استئصال الفساد المالي من الدولة

استئصال الفساد المالي من الدولة

نقصد بالفساد المالي ما أصبح مألوفاً في هذه الأيام وفي كل دول العالم تقريباً وعلى مستويات متعددة ابتداءً من سرقة الأموال العامة على أيدي الحكام وكبار المسؤولين في الدولة وبذخهم وعيشهم ببطر وترف، مروراً بالرشاوي وانتفاعِ أفراد معينين من عطاءات الدولة دون سواهم، وانتهاءً بتعيين أشخاص معينين في مراكز وظيفية لا يستحقونها، أو لا حاجة لوجودها ما يتسبب في تفشي البيروقراطية في أجهزة الدولة.

ويُعدّ شعار محاربة الفساد من أهم الأوراق التي رفعتها حكومات ما بعد الثورة، حيث عمدت القوى السياسية وبعض الخبراء إلى إرجاع الأزمة التي تعاني منها تونس إلى الفساد المستشري في الإدارة وأجهزة الحكم المختلفة من وزراء ومدراء وموظفين وهو ما أطلق عليه بمصطلح الدولة العميقة، ولذلك تركزت الجهود منذ البداية إلى تغيير أشخاص الحكم عبر الإنتخابات ومن ثم عبر التغييرات التي طالت الإدارة التونسية للحد من الفساد المالي الذي يعطل العجلة التنموية حسب أصحاب هذا التوجه.

إلا أنه وبعد عشر سنين على الثورة التي أطاحت بنظام بن علي وعائلة الطرابلسية التي استثرت على حساب الشعب التونسي وموارده المالية، اكتشف الناس أن الفساد ازداد تفشُيا وتعمّقا، فالرئيس السابق الباجي قائد السبسي سعى لقانون المصالحة مع رجال الأعمال الفاسدين ووقع تخفيض الأموال المنهوبة في عهده إلى النصف تقريبا، ورئيس الحكومة السابقة يوسف الشاهد الذي شنّ حملة ضد الفاسدين تدخّل لرجل الأعمال المتهم بالفساد, والصهر السابق لبن على مروان المبروك لدى الاتحاد الأوروبي لرفع التجميد على ممتلكاته، أما رئيس الحكومة الحالي الياس الفخفاخ الذي رفع شعار محاربة الفساد وصاحب مقولة “لا أحد على رأسه ريشة” أي لا أحد فوق المساءلة، فمورط في قضية تضارب مصالح، دون ان ننسى ملف الكمامات المتهم فيه وزير الصناعة ونائب بالبرلمان، وكذلك رأس الفساد المتمثل في تسليم مقدرات البلاد ومصيرها للقوى الغربية.

في الحقيقة، لم يكن الفساد أمرا جديدا في تونس، فقد كان من أهم العوامل التي دفعت الشعب التونسي للإطاحة بحكم بن علي، وبالرغم من الرغبة الشديدة في التغيير وتطهير البلاد من الفاسدين، إلا أن الفساد استمر بعد الثورة وازدادت شراسة الفاسدين عبر تشابك مصالح لوبيات المال والإعلام ورجال الحكم وبعض الاحزاب والسياسيين. والسبب الرئيسي في فشل القضاء على الفساد: هو الخطأ في تشخيص موطن الداء وسبب البلاء، فالطبيب الناجح هو الذي يميز بين المرض وأعراضه، والمحارب الكيس هو الذي يقطع رأس الأفعى لا ذنبها.

إن المشكلة تكمن في النفوذ الأجنبي ومنظومته الحضارية التي يتحكم من خلالها في البلاد، فيصنع العملاء والفاسدين ويرعاهم ويسخر لهم الإعلام الفاسد ويحميهم بقوانين ومراسيم ويفرضهم على الناس بقوة الجند وبضغط مؤسساته المالية، منظومة متكاملة من الفساد والإفساد والنهب، يتحكم الغرب والسفراء الأجانب بخيوطها وأدواتها، وكلما نجح الناس في الإطاحة بأحدهم، استبدله الغرب بغيره، ومن الخطأ الإنشغال بقطع ذنب الأفعى وترك رأسها ينفث سمه في جسد الأمة.

إن فشل الدول الرأسمالية المتقدمة والعادية في مكافحة الفساد راجع إلى عدم الامتثال لشرع الله سبحانه، فالشرائع الوضعية مهما تطورت وانضبطت قوانينها فإنها تبقى من وضع البشر ناقصة وعاجزة عن الإحاطة بما يصلح للإنسان، كما أن الأفراد يستطيعون الاحتيال عليها والنفاذ من ثغراتها، ولا يوجد لديهم الوازع الديني للالتزام بها، فتتغلب مصالحهم الفردية على مصالح العامة ويتفشى الفساد.

أما في المجتمع الإسلامي والشرع الإسلامي فإن هناك ثلاثة عوامل تحفظ المجتمع من الفساد: أولها تقوى الله في قلب الفرد المسلم، وثانيها عدالة التشريع الإلهي التي تلمسها الرعية كلها مسلمين وغير مسلمين، وثالثها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحاسبة التي تمارسها الأمة على كل انحراف سواء صدر من الحكام أو المحكومين. وبذلك يظل المجتمع الإسلامي في ظل دولة الخلافة نظيفاً من جميع أنواع الفساد.

 فالحل إذا في التحرر الشامل من النفوذ الغربي واسترجاع القرار، الحل في مشروع حضاري من خارج المنظومة الغربية، مشروع ينبع من عقيدته الأمة، مشروع الإسلام العظيم، فلا عدل إلا به ولا عزة إلا تحت ظله، فإذا ما وجد الرأي العام بين الناس على ضرورة التغيير على أساس الإسلام وناصر ذلك المشروع أهل القوة والمنعة، عندها يقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

قال تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون”

د. الأسعد العجيلي

CATEGORIES
TAGS
Share This