إلى “قيس سعيد”: خصومك منك وأنت منهم
حملته الانتخابية كانت مختلفة عن باقي الحمالات. فاز بالسباق نحو قصر قرطاج بنسبة غير مسبوقة. احتفالات عارمة عقبت فوزه الكاسح. أدار له الرقاب نتيجة تواضعه وقربه من الناس ونتيجة أسلوبه الفريد في التواصل. اتخذ من خليفة المسلمين عمر بن الخطاب قدوة ومثلا أعلا, -قولا-, وليقنع الناس بأنه يسير على نهج الفاروق دأب على أداء صلاة الجمعة بين عامة الناس وفي مسجد يقع في منطقة شعبية. إثر تسلمه مهامه كرئيس للدولة رفض الإقامة في القصر الرئاسي وخيّر البقاء في منزله..
كل هذا أعطى انطباعا بأن الرئيس الجديد لتونس يختلف عن غيره شكلا ومضمونا, وأن البلاد في عهده سيعمها الرخاء والازدهار وسينعم أهلها بعدل لا يضاهيه إلا عدل عمر بن الخطاب خاصة وأن “قيس سعيد” كثير ما ذكّر هذا الوزير أو ذاك بالبغلة التي اتقى عمر الله فيها ومهد لها الطريق وجنبها وصاحبها التعثر والسقوط, لذا فما على كل مسؤول إلا أن يسير على نهج عمر ولا يتوانى في خدمة الناس ورعاية شؤونهم على أكمل وجه وإلا سيكون هدفا لأحد صواريخ الرئيس التي قال ذات مرة أنه يملك منها الكثير وسيطلقها في الوقت المناسب. وبالفعل اتضح أن “قيس سعيد” يملك ترسانة صواريخ ضخمة وهو الآن بصدد إطلاقها الواحد تلوى الأخر بعد أن حسم الأمر وتوجه لخصومه بقوله “أنا لست منكم وأنتم لستم مني…”. وقسم قيس سعيد خصومه إلى قسمين قسم مجهول وهلامي بنى له غرفا وصفت بالمظلمة واختلق له أعمالا لم تتعدى وصفه لها بالمؤامرات والدسائس, وقسم آخر أخرجه مؤخرا من دائرة الغموض وأراح الملاحظين من عناء التكهن والتخمين وأفصح من داخل جامع الزيتونة إثر عودته من مصر أين احتفى به رئيس لم تسلم من بطشه وإجرامه حتى البغال فما بالك بالبشر.
من رحاب جامع الزيتونة رفع “قيس سعيد” ستار الغموض وأعلن عن خصمه الذي تبرأ منه سابقا وقال له “لست منكم ولستم مني” والمعنى أنه هو, أي “قيس سعيد” همه الوحيد والأوحد البلاد وأهلها وشغله الشاغل هو انتشال البؤساء من تحت أنقاض بؤسهم وتخليص الفقراء من براثن فقرهم, وجعلهم يستمتعون بثرواتهم وخيراتهم المسلوبة منهم على اعتبار أنه مسلم ويستلهم إخلاصه ونظافة يده من الإسلام, أما خصومه فهم إسلاميون على حد وصفه لهم ويمثلون “الإسلام السياسي” عدوه اللدود هذا, وكأننا ب”قيس سعيد” حلّ لقاءه ب “عبد الفتاح السيسي” عقدة لسانه وأفصح أخيرا عن خصمه الذي انبر لمحاربته وتصفيته وانتقل من التلميح إلى التصريح ولكنه في كلتا الحالتين هو يروج للمغالطات وللأوهام, فخصمه الذي جاهر بمعاداته ليس بالصورة التي قدمه بها ونعني “حركة النهضة”, فهي لا تختلف عنه في شيء بل هي صنو له وتشبهه إلى حد التطابق فمن يصفونه بالإسلامي بعيد كل البعد عن الإسلام بوصف عقيدة ينبثق عنها نظام يشمل جميع جوانب الحياة, ف”حركة النهضة” وبتكريسها لفرية الإسلام المعتدل تمثل الوجه الثاني للعلمانية تماما كما هو حال “قيس سعيد” فكلاهما يكافح ويناضل من أجل ترسيخ النظام الديمقراطي الوضعي وكلاهما مستميت في إقصاء الإسلام عن الحكم ويخدم المستعمر بإخلاص وتفاني من بوابة تثبيت أركان الدولة المدنية وإعلاء القوانين الوضعية والحيلولة دون وصول الإسلام إلى الحكم. فرئيس “حركة النهضة” “راشد الغنوشي” أكد مرارا وتكرارا أن تونس بألف خير مادامت الديمقراطية ترفرف في سماءها وتتجول في أرضها بالشكر الذي يرضي سدنة معبدها في الغرب حتى وإن جاع أهلها وتقطعت بهم السبل نتيجة هذا النظام الذي لا يخرج نباته إلا نكدا, إذن فخصوم ” قيس سعيد” يربطهم به رباط وثيق ويسيران سويا في نفس الاتجاه وهو الذود عن الديمقراطية والتشبث برجزها, ولا تفرقه عنهم إلا المصلحة الذاتية وهوية المسؤول الكبير الذي يدين له كل طرف بالولاء ماعدا ذلك فهم على نفس النهج, وما يدعيه “قيس سعيد” لا أساس له من الصحة فخصومه منه وهم منهم, ديدنهم واحد ومعركتهم واحدة, يخضون غمارها متسلحين معا بدستور وضعي صاغته أياد آثمة تحت إمرة من لا يرقب فينا إلاّ ولا ذمة, مستعمر مقتحم لسنا منه وليس منا.
حسن نوير