من عجائب هذا الزمن الرديء أن يتكرّر أمام أبصارنا كل يوم مشهد تدخّل الدول الاستعمارية في السياسات العامة في بلادنا. والذي يحز في النفس أن أدوات تدخلها هم سياسيو البلاد الذين وضعوا أنفسهم رهن أسيادهم وأفسحوا لهم كل مجالات التدخل.
في هذا الصدد نسلّط الضوء على إتفاقية “الأليكا” وهي مسودّة مشروع بصدد الإكمال، اقترحها الاتحاد الأوروبي وكتب كلّ فصولها. وهي تتميّز بقدر كبير من التعقيد القانوني وبتعدّد فصولها وتشعّب مجالاتها التي تمس جميع القطاعات كالفلاحة والصناعة والخدمات، التقليدية منها والحديثة كالخدمات الإلكترونية والمصرفيّة. فهي تضمُّ 15 بابًا، يشمل كلٌّ منها، حسب القطاع أو المسائل المطروحة، العديد من الفصول. ويُنتظَر أن تُدجَّج بالملحقات، التي ستحوي القائمات والروزنامات والعديد من المسائل الأخرى.. ما يجعلنا نطرح السؤال حثيثا.. مع كل هذا التعقيد كيف لرئيس الحكومة يوسف الشاهد وحتى دون الرجوع إلى مجلس النواب.. أن يتعهد في أفريل 2018 من بروكسال بالتوقيع عل الاتفاقية في سنة 2019؟؟
اتفاقيّة استعماريّة بامتياز
“الآليكا”-اتفاقية التجارة الحرّة الشاملة والمعمّقة بين تونس والاتحاد الأوروبي-اتفاقيّة استعماريّة بامتياز – مقنعة “بالتعاون” و”الشراكة” و”دعم الديمقراطية” وغير ذلك من أكاذيب الغرب – لتشمل جلّ القطاعات بما في ذلك الفلاحة والخدمات بكل مكوّناتها من المهن الحرة…
فمثلا تحرير القطاع الفلاحي مع مجلة الاستثمار “الفضيحة” سيؤدّي حتما إلى امتلاك الأجانب للأراضي الفلاحية ويتم استغلالها بالانتفاع بالإعفاءات الضريبيّة… وستكون النتيجة تحويل متوسطي الفلاحين وصغارهم إلى مجرّد عمال زراعة لدى الأجنبي…
أيضا تدمير قطاع الخدمات بفرض برامج “مساعدة فنية” ضحلة وتافهة يقوم بها أشباه خبراء من الجهلة – الذين يؤتى بهم للنزهة والسياحة لا غير – تجانب مشاغل أصحاب المهنة.
والأخطر من ذلك أنّها تمنح الشركات، عبر آليّة التحكيم الخاصّ، امكانية مقاضاة الدول وتغريمها بمبالغ خيالية، كلّما حاولت اتخاذ اجراءات سياديّة لحماية مؤسساتها و حقوق شعوبها.
وهذا ما نجحت في تحقيقه الدول الاستعماريّة, إذ جعلت من البلد قاعدة خلفيّة لصناعتها؛ ففتحت الصفقات العمومية أمام “الشركاء الأوروبيين” وبشروط ومواصفات صيغت من قبلهم وعلى مقاسهم لا يمكن أن تكون سوى امتصاصٍ لبطالة إطاراتهم وبحثا عن أسواق جديدة لأصحاب المهن الحرة لديهم، أمّا شبابنا فليسوا سوى مجرد خدم لديهم.
بيع الوهم للشباب في تونس
فمن المضحكات المبكيات -ومن دلائل تواطؤ حكومة “يوسف الشاهد” وكل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة مع الاتحاد الأوروبي في نهب البلد وبيع الوهم للشباب في تونس- الطلب الرسمي التونسي الوحيد الذي يُسوَّق له في وسائل إعلامنا.. وهو المطالبة بإلغاء تأشيرة السفر لأرباب الأعمال التونسيين والتلميح بقبوله من الجانب الأوروبي، وهو ما أعلن عنه من بروكسل رئيس الوفد المفاوض، وزير النقل هشام بن أحمد، خلال الدورة الثالثة للمفاوضات حول اتفاق التبادل الحرّ المعمّق والشامل الذي يهدف إلى تحرير المبادلات التجارية في جلّ القطاعات الاقتصادية بين تونس والاتحاد الأوروبي (من 10 إلى 14 ديسمبر 2018).. مُغذّين بذلك أحلام الشباب التونسي للهجرة إلى أوروبا.
فإمكانية تسهيل إجراءات السفر موجودة أيضا في المقترح الأوروبي، لكنها خُصّصت في فصول الإتفاقية فقط لبعض العاملين في قطاعات مُحدَّدة جدًا وحسب تعاريف يقرّرها الجانب الأوروبي.. من قَبِيل أن يكون الشخص رئيس مؤسسة أو مديرا مُكلَّفًا بالانتداب والطرد أو خبيرا أو عاملا في الشركة الأمّ ويتنقل للشركة الفرع للقيام بتكوين، وَوِفْق شروط معقَّدة مثل أن تكون الشهادة معترفا بها وأن يكون صاحبها موظّفًا منذ أكثر من سنة في الشركة الأمّ وأن تكون لديه خبرة تفوق ثلاث سنوات على الأقل في مجال خبرته.
كلّ ذلك دون تداخل في صلاحيات الدول الأعضاء (خلافا لما يراد التمويه به، فإلغاء التأشيرات ليس من صلاحيات المفوضيّة، ومثل هذا الإجراء بقيَ خاضعا لسياسات الدول الأعضاء). وفي أحسن الأحوال فإنّ المدّة القصوى المقترحة للتواجد في الفضاء الأوروبي لإسداء الخدمة لا يمكن أن يتجاوز مجموعها ثلاث سنوات للمدراء ورؤساء المؤسّسات والخبراء، وسنة واحدة للعمَلة المتنقّلين في الفروع، وتسعون يوما في السنة للمتنقّلين للأعمال.
مع العلم أن عدد الوالجين لتقديم الخدمات المعنية على تراب بلد أوروبي يُحدَّدُ أيضا كمّيًا -مثل السلع- ويخضع إلزاما لتقدير سلطات البلد العضو من ناحية الجدوى الإقتصادية (الفصل 17 الى 21 من باب الإستثمار). في حين أنّ المواطنين الأوروبيين، مهما تكن وضعيتهم المهنية: أعراف، عُمّال، عاطلين عن العمل، أو متقاعدين، يتنقّلون بكلّ حرية إلى تونس؛ بدون تأشيرة وإن لزم الأمر ببطاقة هوية فقط.
وإذا ما كانوا مستثمرين، فإنّهم يتمتّعون بموجب قانون الإستثمار الجديد (المفروض ضمن الاتفاقات مع صندوق النقد الدولي) بحقوق لا تقلُّ عن حقوق المستثمر التونسي من التمتّع بالمنح الدولية والدعم والإعفاءات الجبائية في كل القطاعات ومجالات الاستثمار وبدون أيّ مقابل، كإلزامهم بتشغيل حدّ أدنى من اليد العاملة التونسية أو بنقل حدّ أدنى من التكنولوجيا.
لا يمكن إذن أن نتحدّث في ظلّ هذه الشروط عن إجراءات تُسهّل تنقّل التونسيين، بقدر ما هي شروط إضافية تُقنّن ولوج قلّة قليلة من أصحاب الأعمال التونسيّين إلى التراب الأوروبي -الذين لا يجدون أصلاً صعوبة في الحصول على التأشيرة. بل تسهّل هجرة الأدمغة في مجالات العمل الذي يحتاجها الجانب الأوروبي، في حين يضغط الاتحاد عبر قنوات أخرى خارج “الأليكا” للتمكّن من إمضاء اتفاق حول الهجرة يُجبر تونس على قبول المهاجرين المطرودين من الفضاء الأوروبي، مهما كانت جنسياتهم.
كم من رجل مريض وطفل وأمّ يموتون رغم أنّ دوائهم معروف وسهل تصنيعه، لكن يُحتَكَر من قِبَل الشركات والمخابر الصيدليّة لمدّة عشرين سنة، ولا حل إلا شراءه بالعملة الصعبة وبأسعار خيالية؟
من البديهي أن فتح القطاع الصحّي أمام رأس المال الأوروبي سيكون في صالح الأغنياء، الذين سيتمتّعون بأجود الخدمات الصحيّة، فيما ستتواصل معاناة الفقراء وأغلبيّة الناس.
ورغم صيحات الفزع التي أطلقتها جميع الهياكل ذات العلاقة بالشأن الصحّي، ورغم الشكايات التي وجّهت في الغرض من قبل عامّة النّاس، إلّا أنّ جميعها جوبه إمّا بالتجاهل أو بالوعود الزائفة والمشاريع الوهميّة.
وهو ما عبّر عنه سابقا الكاتب العام للجامعة العامة للصحّة السيد عثمان الجلّولي في مقال نشر بتاريخ 26 أكتوبر 2016 “إن الوضع الصحي في المستشفيات العمومية وخاصة منها في المناطق الداخلية تجاوزت مرحلة النقص لتصل حد المؤسسات غير الصحية ومؤسسات خاوية تفتقر إلى أبسط ضروريات الخدمة اللائقة في ظل تجاهل تام من كافة الحكومات المتعاقبة التي حولت الخدمة الصحية من خدمة مجانية إلى خدمة مدفوعة الثمن حتى أصبح المريض أمام واقع جديد ينذر بالخطر، مشيرا إلى أن الحكومات المتعاقبة وعوضا عن أن تسارع إلى النهوض بهذا القطاع الذي يزداد سوءاً يوما بعد يوم تعمد في كل مرة إلى التخفيض من ميزانية التصرف للمؤسسات الصحية خاصة بالنسبة للخط الأول (المجامع الصحية والمستوصفات)، معتبرا ذلك بمثابة المسمار الأخير الذي يدق في نعش قطاع الصحة العمومية الذي طاله الاستهداف منذ سنوات بنيّة التفويت فيه وخصخصته وتحميل الناس لنفقاتهم الصحية بما يعني تحويل الخدمة الصحية إلى سلعة للمتاجرة”.
وهذا ما ستزيد في تكريسه اتفاقيّة الغدر “الآليكا”
كم من شروط إضافية ستفرضها علينا المؤسّسات المانحة والإتحاد الأوروبي نفسه لتسريح أقساط القروض؟
تسعى اتفاقيّة “الأليكا”، إلى رفع -بمعنى إلغاء- كلّ الحواجز.. مثل التراخيص وكراسات الشروط والإجراءات الإدارية والمواصفات وكلّ القوانين الداخلية التي يمكن أن تُعتَبر إجراءات حمائية وتحدّ من تدفّق السلع والخدمات الأجنبية إلى السوق الداخلية.. وذلك في كلّ القطاعات بما في ذلك الفلاحة والخدمات والطاقة وكافّة مجالات الاستثمار والصفقات العمومية.
وفي نفس الوقت تفرض الاتفاقيّة ملاءمة التشاريع الداخلية التونسية مع التشاريع والمواصفات الأوروبية وبهذه الطريقة – عبر إخضاع السوق التونسية الداخلية للمواصفات الأوروبية – فإنّ الاتّحاد الأوروبي يضمن أيضا منع المنتوجات القادمة من الدول الأخرى إلى تونس (تركيا أو كوريا أو الصين)..بأكثر من ذلك.. بهذا الإجراء هو يمنع أيضا المنتجات التونسية من منافسة المنتج الأوروبي في السوق التونسية نفسها.
كم من القروض ستُحسب على دافعي الضرائب لتغطية عجز الميزان التجاري المتفاقم منذ عقود، والذي سيزيد تفاقمه أضعافا مضاعَفَة بموجب هذه الاتفاقية؟
إنه من السطحية بمكان أن يظن ظان أن أهداف الاتفاقيّة هي تلك المخطوطة في صفحاتها، فتلك صور الاتفاقية وأهدافها المعلنة، أما أهدافها الحقيقية فهي ما أرادته القوى الدولية التي وقفت خلفها.. وهو الاستمرار في الخضوع للمؤسسات الاستعمارية المتمثلة أساسا في صندوق النقد والبنك الدوليين وما يتبع ذلك من اتفاقية التبادل الحر.. وهذا كلّه ليس إلا غطاء لنقل كل موارد البلاد من سيطرة الدولة إلى هيمنة أصحاب رؤوس الأموال, دون أن يعود ذلك بأي نفع حقيقي على الناس.
..وهكذا فانه يتّضح يوما بعد يوم أن ما يعانيه الناس اليوم من شقاء وضنك في العيش مرده هذه السياسة المرتهنة للاستعمار والتي ينتهجها هؤلاء الحكام ومن معهم من طبقة سياسية فاسدة همها الاستحواذ على ثروات البلاد لمنفعتهم الخاصة على حساب شقاء الناس.