إلى مفتي الجمهوريّة: (ومن أظلمُ مِمّن كتم شهادةً عندهُ من الله)
حدّث أبو ذرّ التونسي قال: منذ أيّام وضعت سنة 2017 أوزارها وودّعناها ـ لا محمودةً ولا مشكورة ـ على وقع فضيحة أخلاقيّة مُدويّة وسابقة قضائيّة خطيرة: فقد قضت المحكمة الابتدائيّة بجندوبة بتاريخ الأربعاء 20/12/2017 بالسّجن ثلاثة أشهر في حقّ أبٍ وابنته القاصر حيث عاشرها برضاها التّام معاشرة الأزواج إلى أن حملت منه وأنجبت مولودًا (والعياذ بالله)…هذا الحكم الصّوري الشّكلي المخفّف ـ مقارنةً بفداحة الجرم القانوني والإثم الشّرعي ـ أثار استياء (الجنادبة الأشاوس) وخلّف في عاصمة الشّمال الغربي موجة من الحنق والغضب ممزوجة بامتعاض شديد من تعاظم الجراءة على الإسلام ـ عقيدةً وشريعةً ـ في المنظومة القضائيّة التونسية…وللتذكير فإنّ هذه (الجريمة القانونيّة) ليست جديدة ولا غريبة على أروقة محاكمنا، فالذّاكرة الشّعبية القريبة تحتفظ بما هو أشنع منها وأفظع: ففي جوان 2014 أصدر قاضي التّحقيق بالمحكمة الابتدائيّة تونس2 قرارًا في ختم البحث يقضي بحفظ جميع التّهم في حقّ خالٍ تزوّج من ابنة أُخته وعاشرها جنسيًّا بمقتضى عقد (قانوني)، واكتفى بالتّنصيص على بطلان الزّواج دون تجريم (الزّوجين) وذلك بزعم (غياب الرّكن الشرعي للجريمة) في مفارقة مقزّزة…
رُبّ ضارَّة…
أمّا الإضافة التي تُحسب لقضيّة الحال فهي الغطاء الشّرعي الذي أسبغه عليها (مفتي الدّيار التونسيّة) وتعمّد من خلاله تقنين الباطل وشهادة الزّور والسّكوت عن الحقّ لتبييض منكر تترفّع عن مثله أغلب الحيوانات وتهوين عظيم أجمعت كافّة الشّرائع ـ السّماويّة منها والأرضيّة ـ على تحريمه وتجريمه وازدراء مقترفه والتّغليظ عليه بأشدّ العقاب…ولكن رُبّ ضارّة نافعة: فلطالما تشدّق العلمانيّون والمتأسلمون بمجلّة الأحوال الشّخصيّة وبالفصل الأوّل من الدّستور التّونسي، وتشبّثوا بتلابيبهما لإثبات أصالة البلاد وانتمائها الإسلامي وعدم انبتاتها عن جذورها الثّقافية والحضاريّة…إلاّ أنّ مثل هذه (القنابل القضائيّة) النّاطقة جهارًا بما يُناقض المعلوم من الدّين بالضّرورة من شأنها أن تُبدّد تلك الشُّبهة وتُؤكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ القانون التّونسي ـ إن في كُلّياته أو في جزئيّاته وتفاصيله ـ مخالف للشّرع كُليًّا بل مُحارب لله ورسوله وأحكامه وشرائعه حربًا لا هوادة فيها ولا نستثني من ذلك الأحوال الشّخصيّة التي كانت إلى وقت قريب معدودة من قبيل الخطوط الحمراء…وحسبنا فيما يلي أن نفضح هذا التّمشّي ونُنزّله على جريمة جندوبة بما يكشف عن قصور المنظومة القضائيّة التونسيّة وتواطؤ السّلطة وتخاذل علماء البلاط…
حيثيّات فظيعة
بما أنّ التّوصيف الشّرعي ـ كما القانوني ـ يقتضيان تحقيق المناط والتّثبّت من معطياته، فإنّه لا مناص لنا لدراسة قضيّة الحال من أن نعود إلى حيثيّاتها وتفاصيلها بما يُمكّننا من البتّ فيها وتصنيفها فقهيًّا وتقييم الحكم الصّادر في شأنها…فعلى إثر شكوى رفعها بعض الأجوار، ألقت وحدات الحرس الوطني بجندوبة القبض على كهل أرمل ووجّهت له ـ بعد البحث والتّحرّي ـ تهمة احتجاز ابنته القاصر واغتصابها بما أفضى إلى حملها وإنجابها منه.. وبعد إحالة الملفّ على أنظار المحكمة الابتدائيّة بجندوبة أعادت الدّائرة الجنائيّة استنطاقها فكانت الصّدمة المذهلة: حيث تراجعت عن اعترافاتها الأولى وغيّرت أقوالها مؤكّدةً أنّها متزوّجة من والدها بالاتّفاق بينهما وأنّها قبلت بمعاشرته بمحض إرادتها دون إكراه.. فإثر وفاة والدتها رغب أبوها في الزّواج ثانيةً وأخبرها بالأمر لكنّها عارضته ورفضت رفضًا قاطعًا أن تحلّ امرأة أخرى محلّ والدتها حتّى أنّها هدّدت بالانتحار…وأمام إصرار الأب على تنفيذ رغبته قرّرت البنت إغراءه وإغواءه وتلبية رغباته الجنسيّة بنفسها لقطع الطّريق أمام أيّ امرأة أخرى ـ وهو ما حصل فعلاً ـ فتعاشرا بكلّ صفاقة وعاشا كزوجين…وسرعان ما أثمرت علاقتهما الآثمة جنينًا انتفخت له بطن البنت/الزّوجة، فاضطرّت للزوم البيت والتخفّي عن أعين النّاس أشهرًا عديدة ممّا أثار فضول الأجوار ثمّ شكّهم وارتيابهم، فحاولوا الاتّصال بها والاطمئنان عليها لكنّها امتنعت عن فتح الباب أو إجابة النّداء حتّى اشتدّ قلقهم على جارتهم القاصر اليتيمة…ثمّ كانت المفاجأة الصّاعقة على لسان صديقتها المقرّبة التي كشفت أمرها لجيرانها، فاتّصلوا بوحدات الحرس وألقي القبض على الأب/ الزّوج وانطلقت الأبحاث في قضيّة الحال…
التّوصيف الشّرعي
بعد هذا السّرد المقزّز لتفاصيل القضيّة والتّحقيق المستفيض لمناطها، يمكن لنا دون عناء أن نوصّفها شرعيًّا ونصنّفها فقهيًّا: فالمخالفة الشّرعية فيها واضحة معدودة من المعلوم من الدّين بالضّرورة ومن الثّوابت التي انعقد حولها رأي عامّ بين سواد الأمّة عالمها وجاهلها: فنحن إزاء قضيّة زنا تامّة الأركان، والزّنا شرعًا من الفواحش البغيضة والكبائر المساوية للشّرك وقتل النّفس، توعّد الله مقترفه بالخلود في النّار وحرّم على عباده مجرّد الوقوع في مقدّماته، قال تعالى (ولا تقربوا الزّنا إنّه كان فاحشة وساء سبيلا). والزّنا في قضيّة الحال ليس مجرّدًا مفردًا بل مركّبًا متقاطعًا مع حدٍّ آخر أفظع منه وأشنع ظلمات بعضها فوق بعض: فجريمة الزّنا يعظّم إثمها إذا بدرت من كبير في السّن أو حصلت مع ذات جِوارٍ أو حليلة غازٍ في سبيل الله، أو وقعت على محرم من المحارم وهو مناط قضيّتنا (أب زنا بابنته برضاها وبتحريض وإغراء منها)…وعلى فرض زواجهما كما ادّعت الفتاة ـ وهو زعم باطل لا تقرّه الحيثيّات ـ فإنّ زواج المحارم محرّم بصريح النّص المحكم القطعي (حُرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت…) وهو معدود من زنا المحارم ـ أقبح أنواع الزّنا ـ وحدُّه شرعًا القتل البتّة: جاء في كتاب الكبائر للذهبي (أعظم الزّنا الزّنا بالأمّ والأخت والبنت وامرأة الأب وبالمحارم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم “من وقع في ذات محرمٍ فاقتلوه”…وعن البراء أنّ خالهُ بعثه الرّسول إلى رجل تزوّج بامرأة أبيه وأمره أن يقتلهُ ويُخمّس مالهُ)…وهكذا تكون المنظومة القضائيّة الإسلاميّة قد أحاطت بجميع جوانب هذه القضيّة ولم تترك فيها أيّة ثغرة أو فراغ قانوني: فصنّفت الجريمة المقترفة فيها (زنا المحارم) ونصّصت بوضوح على العقوبة الزّاجرة الرّادعة لها (القتل البتّة)…
المغالطة القانونيّة
هذا الاتّساع والشّمول والإحاطة والدّقة في التّوصيف والوضوح في التّنصيص الذي تميّزت به المنظومة التّشريعية الإسلاميّة، قابله في القضاء التّونسي الضّبابيّة والفراغ القانوني وغياب الضّبط وانعدام الصّراحة وميوعة النّصوص وانفتاحها على شتّى الاحتمالات بما يخرج قضيّة الحال من دائرة الحدّ الشّرعي لزنا المحارم ويجعل منها سابقة لا نصّ فيها خاضعة لاجتهاد القاضي وتقديره. فتمامًا كما حصل مع قضيّة الخال وابنة أخته سنة 2014، تمّ تكييف القضيّة في شكل زواج على خلاف الصّيغ القانونيّة، مع أنّه مجرّد اتّفاق ثنائي شفوي سرّي غير موثّق ولا مثبت في دفاتر الحالة المدنيّة ولا ينطبق عليه واقع الزّواج لا شرعًا ولا عرفًا ولا قانونًا. ثمّ وقع التّنصيص على غياب الرّكن الشّرعي لجريمة الزّنا المجرّد أو زنا المحارم، وذلك استنادًا إلى أنّ مجلّة الأحوال الشّخصيّة والقانون عدد 03 لسنة 1957 لم يُنصّصا على ذلك صراحة: فالفعل والقصد وحدهما لا يكفيان في القانون الوضعي لانعقاد كامل أركان الجريمة، فلا جريمة بلا نصّ قانوني سابق الوضع كما جاء في الفصل الأوّل من المجلّة الجزائيّة والفصل 28 من دستور 2014. وعلى هذا الأساس تُركت القضيّة لاجتهاد القاضي وتقديره الذي اكتفى بالتّفريق بين الأب الزّوج والابنة الزّوجة وسجنهما مدّة ثلاثة أشهر لزواجهما على خلاف الصّيغ القانونيّة وحفظ باقي التّهم في حقّهما (وطاح الكاف على ظلّو). وبذلك يتّضح بما لا يدع مجالاً للشكّ أن هذا الفراغ القانوني المصطنع هو في الواقع إفراغ متعمّد وتمييع مقصود بغاية الالتفاف حول الأحكام الشّرعية مع تأجيل نقضها مداراة للرّأي العامّ الإسلامي: فمجلّة الأحوال الشّخصية والقانون التّونسي لم يُجيزا زواج المحارم صراحةً، وفي نفس الوقت لم يُحرّماه صراحةً ولم يُنصّصا على تجريم فاعله، وتعمّدا ترك المادّة القانونيّة مائعة فضفاضة مفتوحة على الرّأي ونقيضه بحيث تستوعب التّخريجة المطلوبة التي لن تكون متطابقة مع حدود الله.
شهادة الزّور
إنّ ما يثير الانتباه في هذه الفضيحة القضائيّة المدوّية ـ إلى جانب حيثيّاتها وتكييفها القانوني ـ هو موقف الإسلام الرّسمي منها: فقد حظيت بعناية (مفتي الدّيار التونسيّة المفدّى) الشّيخ عثمان بطّيخ الذي تفضّل وبيّن رأيه في الحكم القضائي الصّادر فيها. هذا الرّأي ورغم كونه سلبيًّا مقتضبًا مراوغًا، إلاّ أنّه معبّر بل ثرثار في سكوته وتقريره أكثر من إفصاحه وتعبيره: فقد رفض الشّيخ بطّيخ التّعليق على الحكم القضائي مؤكّدًا أنّ (القضاء اجتهد والقرار يعود إلى تقدير القاضي لكن الأهمّ هو الإدانة والتّفريق بينهما لأنّ مثل هذه الزّيجات محرّمة في ديننا). وممّا يستفاد من هذا التّصريح أن شيخنا يساند التكييف القانوني للقضيّة بما هي زواج على خلاف الصّيغ القانونيّة وينفي عنها كونها زنا محارم، ويعتبر هذا الالتفاف على الحكم الشّرعي اجتهادًا وتقديرًا من القاضي ويُثمّن الاستعاضة عن حدٍّ من حدود الله بثلاثة أشهر سجنًا، ويجيز ترك شرع الله والاحتكام إلى رأي قاضٍ علماني…ونحن وإن كنّا لا نشكّ لحظة في تواضع الزّاد الشّرعي والمعرفي لشيخنا إلاّ أنّ موقفه هذا مناقض للمعلوم من الدّين بالضّرورة ولا يمكن أن يغيب عن شيخ زيتوني مهما ضعف تكوينه…وهو لا يفصح عن موقف العالم بقدر ما يكشف عن موقف المفتي أي موقف السّلطة وفقهائها الذين يمثّلونها وينطقون باسمها…وهو بهذا الموقف يكون قد تجرّأ على الله ورسوله واقترف جملة من الكبائر لعلّ أقلّها (شهادة الزّور ـ كتم العلم ـ السّكوت عن الحقّ ـ عدم إنكار المنكر ـ الكذب على النّبي ـ غشّ الرعيّة ـ الدّعوة إلى الضّلال ـ الدّفاع عن الباطل ـ القضاء بغير الحقّ ـ سنّ سُنّة سيّئة ـ الأمن من مكر الله…) ونحن إذ نستشنع سلوكه هذا فإنّنا نخاطب المؤمن فيه ونذكّره بقوله تعالى (ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه) وقوله صلّى الله عليه وسلّم (عدلت شهادة الزّور الشّرك بالله) وقوله (ما من عبد يسترعيه الله رعيّةً فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنّة) وحسبنا بهذا حجّة عليه.