“استشارة وطنيّة حول إصلاح التّعليم” … طبخة الحصى
عاد هذه الأيّام الحديث عن إصلاح التّعليم مرّة أخرى، وتزامن مع العودة المدرسيّة إطلاق ما سُمّي الاستشارة الوطنيّة لإصلاح التّعليم. وبدأ الحديث عن إصلاح يُحدث ثورة على غرار ما أحدثه إصلاح 1958 (هكذا قال قيس الرئيس)، وسنسمع حثّا لا ينقطع عن وجوب المشاركة في الاستشارة وأنّها مشاركة في صنع مستقبل تونس فهل الأمر كذلك؟
فهل ستُحلّ أزمة التّعليم بهذه الاستشارة؟ هل لا مست الاستشارة حقيقة المشكلة؟
الواقع الذي يلمسه كل متابع نزيه هو أنّ الأمّة الإسلامية لا تنقصها القدرة على وضع البرامج أو الاستراتيجية أو حتى الأساليب المبدعة، ولا هي عاجزة عن استيعاب الوسائل التقنية الحديثة، ولا عن الإبداع في تطويرها، ويشهد لذلك سيل العلماء المسلمين في بلاد الغرب؛ في أميركا وبريطانيا وفرنسا، ومئات الآلاف من الأكفاء المبدعين في تونس ومصر أوالمدينة ومكة والعراق وسوريا وفلسطين والجزائر واستنبول وطهران ولاهور وجاكرتا والدار البيضاء وغيرها من بلاد المسلمين. فلسنا في حاجة إلى خبراء من الغرب أو الشرق، وعقولنا ليست بقاصرة ولا هي بالخاملة العقيمة عن الإبداع والإنتاج الفكري الرائع.
إنما القضيّة والمشكلة في التّعليم وفي غير التّعليم هي ارتهان القرار السياسي الذي سلّمه الوسط السياسي (حكّاما ومعارضة) إلى الغرب فكرا وتخطيطا وحتّى تنفيذا. لقد ارتهن القرار السياسي في بلادنا تونس (كما في غيرها من بلاد الإسلام)، وكان القرار الوحيد الذي أجمعت عليه النّخب العلمانيّة أن نكون تابعين ثقافيّا وفكريّا وسياسيّا للغرب بزعم أنّه هو المتقدّم ونحن المتخلّفون. وأنّ علينا أن نتّبعه حتّى نتقدّم، مقولة مهترئة ما فتأت تتكرّر على أفواه المثقّفين وغير المثقّفين حتّى صار حلم الأبناء بل الآباء أن يرسلوا أبناءهم إلى بلاد الغرب لا ليتعلّموا فقط بل ليعيشوا هناك….
ومنذ أن سيطر المحتلّ الأجنبي على بلادنا ومنه التعليم الذي أقامه على أساس الثقافة الغربية، فسعى سعيا إلى قتل روح الإبداع الفكري والعلمي في الأمّة، لتبقى تونس تابعة للغرب ومتخلفة في جميع شؤون الحياة، ولا أدل على ذلك مما جرى ويجري من تعديل لمناهج التعليم منذ 1958 حيث جاء بورقيبة ب”محمود المسعدي” وزيرا للتّعليم لينفّذ برنامج “جون دوبياس” الفرنسي وصولا إلى ما يُسمّى اليوم بالاستشارة الوطنيّة مرورا بمشروع محمّد الشّرفي وجماعته المعروف بمشروع تجفيف المنابع، كلّها تغييرات كانت بإشراف وتخطيط من الغرب المستعمر ومؤسساته وبتنفيذ من “نخب” علمانيّة حداثيّةثلّة من العجزة الذين تعوّدوا الاقتيات على فضلات الفكر الغربي البائس.
هل مرّ على تونس يوم لا يتدخّل فيه الغربيّون في مناهج تعليمنا؟ وما أمر المشاورات التي انطلقت منذ 2012 في شأن التّعليم ببعيد.
فهل ستكون هذه الاستشارة بعيدة عن تأثير الغرب وفكره؟ قطعا لا فهي تتمّ تحت وطأة الفكر الغربي.
المقدّمات تنبئ بالنّتائج:
-
تعوّدنا على الاستشارات في بلادنا، منذ ومن بن علي فهي ليست إلّا صوريّة للإيهام بأنّ الجميع شارك في صنع القرار، وأنّ قرار الإصلاح وتفاصيله هي كلّها من وضعنا نحن، ولكنّ الجميع يعلم أنّ القرار صنع في دوائر الغرب وصيغ على شكل اختيار من متعدّد وطبعا مهما اخترت فإنّك إنّما تختار ما وُضع لك،
-
وتأكّد هذا الأمر مع قيس سعيّد، في استشارته الشّهيرة حول النّظام السّياسي ثمّ في اللّجنة التي وضعها لتضع دستورا لتونس ثمّ في تنظيمه الاستفتاء حول دستور 2022، حيث رأى الجميع أنّ الاستشارات بكلّ أشكالها وصيغها سواء أكانت اليكترونيّة أو لجنة أو استفتاء كلّها كانت صوريّة إذ كان القرار متّخذا فالدّستور كان موضوعا وكذلك النّظام السّياسي المراد اتّباعه، فهل سيختلف الأمر مع استشارة التّعليم هذه؟ فخذ مثلا المجلس الأعلى للتربية هو قرار متّخذ مهما كانت نتائج الاستشارة، وعلمانيّة التّعليم أمر مقدّس عندهم فمهما كانت نتائج الاستشارة فإنّ التّعليم سيظلّ علمانيّا لائكيّا يفصل الإسلام دين ربّ العالمين عن تربية الأطفال وعن تكوين شخصيّاتهم…
-
من أشرف على وضع أسئلة الاستشارة؟ وعلى أيّ أساس فكريّ وُضعت؟ هل وُضعت على أساس الإسلام؟ قطعا لا، فما الذي سيتغيّر إذن؟
-
من سيشرف على تنفيذ مخرجات الاستشارة؟ هي ذات المجموعة العلمانيّة التي تُقدّس الغرب تقديسا.
-
من سيموّل إصلاح التّعليم؟ الجواب قطعا الدّيون والدّيون من القوى الكبرى التي تُهيمن وتعمل على استمرار هيمنتها وتبعيّة تونس لها.
-
ربط التّعليم بسوق الشّغل المحلّي والعالمي، فمن يهيمن على سوق الشّغل؟ أليست هي نفس القوى الاستعماريّة التي قسّمت العالم وفرضت أن تكون لها القيادة وأن نكون نحن هنا تبعا لما يريدون؟
هذه هي المقدّمات التي يُعاد الانطلاق منها كلّ مرّة فماذا أنتجت؟
ما هو مشاهد محسوس بعد سنوات طويلة من إصلاح 1958 ثمّ “إصلاح” 1992 من كثرة المتعلمين، ولكنّ التّخلّف لم يُغادرنا، بل ازدادت أزماتنا أزمات: بطالة أصحاب الشّهائد العليا ففي تونس اليوم أكثر من 5000 من حاملي شهادة الدّكتوراه (وهؤلاء يصنّفون من ضمن العلماء) ولكنّهم معطّلون مهمّشون.حتّى أصبح التّعليم مثارا للسّخرية، لا يرى معه الأطفال مستقبلا فلمّا رأوا حال العلماء والمعلّمين عزفوا عن التّعليم وعزفوا بالتّالي عن احترام التّعليم مدرسة ومدرّسا ومتخرّجا…. وبعد “تجفيف المنابع” فقدت المدرسة دورها التّربويّ بعد أن أصرّ جماعة الحداثة عن فصل الدّين عن المدرسة فضاعت الأخلاق وانهارت المثل وساد العنف وانتشرت الفوضى في المدارس والجامعات قبل الشّارع.
ليتأكّد اليوم أنّ التغيير الحقيقي لن يكون بالعلمانيّة والتّحديث التّغريبي كما يزعمون، وأنّ الإنقاذ لن يستطيعه من لا يرى نفسه إلّا تابعا للغرب.
القضية إذن ليست في الاستراتيجية التّعليميّة ولا في وسائل التعليم والرّقمنة ولا في عقولنا، وليست القضيّة في الإصرار على استعادة ذات المقدّمات التي خرّبت بلادنا ومجتمعنا تخريبا.
وإنما القضية أن يكون قرارنا السياسي ذاتياً مستقلاً نابعاً عن عقيدة هذه الأمة ومتقيداً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالعقيدة الإسلاميّة عقيدة سياسيّة، فهي فكرة كلّيّة عن الكون والإنسان والحياة تحدّد بوضوح ودقّة وجهة النّظر في الحياة وتحدّد للإنسان أهدافه وغاياته وتحدّد له كيفيّة تحقيق تلك الأهداف والغايات. وتشمل بذلك العمليّة التّعليميّة أهدافا وبرامج وتمشّيات، ولا نعني هنا ما يحلو للعلمانيين تسميته التّعليم الدّيني (فصلا له عن تعليم العلوم) إنّما نعني السّياسة التّعليميّة التي تهدف إلى تكوين شخصيّات قويّة فاعلة شخصيّات قائدة لتكون متبوعة لا تابعة.
وثقافة الأمَّة هي الصانع لشخصيات أفرادها، فهي التي تصوغ عقلية الفرد وطريقة حكمه على الأشياء والأقوال والأفعال كما تصوغ ميوله وبالتالي تؤثر في عقليته ونفسيته وسلوكه. ومن أهم الضمانات للحفاظ على الثقافة الإسلاميّة هو أن تكون ثقافتها محفوظة في صدور أبنائها وفي سطور كتبها، وأن تكون للأمة دولة تحكمها وترعى شؤونها وفق ما ينبثق عن عقيدة هذه الثقافة من أحكام وقوانين.
وهكذا فقط يكون الإنقاذ والتّحرّر الذي لن يستطيعه إلّا الرّجال الذين علموا علما أنّهم عباد لله وأنّ الله خلقهم لمهمّة عظيمة مهمّة قيادة البشريّة إلى الخير.
CATEGORIES كلمة العدد