لعل رسم الكاريكاتير الذي نشرته صحيفة الواشنطن بوست بتاريخ 10/10/2018 يلخص مسألة اختفاء الإعلامي السعودي جمال خاشقجي بعد دخوله القنصلية بلاده في إسطنبول: (لم تنته القصة بعد… وما خفي أعظم).
التعليق:
شهد العالم الكثير من حوادث اختطاف معارضين أو اغتيالهم أو اغتيال سياسيين ولكن لم يشهد مثل هذه العاصفة الإعلامية الضخمة التي ضجت بها الدنيا في أوروبا وأمريكا حيث ارتفعت الصيحات المطالبة بتجلية مصير خاشقجي الذي كان قد دخل القنصلية السعودية لإنجاز بعض الأوراق الرسمية ليتمكن من المضي في عقد قرانه على خطيبته التركية السيدة خديجة. كما كتبت خطيبته مقالا في الواشنطن بوست بتاريخ 10/10/2018 ناشدت فيه الرئيس الأمريكي ترامب، وعقيلته، التدخل لتجلية مصير خاشقجي الغامض حتى الآن.
ورغم كثرة التسريبات الصحفية في وسائل الإعلام نقلا عن هذا المصدر “المطلع على التحقيق” أو ذاك، إلا أنه حتى اللحظة لم يصدر تصريح رسمي عن جهة رسمية لا في تركيا ولا في السعودية. وبالتالي شطحت هذه التسريبات بين جازم بقتل خاشقجي وبين أخرى تترقب تطورات إيجابية. وليس هناك من حقيقة قائمة إلا أنه دخل القنصلية ولم يخرج منها (حتى يثبت العكس).
والناظر في واقع خاشقجي يجد أنه “ابن النظام السعودي” وهو وصف نفسه، في مقابلة له على قناة بي بي سي، بأنه ليس “معارضا”. ولو تعلق الاختفاء (أو الاغتيال) بشخصية معارضة مثل محمد المسعري أو سعد الفقيه المقيمين في لندن، لربما أمكن تفهم الأمر، أما أن يتم تغييب شخص مثل خاشقجي فأمر مثير للريبة عن الهدف وراء هذا العمل. وحين يقع هذا الأمر في عقر القنصلية الرسمية فهذا يزيد الأمر دهشة وغموضا، فمن الممكن اغتياله في الشارع أو خطفه بكثير من الطرق المخابراتية المعروفة دون ارتباط الأمر بمقر رسمي للدولة. فقطعا لا يمكن الإقدام على هكذا عمل، في القنصلية، بدون موافقة من أعلى السلطات.
ولكن نحن نسأل ما بال هذه الدول الغربية التي صحا فيها الشعور الإنساني ليتباكى على مصير خاشقجي، وهي الدول التي أثبتت الوقائع الدامغة الصارخة بأنها لا تقيم وزنا لا لقيمة إنسانية ولا روحية ولا أخلاقية، بل لا تتورع عن ارتكاب حملات إبادة شنيعة سودت بها مجلدات ضخمة في تاريخها الاستعماري الكالح. وأقرب شاهد على ذلك الصور التي عرفت بـ”صور قيصر” التي وثقت، باعتراف المنظمات الحقوقية الدولية، جرائم سفاح دمشق في قتل الآلاف من المعارضين في سوريا. ومع هذا كله تواطأت الدول الغربية في جريمته، ولا تزال، بتمكينه من سفك المزيد من الدماء وتدمير ما لم يدمر بعد في سوريا، هذا دون الخوض في مصير الآلاف من المعتقلين في زنازينه، ومن المعروف أن وكالة المخابرات الأمريكية سي آي إيه كانت تستعين بخدمات جلاوزة بشار في التحقيق مع المعارضين من أهل سوريا بعيدا عن سلطة القانون وحقوق الإنسان… فأين الشعور الإنساني المزعوم عند هذه العواصم الاستعمارية؟ وقل مثل ذلك عن جرائم السيسي في مصر التي لم تنته بعد، لا بل حتى النظام السعودي الذي قام باعتقال المئات والآلاف من العلماء والمشايخ والمعارضين في داخل السعودية ولا زال الكثير منهم في السجون فلم نجد للإعلام الغربي كل هذه الضجة المضخمة؟!
نحن لا نبرئ النظام السعودي من سجله الإجرامي الفظيع، وكثير من شباب حزب التحرير عانوا الأمرين من قمع السلطات السعودية المتعاقبة منذ أيام فيصل، بما في ذلك حفلات التعذيب بالكهرباء، لا لشيء إلا لعملهم مع أبناء الأمة لحضهم على المطالبة بالعيش وفق أحكام الدين الحنيف. ولكن نريد هنا الكشف عن واقع أن الإعلام يُسخَّر لخدمة مآرب استعمارية ليست بريئة. فحين يراد الاقتصاص من نظام القذافي تقوم الدنيا ولا تقعد، وحين يريد جورج بوش (1992) إنزال قوات المارينز في الصومال يخترع إعلامه خرافة “المجاعة” لتبرير التدخل العسكري، وبمجرد خروج القوات الأمريكية تتبخر المجاعة المزعومة. وحين تريد أمريكا غزو فيتنام تخترع حادثة (خليج تونكين) التي اتهمت فيه فيتنام الشمالية بضرب بارجة أمريكية، وحين تريد أمريكا غزو العالم تخترع كذبة 11 أيلول 2001…
ونحن لا نقبل بحال، لا في السعودية ولا في أي بقعة من بلاد المسلمين، أن يكون للكافرين على المؤمنين سبيل، ونحذر من أن السياسات الجائرة لحكام السعودية، بمحاربتهم لله ورسوله وسيرهم الحثيث في علمنة المجتمع السعودي وقمع المطالبين بتحكيم الشريعة، تشرع الأبواب للتدخل الغربي ليعيث الفساد تحت زعم “الإصلاح” وحقوق الإنسان وما شاكل. فعلى أهل الرشد من المسلمين في السعودية المبادرة للأخذ على يد هؤلاء الحكام السفهاء الذين يوردون البلاد مورد الهلاك، وهم الذين لم نسمع لهم ركزاً ردا على إهانات ترامب الذي يمعن في إذلال حاكم السعودية علانية بمطالبته بدفع الجزية السخية لحماية عرشه من السقوط، فيصرح ابنه وولي عهده بمحبة ترامب كما جاء في مقابلته مع بلومبيرغ الأمريكية. فهل بعد هذا العار من عار وشنار؟!