(..إنّ شانئك هو الأبتر) إلى الحبيب المصطفى في ذكرى مولده العطرة
تحيي الأمّة الإسلاميّة هذه الأيّام ذكرى مولد خير الأنام وسيّد الأنبياء محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وبصرف النّظر عن جواز ذلك من عدمه فإنّ هذه الذّكرى العزيزة على قلوب المسلمين المتيّمين بحبّ نبيّهم وشفيعهم حدّ الهوس قد التحفت هذه السّنة برداء قاتم من العنصريّة والتّجديف والإسلاموفوبيا والتّحرّش المجّاني بجناب الرّسول الكريم، إذ تزامنت مع عودة أزمة الرّسوم الكاريكاتوريّة المسيئة لنبيّ الإسلام في أقبح تجلّياتها متّخذة من فرنسا (بلد الحرّيات وحقوق الإنسان) منطلقا لها.. فبعد تفجير بركان الرّسوم المسيئة سنة 2005 وما تلاه من هزّات ارتداديّة على امتداد 15 سنة، ها أنّ الأمّة الإسلاميّة تُطعن مجدّدًا في أقدس مقدّساتها وتُلدغ ـ وهي مؤمنة ـ من نفس الجحر الفرنسيّ الصّليبي اللّئيم :فكعادتها كلّ سنة وتزامنا مع بدء محاكمة المتّهمين في قضيّة (شارلي هبدو) أعادت تلك الصّحيفة الهزليّة الصّفراء نشر الرّسوم المسيئة في تحدّ صفيق لمشاعر المسلمين ،ثمّ تلقّف عنها مشعل الاستفزاز مدرّس بالضّاحية الغربيّة لباريس يدعى (صامويل باتي) حيث عمد إلى عرض تلك الصّور على تلاميذه في القسم في إطار (درس تطبيقيّ لمبدأ حريّة التّعبير).. وكان من الطبيعيّ أن يثير هذا السّلوك الاستفزازيّ طالبا شيشانيّا مسلما دفعته حميّته الإسلاميّة وغيرته على نبيّه الكريم إلى قطع رأس ذلك المدرّس (حسب الرّواية المتداولّة) ممّا أثار ـ رسميّا وشعبيّا ـ موجة عارمة من الكراهيّة العمياء والعداء الهستيريّ تجاه المسلمين خصوصا والمهاجرين عموما مصحوبة بإجراءات استئصاليّة قمعيّة قد تؤدّي مخرجاتها وتداعيّاتها إلى ما لا تُحمد عقباه..
حريّة تعبير.. أم ضغائن مستكنّة؟؟
لقد مثّلت هذه الحادثة الأليمة متنفّسا للأحقاد والأضغان الفرنسيّة ـ حكومة وشعبا ـ ضدّ كلّ ما يمتّ للإسلام والمسلمين بصلة :ففي حركة استفزازيّة متحدّية أعادت (شارلي هبدو) نشر الرّسوم المسيئة وتبعتها العديد من كبريات دور النّشر الأوروبيّة ،بل إنّ بلديّة الضّاحية الباريسيّة الغربيّة ـ مسرح الجريمة ـ قد عمدت إلى نشرها بالحجم العملاق على واجهة مبنى بأكمله إمعانا في التحدّي..كما أطلقت ناشطات نسويّات في مدينة (تولوز) حملة كبرى لإغراق مركز المدينة بألف رسم كاريكاتوري (تأكيدا على حقّهنّ في التّجديف) فيما نزل آلاف الأشخاص إلى الشّوارع في العديد من المدن الفرنسيّة والأوروبيّة للتّظاهر (تحيّة لروح المدرّس المغدور)، هذا فضلا عن التحرّشات العنصريّة بالمسلمين عموما والمتحجّبات خصوصا..
أمّا على المستوى الرّسمي فقد انخرطت الدّاخليّة الفرنسيّة في موجة ممنهجة من الاقتحام والإغلاق لبيوت الله ومن الاستهداف والتّضييق المجّاني على الجمعيّات الإسلاميّة ومن الإيقاف والطّرد التعسّفي لعشرات الأيمّة والشخصيّات الإسلاميّة..ورغم أنّ القوانين الفرنسيّة تجرّم مجرّد التّشكيك في عدد ضحايا المحرقة اليهوديّة المزعومة (الهولوكوست) ،ورغم أنّ المحكمة الأوروبيّة قضت بأنّ نشر الرّسوم المسيئة (غير مندرج ضمن حريّة التّعبير) ،إلاّ أنّ الرّئيس الفرنسي (ماكرون) المأزوم سياسيّا قد تمادى في غيّه وتحدّيه لمواطنيه المسلمين ـ فضلا عن المهاجرين ـ إذ اعتبر هذه الحملة السّوقيّة الصّفيقة على سيّد المرسلين مندرجة في إطار حريّة التّعبير والصّحافة والحقّ في التّجديف، كما تنصّل من مسؤوليّته الرئاسيّة عنها (ليس من شأن رئيس الجمهوريّة على الإطلاق الحكم على الاختيارات التحريريّة لصحفيّ أو غرفة أخبار أو أيّ شخص) متعلّلا باحترام الدّولة لحريّة التّعبير وحريّة الصّحافة والحقّ في التّجديف المكفول دستوريّا..أمّا عن المدرّس (باتي) فقد عدّه ماكرون (رمزا لحريّة التعبير) وخصّه بمراسم تكريم وطنيّة وبحفل تأبين رسمي في جامعة (السّوربون).. وبصرف النّظر عن ماضي فرنسا الاستعماريّة الغارق في الجرائم والمذابح وحاضرها الامبرياليّ المخزي المشين اللذين لا يؤهّلانها بأيّ حال من الأحوال للعب دور المدافع عن الحريّات والمكافح للإرهاب ،بصرف النّظر عن كلّ هذا فسنحاول فيما يلي أن نفهم هذه الحالة المتقدّمة من الإسلاموفوبيا وهذا الاستهداف الممنهج للرّسول الأكرم وأن نقرأ حادثة الضّاحية الباريسيّة قراءة مستنيرة تنزّلها في سياقها السياسيّ المأزوم في علاقته بالجمهوريّة الفرنسيّة وبمستقبل رئيسها الانتخابيّ..
محمّد صلّى الله عليه وسلّم مفرد في صيغة الجمع
إنّ التطاول على سيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام ليس بدعة ولا سابقة، فقد انطلق ذلك في حياته وتواصل بعد وفاته إلى يوم النّاس هذا، تخبو ناره حينًا وتستعر أحيانًا ولكن لا تبرد ولا تنطفئ، وقد اتّخذ أشكالاً أكثر جرأة ووقاحة واستهتارًا من تلك الرّسوم.. وإنّ أي محاولة لفهم هذا السّلوك المَرَضي العدواني تجاه أشرف المرسلين لا بدّ أن تكون عبر تنزيله في إطاره النّفسي وسياقه السّياسي:
-
فعلى المستوى النّفسي البسيكولوجي فإنّ محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم هو المحرار والمؤشّر الذي يُقاس به مدى تمسّك المسلمين بدينهم وهويّتهم ،فهو يختزل الأمّة في ذاته ويَصهَرُها في شخصه، وإنّ الذين تعمّدوا الإساءة إليه قد بحثوا فيه عن شخص يحقّقون من خلاله إهانة الأمّة الإسلاميّة بأكملها بشكل غاية في الإيلام والإذلال والتحدّي..وقد أصابوا: فمحمّد سُويداء قلب الأمّة وبُؤبؤ عينها وفلذة كبدها، والحمد للّه أنّ هذه الأمّة لم تخذل حبيبها المصطفى وبرهنت فعلاً عن أنّه يسري في دمها ويسكن عظامها ويخالط نخاعها الشّوكي ويتربّع ملِكًا مُتوّجًا على عرش وجدانها بجميع أجناسها وأعراقها وطوائفها وشرائحها وطبقاتها..فمحمّد بامتياز نقطة التقاطع وكلمة السّر التي ينضوي تحت رايتها الجميع، إنّه باختصار مفرد في صيغة الجمع..لذلك وإبّان أزمة الرّسوم كنت تشتمّ حيثما ولّيت رائحة التّبرّم والامتعاض والاشمئزاز والقرف والغليان الذي ينذر بالانفجار والشعور العميق بالانكسار والإهانة ولا غرابة في ذلك: فمحمّد يتجاوز في المخيال الجمعي للمسلمين الجانب العقائدي المجرّد، فهو يمثّل عِرض الأمّة وشرفها وعزّتها وكرامتها وسُؤددها ورجولتها وإنسانيّتها..محمّد حياة الأمّة والنّسغ الذي يغذّي نسيجها، محمّد هويّة وانتساب وحالة مدنيّة ألسنا نقول (أمّة محمّد)..؟؟ وإنّ المسلمين الذين اشتعلت تحت أقدامهم شوارع أغلب مدن العالم الإسلامي لم يكونوا في حقيقة الأمر يدافعون عن النّبي الكريم بقدر ما كانوا يثأرون لكرامتهم المهدورة وعرضهم المهتوك وشرفهم المدنّس مُجسّدًا في رسولهم الكريم عليه الصّلاة والسّلام:
-
ففي حقيقة الأمر ليس في تلك الرّسوم إهانة لنبيّ الإسلام بقدر ما فيها امتهان للمسلمين واستخفاف بهم كأتباع مهووسين بحبّ هذا النّبي..فأنّى لخطوط مبهمة أو لرسّام مغمور أو لصحيفة صفراء مأجورة أن تنال من خاتم الأنبياء وأشرف المرسلين..؟؟ فمحمّد أعظم من أن تطاله يدُ السّوء أو لسانه، وأجلّ من أن يكون في موقف دفاع أو أن يحتاج إلى من يُدافع عنه فقد تكفّل له بذلك الله تعالى ونعم الوكيل (إنّا كفيناك المستهزئين)..