حدّث أبو ذرّ التونسي قال: مرّت بنا هذه الأيّام الذكرى الثلاثون لتأسيس اتّحاد المغرب العربي أو الاتّحاد المغاربي، وهو هيكل إقليمي يتكوّن من الدّول الخمسة المؤثّثة جغرافيّا للجزء الغربي من العالم العربي شمال القارّة الإفريقية (ليبيا ـ تونس ـ الجزائر ـ المغرب ـ موريطانيا) ، وقد تأسّس بمدينة مرّاكش المغربيّة بتاريخ 17/02/1989 إثر التّوقيع على ما سُمّي بمعاهدة إنشاء اتّحاد المغرب العربي…ورغم أنّ تونس هي الدّولة الوحيدة من بين الأعضاء الخمس التي قامت بدسترة الاتّحاد، حيث نصّ دستور 2014 في فصله الخامس على أنّ (الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي تعمل على تحقيق وحدته وتتّخذ كافة التدابير لتجسيمها)، رغم ذلك، فإنّ هذه الذّكرى مرّت مرور الكرام ولم يُحتف بها رسميّا عدا بعض الشّكليات، أمّا شعبيّا فلولا (الشيخ غوغل) وقصاصة اليومية ما كان لهذا الحدث أن يخطر ببال أحد المثقّفين فما بالك بسواد النّاس… وإحقاقا للحقّ فإنّ هذه الهياكل والمناسبات القومية والوطنية والمغاربية ـ إلى جانب كونها جوفاء عقيمة وأسماء على غير مسمّيات ـ فهي مسقطة على الشّعوب الإسلامية منبتّة عن تاريخها وثقافتها، متنافرة مع حضارتها وعقيدتها افتعلها الكافر المستعمر لسدّ الفراغ في الهويّة والانتماء الذي تركه سقوط دولة الخلافة الإسلامية سنة 1924، لذلك فقد وُلدت ميتة جثثا لا روح فيها فلم تُحدث صدى في الواقع ولم تُلاق القبول الشّعبي، ولولا الإرادة الاستعمارية والتسويق الرّسمي والهرسلة الإعلامية اليومية لما بقي لها ذكر…
ثقل وأهمّية وثروات
وقبل الخوض في تفاصيل الخلفية الاستعمارية من وراء إنشاء هذا الهيكل الإقليمي، من المفيد للتحليل أن نعرّج على الأهمّية الإستراتيجية التي تحظى بها الدّول المغاربيّة وحجم الثروات التي تزخر بها منفردة ومجتمعة: فالاتّحاد المغاربي يمثّل بلا منازع قوّة و ثقلا مركّبا على جميع المستويات الجغرافية منها والديمغرافية والإستراتيجية والاقتصاديّة… إذ يمتدّ على أكثر من ستّة ملايين كلم مربّع (أكبر من الاتّحاد الأوروبي) ويتجاوز عدد سكّانه 100 مليون نسمة أغلبهم من الشّباب، كما ينتصب في مكان استراتيجي مفصلي متوسّط بين إفريقيا و أوروبا بحيث يُعتبر مفتاحا للقارّتين ويتحكّم في الحوض الغربي للمتوسّط مع واجهة أطلسيّة متّسعة…أمّا على المستوى الاقتصادي فحسبك أنّه يشكّل معينا لا ينضب لعصب الحياة بالنسبة إلى الغرب (الطاقة والمحروقات والمناجم والموادّ الفلاحيّة)…إذ تعتبر الجزائر وليبيا من بين أكبر المنتجين والمصدّرين للنفط والغاز في العالم يكفي الاحتياطي لديهما لأكثر من 100 عام، ناهيك وأنّ الجزائر بمفردها تزوّد إيطاليا وأجزاء من أوروبا بالغاز الطّبيعي… ويزخر المغرب العربي بثروات منجميّة هائلة ومتنوّعة، فموريطانيا من أكبر منتجي الحديد في العالم (10.5 مليون طن) والمغرب يمتلك %70 من احتياطي الفسفاط العالمي، هذا إلى جانب الرّصاص والنّحاس و الذّهب والفحم والزّئبق واليورانيوم والرّخام…كما أنّ اتّساع مساحة الاتّحاد وامتداد سواحله وتعدّد أنماطه المناخية والتّساقطات الهامّة التي يحظى بها سنويّا مكّنته من فلاحة متنوّعة مزدهرة جعلت منه سلّة أوروبا بامتياز، فهو من أبرز منتجي التّمور وزيت الزيتون والحمضيّات والأسماك إلى جانب كمّية كبيرة من القموح والخضراوات… فإذا أضفنا إلى كلّ ما سبق النشاط الصّناعي المتنامي القائم على المناولة مع الغرب (ملابس جاهزة ـ بيتروكيمياويات ـ صناعات ميكانيكيّة ـ تركيب السّيارات والطائرات…) والحركيّة التجارية النّشطة لاسيما مع الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي، والسّوق الاستهلاكية لأكثر من 100 مليون حريف، والوجهة السياحية المغرية و المتنوّعة والثّرية والقريبة من أوروبا ،يتبيّن لنا بجلاء الحجم الحقيقي للمغرب العربي والرّهان الدّولي الذي يمكن أن يمثّله هذا الثّقل المركّب.
صراع استعماري
ممّا لا شكّ فيه أن هذا الحجم الهائل من الثروات وذاك الوزن الاقتصادي والجيوـ استراتيجي سيحظى باهتمام القوى الاستعمارية ويسيل لعاب شركاتها الناهبة ويؤجّج الصّراع الدّولي حول المنطقة المغاربية بصفتها خزّان محروقات ومنجما عدّا وسوقا واعدة ومزرعة خصبة وحديقة خلفية…إذ احتدم الصّراع لاسيما بين صاحبة الامتياز الأولى ووريثة الاستعمار الفرنسي الشرعيّة (بريطانيا) والقوّة العظمى الفتيّة (الولايات المتّحدة الأمريكية): فقد أولت أمريكا اهتماما بالشّمال الإفريقي منذ خمسينات القرن المنصرم ورغبت في إزاحة أوروبا عن مستعمراتها القديمة… وبعد أن استتبّ الأمر لبريطانيا في المنطقة أغلقت الوسط السّياسي المغاربي في وجه أمريكا بالكامل، لذلك استعاضت الولايات المتّحدة الأمريكية عن الأعمال السّياسية للنّفاذ إلى المنطقة بأسلوبين اثنين: الأوّل تمثّل في استغلال موضوع الإرهاب والاتفاقيات العسكرية (تدريب ـ أسلحة ـ قواعد..)، أمّا الثاني فتمثّل في المساعدات الاقتصادية والمؤسّسات الدّولية…وقد ظلّت أمريكا تناكف وتناور بهذين الأمرين باستمرار علّها تجد ثغرة تتسلّل منها: ففيما يتعلّق بالمغرب الأقصى ركبت أمريكا موجة التّحرّر من فرنسا وتمكّنت من إيجاد موطئ قدم لها مع محمّد الخامس سنة 1956، ولكن الأمر لم يستتبّ لها بالكلّية: إذ باعتلاء الحسن الثاني للعرش سنة 1961 عاد النّفوذ البريطاني بقوّة، فحاولت أمريكا لعب ورقة الصّحراء الغربية وقضية البوليزاريو إلاّ أنها لم تفلح… وفيما يتعلّق بالجزائر تدخّلت أمريكا في حرب الاستقلال عبر رجلها عبد الناصر وأوصلت عميلها بن بلّة إلى الحكم سنة 1962، لكن سرعان ما انقلب عليه بومدين سنة 1965 ورجّح كفّة بريطانيا من جديد فانتعش نفوذها، ورغم محاولة أمريكا لعب ورقة البوليزاريو والصحراء الغربية أيضا كذريعة للتدخّل وأخذ الحكم إلاّ أنّ مساعيها باءت بالفشل… أمّا على مستوى تونس وليبيا فمنذ استقلال البلدين وقعا تحت النفوذ البريطاني في قبضة رجلين قويّين مخلصين لبريطانيا: بورقيبة والقذافي، لذلك عجزت أمريكا عن كسر الطّوق البريطاني المضروب حول البلدين رغم محاولاتها المتكرّرة لاختراق الجيش والوسط السّياسي وشراء العسكريّين والسياسيّين… وطوال ثلاثة عقود من الفشل لم تيأس أمريكا بل ظلّت تناكف واستماتت في البحث عن ثغرة تتسلّل منها، وتكرّرت محاولاتها واتّسمت بالجرأة والخطورة خاصّة في فترة الثّمانينات بحيث خشيت بريطانيا على عملائها الصّغار الضّعاف وجدّت في البحث عن مخرج لها ولهم…
سياسة التّكتيل والتّجميع
لا شكّ في أن الواقعية البراغماتية كمدرسة فكرية وسلوك سياسي بضاعة بريطانية صرفة بامتياز، ناهيك وأنّها انحطّت بها إلى حضيض الحرباء التي تتلوّن وتتشكّل وفق محيطها بما يمكّنها من الذّوبان فيه والتّماهي معه…فسعيا منها لحماية نفسها و عملائها الضعاف والصّغار من ضغوطات الكبار وتحرّشاتهم لم تتورّع عن جعلهم ينحنون أمام العاصفة حتى تمرّ ويبالغون في الملاينة والمهادنة والمداهنة حدّ الانبطاح… وقد توعز إليهم بالسير في مخطّطات الأعداء إمّا قولا فقط أو قولا وفعلا دون المساس بجوهر المصالح البريطانية ،بل تجعلهم أحيانا يزايدون على تلك المشاريع ويتبنّونها ويسيرون فيها أشواطا ويبدعون في تنفيذها أكثر من أصحابها قطعا للطّريق أمام تعلاّت التّدخّل و الغزو…أمّا إذا ما استنفذت جميع الحيل والوسائل السّياسية المتاحة و تبيّن لها أنّها ستفقد سيطرتها ونفوذها لا محالة، فإنّها تركب الموجة وتنقلب على عميلها وتشارك عدوّها في غزوه والإطاحة به حتّى تضمن نصيبا من الحصّة ولا تخسر كلّ شيء… من هذا المنطلق وبما أنّ بريطانيا دولة صغيرة وضعيفة بجميع المقاييس مقارنة مع الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفياتي بحيث تبدو أمامهما درّاجة هوائية إزاء دبّابة، فإنّها عمليّا غير قادرة عسكريّا على حماية عملائها ومناطق نفوذها لذلك فهي تسعى إلى تجميعهم وتوحيدهم وتكتيلهم في هياكل وأطر سياسيّة لتقوّيهم وتتقوّى بهم في نفس الوقت، وتمكّنهم من حماية بعضهم البعض وتستعين بهم بالتّالي على الحفاظ على مصالحها من عاديّات الدّول الكبرى…هذه العقليّة البراغماتية مثّلت الخلفية السّياسية وراء نشأة هياكل إقليميّة من قبيل (مجلس التعاون الخليجي ـ دول السّاحل والصّحراء ـ حوض وادي النّيل ـ الهلال الخصيب ـ جامعة الدّول العربيّة…) وهي نفسها التي أثمرت اتّحاد المغرب العربي لتوظيفه في مجابهة التحدّيات الأمريكية نيابة عن بريطانيا…
اتّحاد “المغرب البريطاني”
لقد استشعرت الإمبراطورية العجوز مبكّرا الخطر الأمريكي المحدق بنفوذها في شمال إفريقيا، فبدأت في خطوة استباقيّة بالتّسويق لمشروع الاتّحاد المغاربي منذ الحقبة الاستعمارية حيث عقدت أوّل مؤتمر لحركات التّحرّر (حزب الاستقلال ـ حزب الدسّتور ـ جبهة التحرير الوطني) وذلك في مدينة طنجة (1958)… وبعد الاستقلال سارت بريطانيا في خطوات عمليّة لتجسيد مشروعها، فأنشأت اللّجنة الاستشاريّة للمغرب العربي (1964) بزعم تنشيط الرّوابط الاقتصادية بين دوله، وأصدرت بيان جربة الوحدوي (1974) ومعاهدة مستغانم في نفس السّنة ومعاهدة الإخاء والوفاق (1983)…إلى أن انعقد اجتماع (زيرالدا) المفصلي في الجزائر (1988) الذي عبّر فيه القادة المغاربيّون صراحة عن رغبتهم في إقامة الاتحاد المغاربي وقد تحقّقت هذه الرّغبة عمليّا بتاريخ 17/02/1989… وإنّ الأهداف المعلنة لهذا الاتّحاد تكشف بجلاء النوايا الاستعمارية البريطانية من وراء إقامته ،فمن ضمن أهم أهدافه:
ـ التنسيق الأمني والعسكري والدّفاع المشترك عن سيادة البلدان الأعضاء في الاتّحاد.
ـ صيانة استقلال كلّ دولة عضوة بحيث يُعتبر أي اعتداء على إحداها تعدّيا على كلّ أعضاء الاتّحاد.
ـ إقامة تعاون دبلوماسي وثيق بين الدّول الأعضاء.
ـ نهج سياسة مشتركة في مختلف الميادين السّياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ـ المساهمة في صيانة السّلام القائم على العدل والإنصاف.
وبذلك يتّضح أن هذا الاتّحاد ماهو إلاّ سياسة حمائيّة جماعيّة لكبح الجماح الأمريكي وحفظ مصالح بريطانيا وتأبيد سيطرتها على بلاد المغرب، يوظِّف فيها المغاربة ـ أرضا وبشرا ومقدّرات ـ وقودا مجانيّا لهذا الصّراع البريطاني الأمريكي… أمّا (تمتين أواصر الأخوّة وتحقيق التّقدّم والرّفاهية والتّنمية الاقتصادية والثقافية وفتح الحدود وتكريس حرّية التّنقل للأفراد والسّلع…) فهي من قبيل المصروف اللغويّ والدّسم الذي يمرّر عبره السّم الزّعاف ناهيك وأنه بعد نصف قرن لم يتحقق منها شيء ،بل تكرّست أضدادها على أرض الواقع، فهذا الاتّحاد لا يفعّل إلاّ على المستوى الدّفاعي عسكريّا وسياسيّا بأمر من بريطانيا ونزولا عند رغبتها ومصلحتها، وفيما عدا ذلك فحبر على ورق…