استهداف الفصل الأوّل من الدّستور: إعادة دفن ميّت

استهداف الفصل الأوّل من الدّستور: إعادة دفن ميّت

تعيش تونس هذه الأيّام على وقع معركة مفتعلة مع الهويّة الإسلاميّة حلبتها الفصل الأوّل من الدّستور بوصفه يكرّس الإسلام السياسيّ ويجعل من الدّين مرجعيّة في الحكم..وممّا لا شكّ فيه أنّ الدّستور في تونس اعتُمد من قبل الكافر المستعمر لاستهداف الهويّة الإسلاميّة للبلاد وفصلها عن الإسلام والدّولة الإسلاميّة ،بل إنّ الفصل الأوّل من الدّستور بصيغتيه القديمة (1959) والجديدة (2014) هو الذي كفل ذلك وكرّسه ما يجعل من استهدافه من قبيل إعادة دفن ميّت..وقبل الخوض في دستور الثّورة ودستور قيس سعيّد الذي يطبخ الآن على نار هادئة ،نسوق بعض الملاحظات المتعلّقة بعهد الأمان بوصفه (باكورة الدّساتير في العالم الإسلاميّ) ودستور 1959 بوصفه (دستور الاستقلال المزعوم): ما يمكن ملاحظته بخصوص هذين الدّستورين أنّهما تجنّبا استفزاز الأمّة وإثارة حفيظتها والتّصادم معها قدر المستطاع وحاولا الالتفاف على الهويّة الإسلاميّة عبر التّلاعب بالألفاظ وإلباس أفكار الكفر جبّة الإسلام ودسّ السمّ في الدّسم والإيهام بالأسلمة والأصالة مرتكزَين على جهل الأمّة باللغة العربيّة وبعدها عن الثّقافة الإسلاميّة: فقد نصّ دستور عهد الأمان على (وجوب الاهتداء بأحكام الشّريعة الإسلاميّة الغرّاء باعتبار أنّ الإسلام هو الدّين الرّسميّ للدّولة وأنّ الباي والسكّان مسلمون) وإنّ التّلاعب بالألفاظ واعتماد التّعريض والعموميّات والنيّة الخبيثة المبيّتة في هذا الكلام واضحة جليّة :فالاهتداء كلمة عامّة مبهمة مائعة لا تعني انبثاق الدّستور عن العقيدة الإسلاميّة وأنّ الكتاب والسنّة أصل في استنباط الأحكام بل مجرّد فرع يهتدى به بوصفه (مرجعيّة).. وتعبير (الدّين الرّسمي للدّولة) يحيل على فصل الدّين عن الحياة ولا يفيد أنّ الإسلام عقيدة الدّولة ،فالدّولة لا دين لها بل تصدر عن عقيدة ومبدأ في أحكامها ودساتيرها وتشاريعها وقوانينها، أمّا نسبة الدّين إليها فيحصر الإسلام في العبادات وطقوسها والتّقويم والأعياد والمناسبات الدينيّة فحسب وهذا عين الفصل..كما أنّ التّبرير المقدّم للاهتداء بالإسلام (وأنّ الباي والسكّان مسلمون) لا يجعل من اعتناقنا إيّاه واجبا لكونه شريعة الله التي فرضها على عباده، بل لمجرّد كونه دين الباي والنّاس وهذا معطى غير ثابت تزول بزواله الحاجة إلى الاهتداء بالإسلام لاسيّما وأنّ الاستعمار يعوّل على محاربة الإسلام وتجفيف منابعه والتّبشير بالنّصرانيّة في صفوف الشّعب التّونسيّ لتغيير عقيدته..فهذا تعريض مغرض وتلاعب بالألفاظ مقصود ولكنّه عصيّ على أفهام الشّعب يستوي في ذلك العامّة ومشائخ الزّيتونة..

حقل ألغام

أمّا دستور 1959م فقد نصّ في الفصل الأوّل منه على أنّ تونس (دولة مستقلّة ذات سيادة الإسلام دينها والعربيّة لغتها والجمهوريّة نظامها) وهذا حقل من الألغام يقطر دهاء ومكرا: فاستقلال تونس عمّن..؟؟ هل هو عن فرنسا أم عن الدّولة الإسلاميّة..؟؟ فالمقصود هو فصلها عن دولة الخلافة بوصفها كانت إيالة تابعة للدّولة العثمانيّة وهذا ما فشلت الإمبراطوريّة الفرنسيّة في تحقيقه طيلة قرن إلاّ ربع من الاستعمار، إذا بدستور (الاستقلال) يقرّه لها بجرّة قلم (؟؟)..وتعبير (ذات سيادة) لا يفيد مطلق السّيادة لأنّه نكرة وليس معرفة ،فهو يحيل على جزء مبهم من السّيادة أي سيادة جزئيّة مبتورة منقوصة على شاكلة الدّويلات الوظيفيّة المنزوعة الدّسم الموجودة في العالم الإسلاميّ اليوم (الدّولة البلديّة)..أمّا التّركيبان (الإسلام دينها والعربيّة لغتها) فلا يعنيان أنّها دولة إسلاميّة لغتها الرّسميّة العربيّة :فلو ضربنا صفحا عن لفظة (دين) التي تحيل عمليّا على العلمانيّة وفصل الدّين عن الحياة كما أسلفنا ،فإنّ هكذا تركيب لا يفيد ـ لغةً ـ الالتصاق والتماهيّ فلا يفهم منه أنّ الإسلام عقيدة الدّولة ومصدرها التّشريعيّ وأنّ العربيّة لغتها الرسميّة بوصفها طاقة لغويّة لتفجير الطّاقة التشريعيّة للقرآن الكريم..وإنّ قصارى ما يمكن أن يفهم من هكذا تركيب هو أنّ لهذه الدّولة دين ولغة، أمّا الإسلام والعربيّة فهما مجرّد معطيين ظرفيّين وقتيّين ليسا بمعزل عن التّبديل والتّغيير، ناهيك وأنّ من أوكد مهامّ الاستعمار مسخ ثقافة البلاد المحتلّة وحضارتها وعقيدتها ومحاربتها حرب إبادة وإلحاقها بثقافته وحضارته وعقيدته..هذا فضلا عن التّصريح بتبنّي النّظام الجمهوريّ الذي يحيل على التخلّي عن نظام الحكم في الإسلام..والأصل في هذا الفصل أن يصاغ بالشّكل التّالي (تونس إيالة عثمانيّة تتمتّع بكامل السّيادة عقيدتها الإسلام ولغتها الرّسميّة العربيّة ونظامها الخلافة)..

تطهير لغوي

وكلّما توغّلنا بالدّساتير في الزّمن نلمس دون عناء الغربة العقائديّة والانبتات عن الإسلام والتوظيف لتصفية الحسابات مع محرّك الثّورة: فقد خضع دستور 2014 لعمليّة تطهير لغوي اصطلاحي نقّته من كلّ ماله علاقة بالشرع والفقه والإسلام. فمنذ أن انطلقت جلسات مناقشة الدّستور (فيفري 2012) كانت مسألة التنصيص على الشريعة الإسلاميّة فيه القضيّة السياسية الأكثر إثارة للجدل.. فقد هدّد مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي بالإستقالة وسحب حزب التكتّل من الإئتلاف الحاكم إذا ما ظهرت الشريعة في الدستور بأيّ شكل من الأشكال..كما عُدَّت مسألة الشريعة خطَّا أحمر بالنسبة إلى الأحزاب العلمانيّة و(غير ذات أهميّة) بالنسبة إلى حركة النّهضة (ذات المرجعيّة الإسلاميّة؟؟) حيث حسم رئيسها راشد الغنّوشي الموقف عندما أعلن أنّ حزبه لن يسعى إلى تطبيق الشريعة وأن الأحكام الشرعيّة في الكتاب والسنة (صفر فاصل) وأنّه يكتفي بالإبقاء على المادّة الأولى من دستور 1959.. على هذا الأساس لم ترد كلمة شرع أو شريعة أو قرآن أو سنّة أو أيّ من مصطلحات الفقه السياسي في دستور 2014 مطلقًا، وقد وقع اعتماد ألفاظ عامّة محايدة تنطبق على كلّ الأديان (دين ـ شعائر دينيّة ـ عقيدة ـ عبادات ـ دور عبادة..) على غرار ما ورد في الفصل الرّابع من المبادئ العامّة (الدّولة راعية للدّين كافلة لحريّة المعتقد وممارسة الشعائر الدّينية حامية للمقدّسات ضامنة لحياد دور العبادة عن الدّعاية الحزبيّة)..أمّا كلمة (إسلام) فلم ترد إلاّ خمس مرّات في كامل الدّستور (58 صفحة) وفي مواطن مشبوهة لتقييده حدودًا وممارسةً على غرار ما ورد في باب تعديل الدّستور (لا يمكن لأيّ تعديل دستوري أن ينال من الإسلام باعتباره دين الدّولة) وهذا ذمٌّ في قالب مدح يفصل الإسلام عن الحياة والحكم ويقصره على التقويم القمري والأعياد والمناسبات الدّينية..لقد واصل هذا الدّستور نهج سابقيه في إقصاء الإسلام من الحكم والتأكيد على الطّابع الجمهوري للنّظام والصّيغة المدنيّة للدّولة وتبنّي خيار الدّيمقراطية ومشتقّاتها وتعويم الهويّة والانتماء..إلاّ أنّه كان أكثر ثرثرة منهما كمًّا وكيفًا: فقد تضاعف عدد الفصول (78/149) وانتفخ متنها بالتفاصيل والجزئيّات والتنصيصات نزولاً عند مقتضيات الالتفاف على الثّورة على غرار (تحييد دور العبادة عن الدّعاية السياسيّة ـ الانفتاح على الثقافة الكونيّة ـ حريّة الضّمير ـ حريّة المعتقد ـ تكريس قيم التّسامح ونبذ العنف ـ حوار الحضارات ـ الشراكة بين الرّجل والمرأة..)..

الدّستور والتّبشير

لم يكتف (دستور الثّورة) بمحاربة الله ورسوله وشرائعه بل فتح البلاد وسخّر العباد للتّبشير بسائر الدّيانات السّماويّة منها والوضعيّة وأباح فتنة المسلمين عن دينهم وأجاز الارتداد عن الإسلام وكفل ممارسة مختلف الطّقوس الدّينيّة ومنع المسلمين من حماية عقيدتهم والدّفاع عن دينهم ،وهذا ما لم تجرؤ عليه فرنسا الاستعماريّة نفسها طيلة 75 سنة ،ودونك الفصل السّادس من توطئة الدّستور: فكون الدّولة (راعية للدّين كافلة للشّعائر الدينيّة) ليس المقصود به الإسلام دين الشّعب التّونسيّ بل يفيد أنّ الدّولة راعية لمطلق الدّين ولمطلق الشّعائر سماويّة كانت أم وضعيّة بما في ذلك الهرطقات كالبهائيّة وعبدة الشّيطان لأنّ الصّيغة وردت مطلقة عامّة (الدّين ـ الشّعائر)..وكون الدّولة (كافلة لحريّة المعتقد) ـ هكذا في المطلق ـ فهذا تنصيص صريح على إباحة الارتداد عن الإسلام والتّشجيع عليه والسّماح لكلّ من هبّ ودبّ بفتنة التونسيّ المسلم عن عقيدته محميّا بالقانون..وكون الدّولة (كافلة لحريّة الضّمير) فهذه حركة بلطجيّة لا أخلاقيّة يباح بمقتضاها للتونسيّ كلّ الرّذائل والموبقات مادام ضميره مرتاحا إليها بما في ذلك الإلحاد والردّة والانتقال من دين إلى آخر وتناول الخمر والمخدّرات والزّنا وسفاح القربى والشّذوذ الجنسيّ سحاقا ولواطا.. بل ينصّ الفصل السّادس أيضا على أن تضطلع الدّولة بدور (البلطجيّ) الذي يرغم النّاس بالقوّة على قبول النّشاط التبشيريّ (تلتزم الدّولة بحماية المقدّسات ومنع النّيل منها كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتّحريض على الكراهيّة والعنف وبالتصدّي لها) فكلمة (مقدّسات) وردت مطلقة غير مقيّدة بالإسلام بما يفيد حماية الدّولة للدّيانات الغازية للمسلم التّونسيّ في عقر داره والتكفّل بمعابدها ومنشآتها وحماية أتباعها ورعايتهم ومنع الاعتداء عليهم ماديّا أو معنويّا ـ ولو بمجرّد التكفير ـ وضمان ممارستهم لشعائرهم وطقوسهم وإجبار أهل البلاد المسلمين ـ بالحديد والنّار إن لزم الأمر ـ على القبول بذلك والرّضا به  والتخلّي عن الأحكام الشّرعيّة القطعيّة في حقّ الكافر والمرتدّ..بمعنى تجريد العقيدة الإسلاميّة من الطّريقة الشرعيّة التي تحمي بها نفسها وتوظيف الدّولة وتسخير مقدّراتها في التّبشير الذّاتي لشعبها..

وبالمحصّلة فإنّ استهداف البند الأوّل من الدّستور هو بمثابة إعادة دفن ميّت وهو تعبيرة مستفزّة عن البصمة الفرنسيّة الجديدة في البلاد التي جاءت مع قيس سعيّد هذه البصمة التي تعادي الإسلام هستيريّا غريزيّا وتحارب كلّ ما يشتمّ منه رائحة الشّرع الإسلاميّ. وهي أيضا بصمة بعيدة عن سياسة الاحتواء والتّوظيف البريطانيّة وهي التي ستعيد الإسلاميّين إلى الحلبة في تونس. وربّ ضارّة نافعة..

أ, بسام فرحات

CATEGORIES
Share This