959، متناسيا الويلات التي ذقناها جرّاء ذلك الدّستور. فهل مازال للجواب عن سؤال إلى أين من معنى؟
-
المحور الثّالث تغيير القانون الانتخابي، وهو محور محلّ إجماع في الوسط السياسيّ وغايته معالجة مسألة تفتيت مراكز القوىوإعادة تركيز السّلطة في دائرة ضيّقة لا تتجاوز حزبين أو ثلاثة يتحكّمون في صناعة القرار والتّشريع. وسؤال إلى أين نتّجه؟ هل نسير نحو تعديل للقانون الانتخابي؟ كيف؟ ومن سيعدّله؟ وبأيّ شرعيّة؟ … هكذا نعود إلى الأسئلة العبثيّة ونحيد عن السّؤال الحقيقي، من يضع القوانين ومن سيُلزمنا بطاعته وقوانينه؟ حزب واحد أو حزبين أو ثلاثة أو مائة؟ ما الفرق؟ معلوم أنّه لا يصل إلى البرلمان إلا الأقوياء وأصحاب المصالح ومعلوم أنّ “أقوياءنا” في تونس يستمدّون قوّتهم من الدّول الأوروبيّة الطّامعة في بلادنا ومنطقتنا فمن البديهي أنّهم ما أوصلوا إلى البرلمان إلا لدعم المصالح الأجنبيّة أو على الأقلّ مصالحهم الخاصّة (وهكذا يحدث في كلّ الدّيمقراطيّات).
نحو السّراب يحسبه الضّمآن ماء؟
ما حدث يوم 25 جويلية وما بعدها كان في الحقيقة خطوة تمتصّ الغضب وتعطي الأمل الزّائف بغد أفضل، ففي أروقة القصريجول الأوروبيّون ويصولون ويوسوسون ويهمسونليعيدوا صياغة مشهد سياسي يوهم بالإصلاح والتغيير ولكنّه يخدم مصالحهم. نقول ذلك لأنّ المقدّمات تنبئ بالنّتائج، والمقدّمات التي صنعت الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر ما زات هي المستحكمة إلى اليوم:
المقدّمة الأولى: لزوم الاستعانة بقوى أجنبيّة من أجل التّحديث والإصلاح، وهذا يعني أنّ التدخّل القوى الدّوليّة المستعمرة في تقرير مصير تونس أمر أساسيّ في ذهن كلّ الوسط السياسيّ. وقانون اللعبة عندهم أنّك إذا أردت أن تكون سياسيّا فاعلا فيلزمك دعم من بريطانيا أو أمريكا أو فرنسا… وإلا فلن يكون لك من نصيب في المناصب أو الإعلام.
المقدّمة الثّانية: لزوم مشاركة الجميع في صناعة القرار (وهذا ما يسمّونه المواطنة) وهذا يعني عندهم أن يكون التشريع للبشر، وإذا وضعنا هذا في سياق أنّ أهل تونس من المسلمين، فيُصبح التّعبير الدّقيق عن هذه المقدّمة هو إبعاد الإسلام وتشريعاته عن الحكم والسّياسة. أمّا الحديث عن المواطنة ومشاركة الجميع في صناعة القرار فحديث خرافة واستخفاف بالعقول.
واعتبارا لهاته المقدّمات فإنّ سؤال إلى أين نسير في تونس؟ يصبح عبثا وخداعا وتضليلا، فما حدث يوم 25 جويلية وما بعدها كلّها تسير في اتّجاه واحد لم يتغيّر:
-
اتّجاه استمرار الارتهان الأجنبي
-
واتّجاه استمرار الظّلم والفساد لأنّ التشريع الوضعي هو منبع الظّلم والفساد.
الرئيس هو الشّعب بل هو الثّورة؟ فهل ننتظره؟
طرح السؤال بشكل صحيح هو نصف الحلّ. ولقد رأينا أنّ سؤال إلى أين تسير تونس؟ وما هو مصيرها؟ هو سؤال العاجز الذي ينتظر قدره ولا يدري ما يُفعل به. ويصبح هذا السّؤال في سياق مضادّ للثورة، فأهل تونس ثاروا ونفضوا عن أنفسهم لباس الخوف والعجز، وظلّوا ثائرين محتجّين فلم يستقرّ الحكّام ولم يستقرّ للأجنبيّ من نفوذ. والخطر اليوم أنّ قيس سعيّد ومن وراءه أدركوا هذا الأمر فلبس الرئيس لباس الثّوريّ فهو في خطاباته كلّها يتشبّه بالثوّار، يحتجّ ويهاجم الحكومة والبرلمان ويندّد بالفساد واللّوبيّات حتّى ليُخيّل لسامعه أنّه معارض ثائر لا رئيس دولة بين أيديه كلّ الصّلاحيّات. فما الّذي يمنع الرئيس من الحكم والتّصرّف أليس بين يديه كلّ الصّلاحيّات؟ أليس هو من يدّعي أنّ الشعب وراءه؟
نعم هذا هو بيت القصيد، الرئيس هو الشّعب هو الشعب الثّائر هو الثّورة. هذا ما يُراد لنا أن نصدّقه ونتّبعه، وننتظره. ليحارب الفساد وليضع الدّستور المنتظر… يُراد لنا أن نكفّ عن الثّورة وأن نطمئنّ فالرئيس يواصل الثّورة.
ولكن في اتّجاه؟ في اتّجاه إخمادها ووأدها.
ولذلك كان خطر سؤال “إلى أين” مضاعف، لأنّ انتظار قيس سعيّد هو مضيعة للوقت، وعلى المسلمين في تونس أن يواصلوا الفعل في الاتّجاه الصّحيح:
-
في اتّجاه قلع الاستعمار ونفوذه من البلاد، ولقد رأى الجميع تزلزل أركان المستعمرين حين افتُضح أمرهم وأمر عملائهم والمطلوب هو مواصلة النّضال لقلعه ويكون ذلك بتجريم كلّ تدخّل للقوى الأوروبيّة وتجريم كلّ من يتعامل معهم ويسهّل لهم التدخّل في تقرير مصير تونس.
-
في اتّجاه الاحتكام إلى الإسلام الدّين الذي ارتضاه ربّ العالمين. أليس الإسلام هو العدل؟ أليس الإسلام وأحكامه هو الذي يسبّب الازدهار والنّماء؟