كانت علاقته مع الدولة زمن “بن علي” يسودها الانسجام والتناغم.. فلا تكاد تسمع لأعضائه وقادته غير المديح والإشادة بالسياسة الحكيمة للمخلوع. وحسن رعايته للشعب عامة وللطبقة الشغيلة خاصة. واستمر هذا الود بين الاتحاد والدولة إلى غاية الرمق الأخير من حكم “بن علي”. وهذا الود اقتضته طبيعة المرحلة التي تعيشها البلاد. إذ لا شيء يضمن تحقيق المصالح غير إظهار الولاء المطلق لساكن قرطاج آنذاك, وبعبارة أوضح كان التطبيل ل”بن علي” أبرز أشكال النضال التي كان اتحاد الشغل يمارسها.. وبلغ نضال الاتحاد ذروة سنامه حدّ تأييد ترشح “بن علي” للانتخابات الرئيسية سنة 2004. وما إن عصفت رياح الثورة ب “بن علي” وبعصاه الغليظة, تغيرت لغة الاتحاد وممارساته. وعلت أصوات نقاباته بعد أن تكاثرت كالفطر, تطالب برفع الظلم على الفقراء والكادحين, وكأن البلاء حلّ بالبلاد والعباد بمجرد إقلاع طائرة المخلوع, واستوطن الفقر والمرض والجهل أرضنا.
فجأة تغيرت علاقة اتحاد الشغل بالسلطة. وتخلى عن مهادنتها وتأييدها في كل ما تفعله بعد أن كان أو يكاد جزء من حزب التجمع المنحل.. ولسائل أن يسأل: هل فعلا تغير اتحاد الشغل بعد 14 جانفي 2011 ؟ وإن تغير فعلا, ما الذي تغير فيه؟ وهل حقا هو منحاز الآن لهموم الناس وملتزم بقضاياهم؟ وهل حقا هو مناهض لسياسة الارتهان للمستعمر ويناضل من أجل تحقيق سيادة تونس ؟ الأجوبة على كل هاته الأسئلة تحملها طبيعة أعمال الاتحاد ومواقفه مما يحصل على الساحة, وتعامله مع مجريات الأحداث بعد الثورة..
منذ البداية أعلن الاتحاد أنه سيكرس كل نضالاته من أجل تحقيق أهداف الثورة. وأنه لن يدخر أي جهد في سبيل تحقيق مطامح من ثاروا على “بن علي ” وزمرته. وهنا أخذ على عاتقه مهمة الناطق الرسمي باسم الثورة وحامي بيضتها.
الاتحاد والمزايدة
أبرز ما يميز سياسات الحكومات المتعاقبة بعد الثورة ارتمائها المفضوح في أحضان صندوق النقد الدولي وخنوعها له بالكامل. فهي لم تتردد للحظة في الهرولة نحو هذا الصندوق السيئ الذكر كلما دق العجز باب خزينتها, لترمي بالبلاد في أتون التداين القاسم للظهر. وكلما ازداد الوضع سوء سارعت نحو صندوق النقد وكانت كمن يستجير بالرمضاء من الهجيرة. وقد قابل الاتحاد كل ذلك بصمت مدوي واكتفى بالوقوف على الربوة يراقب الوضع ولم يترجل منها إلا حسب ما تقتضيه مصالحه وأجنداته. وهذا حصل مؤخرا لما رفضت الحكومة مطالبته بالزيادة في أجور الوظيفة العمومية, حيث أقام أمينه العام “نور الدين الطبوبي” الدنيا ولم يقعدها, وحشد الناس في ساحة باردو وخطب فيهم منددا بانصياع الحكومة لإملاءات صندوق النقد. وتذكر فجأة أن سيادة البلاد في خطر, وانه ومن معه لن يقبلوا مهما كانت جسامة التضحيات التي يمكن أن يقدموها بأن يتحكم صندوق النقد في مصائرنا.
ونفذ إضرابا عاما في الوظيفة العمومية. ولوح بإضراب يوم 17 جانفي 2019 يشمل الوظيفة العمومية والقطاع العام. حدث ذلك بعد أن اندلعت حرب طاحنة تدور رحاها حول الانتخابات المقبلة بشقيها التشريعي والرئاسي, والتي أعلن اتحاد الشغل أنه سيخوض غمارها, بعد أن تخلى عن جبة زهده في السلطة التي ارتداها لعقود طويلة مكتفيا بدور الحارس الأمين لإرادة الشعب. هذا الدور الذي ارتئ له أنه سيفعّله أكثر حين يكون في السلطة. والأصح أن المكاسب ستكون أكبر.. وتلك المكاسب يمكن أن يحقق مثلها حتى دون الدخول في صراع مع السلطة. فالحكومة تتخبط في الفشل والعجز, وغارقة في الوحل من الرأس حتى أخماس القدمين. والسبب المباشر لهذه الحالة هو الوقوع عن طواعية في شراك صندوق النقد الدولي الذي من نتائجه تدهور قيمة الدينار والانهيار الكامل للمقدرة الشرائية وعجز الناس عن تحصيل قوت يومهم.. وهذا ما عمل الاتحاد على استغلاله. ومن منصته انطلق في التفاوض مع الحكومة خدمة لأجندات غير تلك التي تعمل السلطة على تنفيذها وخدمة لمصالح نقاباته وكل من يدور في فلكه.
وبالعودة للوراء قليلا وتحديدا لشهر أفريل من سنة 2017 نجد موقفا مغايرا للاتحاد من الصندوق النقد الدولي وإصلاحاته وشروطه وكل آثامه, هو الموقف الحقيقي للاتحاد دون مساحيق أو مواربة. فإثر لقائه بممثلي صندوق النقد الدولي, قال الأمين العام لاتحاد الشغل ” نور الدين الطبوبي” إن الأمور باتت واضحة الآن وكل البوادر تبشر بخير, إذ إن هناك تطورا ملحوظا بخصوص رأيهم.. لقد قدموا وعودا بتيسير القرض…” نعم هو الأمين العام لاتحاد الشغل وليس ” يوسف الشاهد” رئيس الحكومة من بشرنا هذه المرة بقبول صندوق النقد منح تونس قرض. ولم يكتف بذلك بل نصب نفسه مدافعا عن الصندوق ملتمسا له الأعذار بقوله” من المنطقي أن يفرض صندوق النقد الدولي شروطه على تونس..” إذن فالحديث عن التخلص من هيمنة صندوق النقد الدولي هو من باب المزايدة على الحكومة ليس إلا. ثم فلنفترض جدلا أن اتحاد الشغل جاد وصادق في رفضه لسياسة الارتهان للقوى الاستعمارية. ما هي الحلول والبدائل التي يمتلكها ؟ هو لا يملك إلا الخواء المعشش في قصري القصبة وقرطاج, ولا يختلف عن السلطة إلا من حيث التسمية والمقر. وينطبق عليه المثل “تسمع جعجعة ولا ترى طحينا”.
الشراكة مع الدولة
بعيدا عن المزايدات الرخيصة وحرب المصالح مع الحكومة. يعد اتحاد الشغل جزء لا يتجزأ من الدولة. فهو يسير على خطاها ولا يعكر لها صفوا كلما تعلق الأمر بالنظام. فهو من حراس معبد الديمقراطية, ومدافع شرس عن فصل الإسلام عن الحياة. ولا يرضى بأي حال من الأحوال أن تهتز أركان “دولة الحداثة”. فكلما شعر بخطر يحدق بها يتحرك بكل ثقله ويشد من أزرها. ولنا في مهزلة الرباعي الراعي للحوار خير دليل. ولتكملة فصول الملهاة حصلت تونس على جائزة نوبل للسلام. جزاء بما فعلوا لحماية وثن الديمقراطية. كما كان اتحاد الشغل من العناصر الفاعلة في إخراج الدولة من مأزق آخر حين تقطعت بها السبل وبدأ الناس يدركون أنه لا خير يرجى من هاته الدولة, بمشاركته في مسرحية ” الباجي قائد السبسي” التي حملت عنوان “وثيقة قرطاج” وقد نجحوا إلى حد ما في صرف أنظار الناس عن أصل الداء. وتمكنوا من ربح الوقت. والتقاط الأنفاس.
كما لعب الاتحاد دورا حاسما في تثبيت أركان هذا النظام الوضعي بأسلوب مغاير لما ذكرنا. بمعارضته لابن النظام العالمي الجديد والموظف السابق بالسفارة الأمريكية بتونس “يوسف الشاهد” وذلك من خلال الحرب الوهمية التي يخوضها ضد الحكومة ومدارها قطاع التعليم. إضراب يتلوه إضراب. حجب للأعداد, وتلويح بسنة بيضاء, تهديد ووعيد.. ليس لإيجاد تعليم يساهم في صناعة أجيال مبدعة, قادرة على الابتكار, ترتقي بالبلاد إلى مصاف الدول المتقدمة. بل من أجل مطالب أنية رخيصة لا تغير من حال تعليم سقيم رسمت ملامحه قوى الاستعمار لتفريخ أجيال من المستهلكين وضعاف النفوس. والاتحاد بهذا التمشي يساهم في القضاء على ما تبقى من منظومة تعليمية مهترئة, ويدفع التوجه نحو خصخصته شأنه شأن الصحة وقطاعات أخرى. وهذا الذي أتى من أجله ” يوسف الشاهد”, تخلي الدولة عن مهامها والقضاء على ما تبقى من القطاعات الحيوية بدل النهوض بها. وتسليمها لأرباب المال وتفعيل النظام الرأسمالي بشكل مطلق. وفي هذا لم تجد الدولة أفضل من الاتحاد العام التونسي للشغل ليكون لها وللمسؤول الكبير يد عون.