حدّث أبو ذرّ التونسي قال: انطلقت هذه الأيّام في مختلف ولايات البلاد أولى الجلسات لتنصيب المجالس البلديّة وانتخاب رؤساء البلديّات والمساعدين واللّجان في ظلّ حرب مواقع شرسة بين القوائم، لاسيما النّهضة والنّداء…هذا التّكالب على تركيبة تلك المجالس يُفسّر سياسيًّا بالثّورة القانونيّة التي أحدثها دستور 2014 صُلب التنظيم الإداري والترابي للبلاد التونسيّة: فقد أعاد توزيع السّلطات واختصاصاتها وصلاحيّاتها وارتقى بمنظومة الجماعات المحليّة من نظام إداري خدماتي مركزي إلى نظام سياسي تنفيذي لامركزي ينطبق عليه بامتياز اصطلاح (الحكم المحلّي والسّلطة المحليّة)…على أنّ هذه الثورة ما هي في الواقع إلاّ تتويج منطقي لسيرورة تصاعديّة من النصوص التشريعيّة الدّستورية والقانونية والأوامر الحكوميّة والرّئاسية تستهدف تفكيك الدّولة وضرب مركزيّة الحكم فيها انطلقت مع مسرحيّة الاستقلال وتناولت بالضّبط والتعديل والتنقيح عمل الجماعات المحليّة واختصاصها وصبغتها القانونيّة وأنظمتها الماليّة وكلّ ما يتعلّق بها: ضربة البداية كانت في 14 مارس 1957 تاريخ إصدار قانون البلديّات الذي نظّم رسميًّا كيفيّة عملها في كامل تراب البلاد…سنة 1975 صدر القانون الأساسي للبلديّات الذي ألغى جميع الأحكام السّابقة وقنّن دور البلديّات وتركيبتها ومهامّها، وقد تمّ تنقيح هذا القانون ثلاث مرّات (1991+1995+2008) …بعد ثورة 2011 تمّ حلّ معظم المجالس البلديّة وتعويضها بنيابات خصوصيّة مقترحة من قبل نوّاب الجهات في المجلس التّأسيسي وانصبّ الاهتمام على التوسّع والانتشار، فغطّت البلديّات معظم القرى والمداشر والأرياف حتّى بلغ عددها سنة 2014 نحو 264 بلديّة…وفي سعي محموم لتغطية أكبر قدر ممكن من تراب البلاد وبالتّوازي مع صدور مجلّة الجماعات المحليّة في نسختها الجديدة، قفز هذا العدد سنة 2018 ليصل إلى 350 بلديّة…وقد ارتقت هذه المجلّة ـ في إطار الدّيمقراطية التشاركيّة ـ بالجماعات المحليّة إلى الصبغة اللاّمركزية والصلاحيّات الترتيبيّة الواسعة والنزعة الاستقلاليّة الماليّة والإداريّة في إطار مبدأ التّدبير الحرّ بما يُفضي بالبلديّة إلى شبه ولاية أو إمارة بل دويلة داخل الدّولة، ويحيل على دور سياسي ثابت وقوي للمجلس البلدي…
صلاحيّات متعدّدة
إنّ الأصل في جهاز البلديّة أنّها مؤسّسة إداريّة خدماتيّة مستقلّة عن السّلطة السياسيّة لديها صلاحيّات ذاتيّة محدودة تتمثّل أساسًا في تقديم شتّى الخدمات للمتساكنين في دائرتها الرّاجعين إليها بالنّظر…من ذلك مثلاً الخدمات الإداريّة (مضامين ـ تعريف بالإمضاء ـ رخص متنوّعة…) الحرص على حسن سير المرفق العمومي (تعبيد الطرقات ـ ترصيف ـ الإنارة العموميّة ـ مساحات خضراء…) والصحة العموميّة (النظافة ـ رفع الفضلات ـ مراقبة المسالخ ـ مقاومة الحشرات والحيوانات السائبة والضجيج ـ هدم البناءات الآيلة للسقوط…) والتجارة (فتح الأسواق وتهيئتها وتنظيمها والإشراف عليها ومراقبة ما يباع فيها…) والموارد المالية الذاتيّة (أداءات ورسوم وأكرية ومداخيل متنوّعة…) والنشاط الثقافي والرّياضي (بعث المكتبات العموميّة والفضاءات الشبابيّة وتسمية الأنهج والشوارع…)…لكن وبحكم تعدّد الاختصاصات وتشابك سُلط الإشراف، فإنّ للبلديّة صلاحيّة أخرى غير ذاتيّة تُفقدها شيئًا فشيئًا استقلاليّتها عن السّلطة السياسيّة: فهي تكتسب صلاحيّات تشاركيّة مع الدّولة على غرار تنمية الاقتصاد المحلّي ودعم التّشغيل ودفع الاستثمار وإحداث ملاعب رياضيّة ومسارح ومنتزهات طبيعيّة والتصرّف في الشريط الساحلي ومدّ شبكات التطهير والإشراف على النّقل الحضري والمدرسي، وهي كلّها مشاغل للدولة فيها نصيب الأسد…كما تكتسب البلديّة أيضا صلاحيّات منقولة جزئيًّا أو كليًّا من جهات حكوميّة ووزارات بحكم تداخل الصّلاحيّات، وذلك على غرار بناء المؤسّسات الصحيّة ومراكز الصيانة ،وبناء المعاهد والمدارس والمؤسّسات التربويّة وصيانتها وكلّ ذلك وغيره عبر نقل الموارد الماليّة المعتمدة من الجهة المعنيّة في الحكومة…هذه الصّلاحيات المكعّبة أفقدت البلديّة صفتها الأصليّة كمؤسّسة إداريّة خدماتيّة مستقلّة عن السلطة السياسيّة وحوّلتها إلى هيكل سياسي وجهاز تنفيذي تابع للحكومة…
المجلس البلدي
هذا التوسّع في صلاحيّات البلديّة المفضي إلى فقدانها استقلاليّتها وتوظيفها سياسيًّا انعكس بدوره على المجلس البلدي: فإلى جانب مهامّه التقليديّة النّابعة من الصّلاحيات الذّاتية للبلديّة، يتولّى المجلس البلدي مهامّ أخرى تنسيقيّة ومساهماتيّة نابعة من صلاحيّاتها التشاركيّة والمنقولة، وذلك على غرار التّنسيق مع الجهات المعنيّة في تحديث وصيانة المدارس ودور العبادة، وفي إدارة توزيع المياه ومنع تلوُّثها، وفي إدارة التزويد بالكهرباء والغاز وإنشاء محطّات التحويل، وفي إنشاء شبكات الصّرف الصحّي ودورات المياه ومراقبتها، وفي تطوير شبكات النّقل العامّ وإنشاء مرافقها…وعلى غرار المساهمة مع الجهات المعنيّة في الاحتياط من تفشّي الأوبئة وفي الوقاية من أضرار الفيضانات والسّيول والثّلوج، وفي إنشاء المتاحف والمكتبات العامّة والنّوادي الثقافيّة والرّياضية والاجتماعيّة والفنيّة، وفي رعاية المرافق السياحيّة والتراثيّة ضمن المنطقة البلديّة…وعلى غرار التّعاقد مع البلديّات والجهات الأخرى وإبرام اتّفاقات تعاون وإنجاز مشاريع تنمويّة مع جماعات محليّة تابعة لدولة تربطها مع تونس علاقات دبلوماسيّة أو منظّمات حكوميّة وغير حكوميّة مهتمّة بتطوير اللاّمركزيّة والتنمية المحليّة في شتّى المجالات (ثقافيّة ـ اجتماعية ـ اقتصاديّة ـ صحيّة ـ رياضيّة ـ تربويّة ـ فلاحيّة…) وفي كلّ هذا الخضم ما فيه من صلاحيّات تنفيذيّة وتفويض ونيابة عن مختلف الهياكل الحكوميّة المركزيّة يجعل من المجلس البلدي مضطلعًا بدور سياسي بامتياز…
النّظام المالي
إنّ الموارد الماليّة للجماعات المحليّة متعدّدة المصادر وتتجاوز الدّائرة البلديّة ومواردها الذّاتية لتشمل منابات ومحاصيل مختلفة من جهات عدّة لعلّ أهمّها: محصول أو جزء من محصول الأداءات والمساهمات الذي تحيله القوانين للجماعات المحليّة…مناب الجماعة المحليّة من محصول الأداءات التي تتقاسمها الدّولة مع الجماعات المحليّة…منابات الجماعة المحليّة بعنوان التسوية والتعديل والتضامن…منابات الجماعات المحليّة في ما تتمتّع به منشآت التنمية المحليّة من المحاصيل المذكورة أعلاه…الهبات غير المخصّصة المصادق عليها من مجلس الجماعات المحليّة في نطاق ما يقتضيه القانون…القروض المصادق عليها من طرف صندوق القروض ومساعدة الجماعات المحليّة…هذا التعدّد في مصادر التّمويل والجهات المموّلة يُفضي آليًّا إلى تعدّد في هيئات المراقبة وجهات الإشراف وقد نصّت عليها مجلّة الجماعات المحليّة ومن أهمّها ـ إلى جانب المجلس الأعلى للجماعات المحليّة والهيئة العليا للماليّة المحليّة ـ نذكُر: الوالي ومراقب المصاريف العمومي الجهوي وكل جهة حكوميّة نقلت أو فوّضت جزءًا من صلاحيّاتها للمجالس المحليّة، وكذلك وزارة الشؤون المحليّة والبيئة، إذ أنّ الوزير يُفوّض ويُحيل جزءًا من مهامّه واختصاصاته التنفيذيّة الحكوميّة إلى الجماعة المحليّة ممثّلةً في المجلس البلدي الذي يفوّض بدوره لرئيس المجلس سائر المهامّ والصّلاحيّات الموكولة إليه…وبذلك تفقد البلديّة صبغتها الاستقلاليّة عن السّلطة السياسية وتستحيل قفّازًا في يديها…
واقع البلديّة
على هذا الأساس وبناءً على كلّ ما سبق فإنّ البلديّة ـ مُمثّلةً في مجلسها البلدي ـ لم تعد مؤسّسة إداريّة خدماتيّة مستقلّة عن السّلطة السياسيّة، بل أضحت عبارة عن هيكل سياسي محلّي له صلاحيّات تنفيذيّة مُفوّضًا أو نائبًا عن مختلف الهياكل الحكوميّة المركزيّة على غرار وزارة الشؤون المحليّة والبيئة ووزارة الماليّة ووزارة الاقتصاد ووزارة الثّقافة ووزارة التجهيز ووزارة الصحّة…وذلك في إطار الصّلاحيات المشتركة مع الدّولة أو المنقولة إليها من قبل تلك الجهات الحكوميّة…لأجل هذا الدّور السياسي فقد وُضعت تحت تصرّف البلديّة أجهزة تنفيذيّة من شرطة وحرس بلديّين وشرطة بيئيّة ومصالح لجباية الأموال المستحقّة لها قانونيًّا…وهي بذلك سلطة تنفيذيّة محليّة مفوّضة لإنجاز مهامّها ومباشرة صلاحيّاتها وفق السّياسات العامّة للدّولة تخفّف عنها الأعباء الإداريّة المتعلّقة بمختلف القطاعات ما عدا الحيويّة منها (الصحّة والتعليم والأمن والقضاء والدفاع)…وممّا يدعّم هذا الاستنتاج أنّ السلطة الجهويّة ممثّلةً في الوالي لها صلاحيّة الاعتراض أو النّقض لقرارات المجلس البلدي: فالوالي بوصفه ممثّلاً للحكومة له سلطة على موظّفي وأعوان المصالح المباشرين بدائرة ولايته، وهو بهذا الاعتبار يباشر سلطة الإشراف والمراقبة الإداريّة على الجماعات العموميّة المحليّة الواقع مقرّها بدائرة ولايته…وبذلك يقوى الجزم بأنّ المجالس المسيّرة للبلديّات إنّما هي في حقيقتها جهاز ولو جزئي من أجهزة الحكم في النّظام القائم في إطار الدّيمقراطيّة التشاركيّة وتفتيت الحكم وتجزيء السّلطة…
أدوار سياسيّة
أمّا من النّاحية السياسيّة فستكون هذه المجالس البلديّة باعتبارها (مجالس حكم محلّي منتخبة) واجهة سياسيّة ومتراسا وكبش فداء يتحمّل جزءًا كبيرًا من المسؤوليّة السياسيّة والإداريّة المحمولة على عاتقها، وستوجّه السّلطات المركزيّة موجة الاحتجاجات والمطالب إليها خاصّةً فيما هو ليس من اختصاصها كالصحّة والتعليم والأمن والتشغيل وذلك بتوجيه ماكر من أجل استنفاذ الجهود المطلبيّة للنّاس وجعلهم يدورون في حلقة مفرغة تنتهي بالتّقوقع والجمود أو الانفجار والانتفاضة اليائسة… وكون المجالس البلديّة مشكّلة من أحزاب سياسيّة ممثّلة في البرلمان أو في الحكومة أو في الهيئات السياسية والإدارية المختلفة، فسيكون للأحزاب دور المناولة في تحقيق بعض المطالب الأنانية لفئة معيّنة بطريق المحسوبيّة والمحاصصة الحزبيّة والتّوظيف السياسي للمصالح الإداريّة، وهو ما دأبت عليه المجالس البلديّة تحت حكم الوطنيّين (تجمّعيّين ـ دساترة) الذين استأثروا لأمد طويل بالمنافع لأنفسهم وأقاربهم، ولم يتغيّر الأمر بعد الثّورة بل توسّعت قاعدة المنتفعين ممّا سيولّد إحساسا جماعيا بالغبن والتمييز ستكون عواقبه وخيمة…أمّا على صعيد أدوار العلاقات الخارجيّة المخوّلة للمجالس البلديّة والجهويّة، فمن المتوقّع بحكم الارتباطات الخارجيّة للأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني ـ تمويلاً وإنشاءً وتوجيهًا ـ أن تكون المجالس البلديّة قاطرة لتركيز المنظّمات والهيئات والشركات الأجنبيّة في المناطق المحليّة والجهويّة بدعوى التوأمة بين البلديّات التعاون الفنّي والاستفادة التقنيّة ونقل الخبرات ممّا سيشكّل مناخًا ملائمًا للتدخّل الأجنبي والاستعمار المقنّع لعلّ أبرز مظاهره هذا التمويل العالي من قبل الوكالات الدوليّة والمؤسّسات المالية والنقدية العالميّة لدعم مسار تركيز ما يسمّى باللاّمركزية والحكم المحلّي…فقد تلقّت وزارة الشؤون المحليّة منحة قدرها 1.614 مليون دينار من الوكالة الفرنسيّة للتنمية في إطار دعم الديمقراطيّة المحليّة، وذلك ضمن حزمة من الهبات والتمويلات الأجنبيّة ( البنك الدّولي ـ الاتّحاد الأوروبي ـ بنك الاستثمار الأوروبي ـ البنك الإفريقي للتنمية…) وقد بلغ مجموع القروض 2025 مليون دينار تبخّرت وأثقلت كاهل البلديّات بشروط الحوكمة وتقييم الأداء، فوجدت نفسها مُطوّقة بأجندا يصوغها المموّلون الدّوليّون لبرنامج (التنمية الحضريّة والحوكمة المحليّة).