الأجندة الأطلسية تطرق أبواب شمال أفريقيا, فكيف نرُدّها ونصُدّها؟

الأجندة الأطلسية تطرق أبواب شمال أفريقيا, فكيف نرُدّها ونصُدّها؟

مقدمة

في المدة الأخيرة، توالت الوفود العسكرية الأطلسية على تونس والجزائر، ما جعل هذه الأخيرة تشعر بقلق تجاه الأجندة الأطلسية التي حاوطت أطرافها كما عبّرت عن ذلك في مناسبات سابقة، حيث صارت كل من تونس والمغرب أعضاء في حلف الناتو من خارج الحلف، وصارت قضية الصحراء الغربية بمثابة الصداع في رأس القادة الجزائريين، كما تزايد التواجد العسكري الأمريكي في إسبانيا، ومع ذلك تتوالى المساومات وتتعدد العروض المغرية لجنرالات الجيش من أجل دفع الجزائر إلى الخضوع إلى هذه الأجندة، فتفك بذلك ارتباطها بالأوروبيين لصالح أمريكا وحلفها الأطلسي. فإلى أي مدى سينجح حلف شمال الأطلسي في مهمة إخضاع منطقة الشمال الإفريقي إلى نفوذه؟ وكيف يمكن أن نرد كيد المستعمرين إلى نحورهم؟

قراءة لتسلسل الأحداث

بداية، يجب الإشارة إلى أنه نتيجة للهاجس المتصاعد للغرب وعلى رأسه أمريكا بقرب قيام دولة للمسلمين تنهي تحكم الاستعمار في بلاد الإسلام، وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وهزيمة الاشتراكية، فقد سارعت أمريكا لا إلى التفرد بقيادة العالم فحسب، بل إلى محاولة صياغة المنطقة الإسلامية بمشاريع هيمنة عليها مثل “الشرق الأوسط الكبير” في 2003، ثم عدّلته إلى “مشروع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” وقدّمته إلى الدول الصناعية الثماني التي انعقدت في جوان 2004. وقد أراد الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن لأردوغان رئاسة مشروع الشرق الأوسط الكبير بعد حصوله على ميدالية الشجاعة اليهودية من اللوبي اليهودي في أمريكا، وذلك بحسب اعترافات الراحل نجم الدين أربكان، أستاذ أردوغان – قبل انفصاله عنه – في مؤتمر خاص عقد في 2007 بمركز أبحاث الاقتصاد والاجتماع في تركيا. ولذلك، صار التطبيع مع كيان يهود حجر الزاوية في هذا المشروع الذي يرعاه النظام التركي، ولعلّ هذا هو سر تقارب تركيا في الفترة الأخيرة مع بقية الأنظمة المطبعة في المنطقة على غرار مصر والسعودية وقطر والإمارات، وحتى المغرب التي التحقت هي الأخرى بقافلة المطبعين علنا، هذا فضلا عن علاقة حكام تركيا بقادة كيان يهود والتي صارت تتجذر يوما بعد يوم.

وسعيا لمنع قيام الخلافة الراشدة التي صارت تدق باب الساحة الدولية، فقد سعت أمريكا إلى تطويق البلاد الإسلامية بالقواعد العسكرية برّا والبوارج الحربية بحرا. وكان من محاولات إنشاء القواعد القرار الذي اتخذه جورج بوش الابن في 06/02/2007م بإنشاء قيادة عسكرية أمريكية في أفريقيا “أفريكوم”.

ثم أمام موجة الثورات العربية التي انطلقت شرارتها من قلب الشمال الأفريقي تونس أواخر 2010، ازداد الاهتمام الأمريكي بهذه المنطقة وازداد في المقابل تململ أبنائها تفاعلا مع قضايا الأمة، وصارت بذلك شمال أفريقيا ضمن أولويّات البيت الأبيض من أجل الحفاظ على التفرد بتسيير دفة السياسة العالمية دون منافس، لتسارع أمريكا بحسم الأمور في مصر لصالح عميلها السيسي، وتجد لنفسها موطئ قدم في ليبيا مستعينة بتركيا، وترغم تونس سنة 2015 على الحصول على صفة “حليف أساسي” من خارج الناتو، وتنشئ في العام نفسه قاعدة عسكرية تابعة للأفريكوم جنوب إسبانيا على تخوم شمال أفريقيا، وتعيد ترتيب الأوراق في السودان لصالح رجالاتها من العسكر وتحاول فرض الحلول الأمريكية على عملاء بريطانيا، وتسعى إلى افتعال الأزمات وزعزعة نفوذ الأوروبيين في المنطقة على غرار ما يفعله زعيم جبهة البوليساريو ضد النظام المغربي وما تشكله منطقة الصحراء الغربية من خطر على الجارة الجزائرية أيضا، وكل ذلك يصب في سياق واحد في علاقة بالصراع على الشمال الأفريقي، هو التمكين لأمريكا وحلفها الأطلسي والوصول إلى الجزائر ذات الثقل الاستراتيجي في المنطقة بعد محاوطة أطرافها وتطويقها بالكامل، لما لها من شأن لا تريد قوى الكفر أن تفرط فيه لصالح المشروع الحضاري الإسلامي المتصاعد.

نعم، إن الجزائر هي دولة ذات شأن ووزن، قاومت مخططات أمريكا منذ عهد بومدين، وتصدت لكل محاولات إنشاء قاعدة عسكرية للأفريكوم، لا في الجزائر فحسب، بل في تونس وليبيا أيضا.

ولكن أمام تغير المعطيات الإقليمية والدولية، والتي تُرجمت على أرض الواقع بتراجع نفوذ بريطانيا في كل من ليبيا وتونس، وبتراجع النفوذ البريطاني والفرنسي دوليّا، بل بغياب التنسيق بين الأوروبيين أنفسهم في مواجهة التمدد الأمريكي في المنطقة، فإن الجزائر صارت مهددة من أمريكا وحلفها الأطلسي أكثر من أي وقت مضى، خاصة بعد حسم الأمور في الشرق الأوسط لصالح بقاء النظام السوري برئيسه المجرم بشار الأسد، وما لذلك من دلالة على مسار الثورات العربية وعلى مواقف الجزائر التي صارت تُدفع نحو التطبيع الكلّي مع النظام السوري وإنهاء مسار “الربيع العربي”، بل تُدفع حتى إلى التطبيع العلني مع الصهاينة.

أما المغرب، فقد قررت أمريكا منذ وقت مبكر إدماجه داخل الحلف كأول دولة من شمال إفريقيا ومن العالم العربي تدخل نادي الناتو، حيث اعتبرته حلقة مهمة في استراتيجية الحلف الأمنية بسبب قربه من أوروبا وكونه بوابة القارة الإفريقية إلى الغرب. فقد أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش في جوان 2004، وقبل أيام قليلة من انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي في تركيا، قراره بجعل المغرب حليفا قويا من خارج البلدان الأعضاء في حلف الناتو بهدف تعزيز التعاون الأمني والعسكري معه قبل توسيع هذا التعاون إلى دول المغرب العربي الأخرى كالجزائر وليبيا وتونس وموريتانيا، وتقوية التحالف الأمني والاستراتيجي بين الحلف والمنطقة المتوسطية.

وللتذكير، فقد انطلق الحوار بين حلف الناتو والدول المتوسطية في النصف الأول من التسعينات مع انهيار الكتلة الشرقية وزوال القطبية الثنائية وحل حلف وارسو الذي كان يضم البلدان الاشتراكية، حيث أعلن بيان وزراء خارجية دول الحلف المجتمعون في قمة بروكسيل عام 1994 استعداد الحلف لفتح حوار مع البلدان المتوسطية حالة بحالة بهدف تقوية الأمن الإقليمي في المنطقة، وفي شهر فيفري 1995 تم بشكل رسمي دعوة كل من المغرب والكيان الصهيوني ومصر وتونس وموريتانيا إلى الحوار مع الحلف، بينما تأخرت دعوة الجزائر إلى فيفري 2000 لكن التحول الأبرز في العلاقات بين الدول المتوسطية والحلف حدث في قمة براغ عام 2002 التاريخية التي أدخلت تحولا نوعيا في مفهومه للاستراتيجية الأمنية ومفهوم الإرهاب وتوسيع مهامه خارج أوروبا، إذ في تلك القمة برزت أهمية البحر الأبيض المتوسط بالنسبة لمستقبل الحلف، وأصبح الأمن في أوروبا مرتبطا بالأمن والاستقرار في المنطقة المتوسطية.

سياسات حلف شمال الأطلسي، بين الأمس واليوم

لقد أنشئ هذا الحلف العسكري في البداية للصراع ضد المعسكر الاشتراكي، ودفاعا عن أوروبا من خطر تغول الاتحاد السوفياتي وتوسعه في البلدان الأوروبية، ولكن إثر سقوط هذا الأخير، توسعت استراتيجية الحلف لتتدخل في المشاكل الأمنية في أوروبا، بدل الدفاع الخارجي عنها كما كان في أصل نشأته، وبذلك صار هذا الحلف خطرا على الأوروبيين أنفسهم، لقيادة أمريكا الفعلية له، كما أنهم فشلوا في تشكيل قوة أوروبية خاصة.

ثم مع تنامي الوعي الإسلامي، وجد الحلف نفسه أمام مخاطر جديدة تهدد البلدان الأعضاء فيه، منذ بداية الألفية الجديدة، حيث يعتبر إرسال قوات تابعة للحلف إلى العراق وأفغانستان تحولا كبيرا في استراتيجية هذا الأخير الذي كانت مهماته العسكرية في السابق تقتصر على الدائرة الترابية الأوروبية. ولكن إصرار أمريكا على لعب دور “شرطي العالم” من خلال هذا الحلف جعلها تطلق يديها في منطقة الشرق الأوسط وتعبث بأمن المنطقة، قبل أن تحاول الانتقال إلى شمال أفريقيا أين يكتمل مشروع الشرق الأوسط الكبير. ومنذ تبني هذه الاستراتيجية من قبل الحلف، كان لتركيا الدور الأبرز في تنفيذ الأجندة الأطلسية خاصة بعد حصولها على ضوء أخضر أمريكي.

أما اليوم، فإن أمريكا ماضية في تنفيذ نفس سياسة الهيمنة، محاولة توظيف الأحداث والمستجدات الدولية لصالحها، وعلى رأسها أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تحاول من جهة تحجيم روسيا والحد من توسعها، عبر تقديمها كفزاعة تخيف بها الدول الأوروبية وحشد الرأي العام الدولي ضدها، ثم تدفع قادة هذه الدول إلى المسارعة بالانضمام إلى الناتو. ومن جهة أخرى، فإنها عازمة على إخضاع كامل منطقة الشمال الإفريقي إلى أجندة الأطلسي، عبر افتعال الأزمات، حيث سبق وأن تدخل الناتو في ليبيا، ومن يدري ما الدور المنوط بتونس والمغرب في علاقة بهذا الحلف الذي ينتظر من البلدين تعاونا وتنسيقا عسكريا ومخابراتيا.

في هذا السياق، تأتي زيارة المدير العام للأركان العسكرية الدولية لحلف الناتو “الفريق هانس وارنر وييرمان” إلى الجزائر على رأس وفد عسكري رفيع المستوى يوم 11 ماي 2022، حيث استمرت الزيارة يومين التقى خلالها قائد الأركان الجزائري الفريق سعيد شنقريحة ليبحث معه التعاون بشأن التحديات الأمنية في المنطقة. وقد كان ذلك إثر يوم فقط من زيارة خاطفة وغير معلنة لوزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” التقى فيها بنظيره الجزائري وبالرئيس عبد المجيد تبون، الذي امتنع مسؤول الناتو عن مقابلته دون ذكر الأسباب.

وفيما تشير المعطيات والأرقام إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه الجزائر في تأمين حاجيات الغرب المتزايدة من الغاز والنفط، خاصة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية والبحث عن بدائل للطاقة الروسية، فإن التقارير الألمانية تتحدث عن ضغط كبير تعيشه الجزائر خلال هذه الفترة، إثر تزايد التجاذبات الخارجية بين روسيا والغرب بقيادة أمريكا، وهو ما يفسر زيارة مسؤول الناتو في هذا التوقيت بالذات وترويجه للأجندة الأطلسية في المنطقة.

أما عرّاب هذه الأجندة، فهو أردوغان الذي استقبل الرئيس الجزائري في أنقرة لأول مرّة منذ 17 عاما، حيث مثلت الزيارة فرصة لتبادل الآراء والمواقف حول الملفات الإقليمية وعلى رأسها الملف الليبي، كما تم التوقيع على 15 اتفاقية بين البلدين، تبدو ثمنا لاستصدار موقف مساند للرؤى الأمريكية في ليبيا وربما في أوكرانيا، فيما زار وفد من فريق النزاهة التابع للناتو تونس (من 16 إلى 19 ماي 2022) تزامنا مع زيارة الرئيس الجزائري إلى تركيا، وباعتبار سفارة تركيا هي نقطة اتصال الناتو في تونس، فقد تفردت السفارة بنشر خبر تنظيم جلسة لتبادل نتائج المحادثات والمشاورات التي قام بها وفد الناتو مع الجانب التونسي خلال هذه الزيارة. هذا طبعا، دون أن ننسى مشاركة وزير الدفاع التونسي في اجتماعات حلف شمال الأطلسي في ألمانيا الشهر الماضي بحضور صهيوني. حيث كان الاجتماع متعلقا بالأزمة الأوكرانية.

وفيما تشترط روسيا لوقف الهجوم العسكري التزام أوكرانيا بعدم الانضمام إلى الناتو، فإن الجزائر لا تزال تناور لتبدو وكأنها مع روسيا سياسيا، ولكنها مع الناتو عسكريا. فيما بدا موقف تونس من الحرب الروسية الأوكرانية أكثر وضوحا، عبر تصويتها لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين الحرب الروسية على أوكرانيا.

خاتمة

خلاصة القول إذن، أن السياسة العالمية تدار اليوم من طرف واحد، وكل من ينتمي لهذا الطرف (ألا وهو الولايات المتحدة) فإن له سطوة ومسموحاً بها لتحقيق التوازن الذي ترغب به أمريكا، وفي الوقت نفسه القضاء على الخصوم الإقليميين وغيرهم، مع المحافظة على إقرار ما ترغب به الولايات المتحدة. هذا الدور، أسند اليوم إلى تركيا، وهي لا تكاد تخرج عنه في جميع آرائها ومواقفها السياسية، حتى صار زعيمها يصول ويجول نيابة عن الأمريكان، يتصرف وكأن الحلف الأطلسي ملك يمينه، زاعما أنه حفيد العثمانيين، مع أنه مجرد بيدق من بيادق الاستعمار مادام مواليا للكفار، يقاتل تحت جناحهم ويرفع ألويتهم ويقدس مجرم هذا العصر وهادم دولة الخلافة مصطفى كمال أتاتورك.

إن هذا النظام الدولي الحاكم والمتحكم في مفاصل السياسة والواقع السياسي إذا لم يكن له ند في المواجهة سوف يبقى قابعا على صدور الجميع ويدفعهم لتحقيق مصالحه وهم يعلمون ذلك للأسف، وإن هذه الأجندة الأطلسية التي تستعملها أمريكا ليست في حقيقتها سوى مظلة تجمع أعداء الله ممن ينطبق عليهم قوله سبحانه: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُون﴾. الحشر/14.

لذلك فإن واجب العقلاء اليوم هو الوقوف لمواجهة هذه الغطرسة والهيمنة ما دامت هيمنة عبودية وليست هيمنة عدالة واستقرار، فنحن أحوج ما يكون إلى إعادة التوازن بين القوى العالمية حتى لا نصبح عبيداً للرأسمالية، ولن يتحقق لنا لذلك إلا بالإسلام الذي أنزله لعباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور.

قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ  هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون﴾ الصف /8-9.

المهندس وسام الأطرش

CATEGORIES
Share This