الأمن الغذائي: فلاحتنا، السلاح المثلوم (الجزء الأول)
ما الذي أدي بالإنسان في تونس أن يشقى للحصول على خبز يومه، وقد لا يحصل على مراده؟ ما الذي أحوج التونسي إلى جملة من مستلزمات الحياة اليومية، كالسميد والزيت والحليب… وغيرها؟ لماذا تظل السفن المحملة بالحبوب، والزيوت، المستجلبة للبلاد أياما وشهورا تنتظر إفراغ حمولتها، ولا تقدر السلطة على الإيفاء بثمنها حاضرا، ولا تقبل الأطراف المقابلة الثمن نسيئة؟ وما الذي جعل السلطة القائمة في البلاد تبرر فقر تونس الغذائي بالحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، والحصار التجاري الذي تفرضه الأطراف المتحاربة على صادرات حبوب المنطقة؟ هل عقمت أرض تونس، أم لم تعد تفي بحاجة أهلها، فألجئ القائمون على أمرها إلى الاستيراد من الخارج، والحال أن البلاد كانت تسمى “مطمورة روما”، فكانت المصدر الغذائي الرئيسي لإمبراطورية كاملة؟ وما سبب شقاء أهلها الذين لا يكاد يتجاوز عديدهم الإثني عشر مليونا، على مساحة 163 ألف كم مربع، بينما يعيش 125 مليون ياباني على حوالي ضعف مساحة البلاد التونسية؟ للإجابة على هذه الأسئلة يتناول ملف التحرير الشهري لجريدة التحرير موضوع الفلاحة في تونس، ويعالج فيه أحكام الأراضي وسنن الإنتاج التي أودعها الخالق سبحانه وتعالى فيها، ثم يتناول مختلف فروع الإنتاج الفلاحي من حيث الطاقة المتوفرة والعوائق التي يسببها النظام الرأسمالي، والحلول المتوفرة لتحقيق الأمن الغذائي وإخراج البلاد من التبعية للأعداء في قطاع الفلاحة.
معضلة فلاحتنا في حيازة الأرض وكيفية العمل فيها
إذا كان من نافلة القول أن الزراعة هي أحد الأركان الأساسية لاقتصاد أي بلد، مع الصناعة، والتجارة، وجهد الإنسان، فإن أساس الزراعة هي الأرض. وإن كان لجهد الإنسان، وخبرته، والآلات المستعملة، أثر في أنواع الإنتاج الزراعي وزيادته، فتظل دائما الأرض هي أساس الزراعة. والذي يعين وجه الإنتاج فيها هو كيفية حيازة الأرض، وكيفية العمل فيها، من أجل الإنتاج الزراعي، واستمرار هذا الإنتاج، والزيادة فيه. فالأرض وهي القابلة للإنتاج بذاتها حتى وإن كان علفا للحيوانات وحطبا للوقود، حتى وإن لم يباشر الإنتاج فيها أحد، فإن معالجة موضوع الأرض محصور بإنتاجها، واستمرار هذا الإنتاج، وزيادته، فصارت ملكيتها تعني الإنتاج قطعا، إذ هو جزء من ملكيتها، فتتحقق الملكية بوجود الإنتاج. وعلى ذلك، وجب أن تزول الملكية إذا لم يتحقق الإنتاج، بغض النظر عن سعة المساحات المملوكة أو قلتها، وبغض النظر عن مساواة الناس في ملكيتها وعدم مساواتهم.
وارتباط ملكية الأرض الزراعية بالإنتاج، ينفي صلة ملكيتها بالمساحة المملوكة وضرورة الحد منها، ما دام مالكها قادرا على الإنتاج، حتى لا تعطل الأرض، ولا تحرم البلاد من نشاط ذوي النشاط الزراعي. على أنه على مالك الأرض أن يباشر عملية الإنتاج بنفسه، لارتباط الإنتاج بملكية الأرض، فلا يستغل جهود المنتجين الفعليين، حين يُفصل الإنتاج عن الملكية، بوجود ملكية للأرض لا تتولى الإنتاج، فيمنع بذلك تأجير الأرض للزراعة مطلقا، فيجبر مالك الأرض على أن يتولى هو إنتاجها بنشاطه الزراعي، وإلا أخذت منه الأرض دون مقابل.
اعتمادا على مُسلّمة أن الذي يعيّن وجه الإنتاج هو كيفية الحيازة للأرض وكيفية العمل فيها، أصبح السؤال الواجب طرحه للإجابة عليه هو: ما الذي حدا بتونس التي تبلغ مساحتها القابلة للزراعة ما مقداره 5 مليون هكتار، في حين لا تتجاوز المساحة المستغلة فعليا، من تلك الأراضي، إلا 24 بالمائة؟ ثم ما مبرر استيراد تونس لما بين 54 و60 بالمائة من حاجياتها من القمح، أي أنها تستورد ما بين 30 و32 مليون قنطار سنويا، في حين لا يتجاوز إنتاجها المحلي العشرة ملايين قنطار؟ فكان لا بد من كشف العلاقة بين حقيقة ملكية الأراضي في تونس بهذا الاستغلال المتدني لجملة المساحة القابلة للزراعة، وما علاقة نوع هذه الملكيات بنسب الإنتاجية الضعيفة..
إذا خصمنا مساحة الأراضي الدولية الفلاحية (ملكية الدولة) والمقدرة بقرابة 500 ألف هك والمتأتية أساسا من تصفية الأحباس والأراضي المسترجعة من المستعمرين، ومساحة الأراضي الاشتراكية والمقدرة بحوالي 03 مليون هكتار، بما مجموعه ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف هكتار، من جملة الأراضي الزراعية في البلاد التونسية، يكون مجموع الملكيات الخاصة من أراضينا الفلاحية، هو مليون وخمسمائة ألف هكتار فقط. وعلى هذا تحددت أغلب الملكيات للأراضي الفلاحية إلى الدولة وإلى ملكيات مشاعة مملوكة للجماعات تسمى بالأراضي الاشتراكية، وهي عبارة عن عقار مملوك لجماعات (قبلية مثلا)، تُمثّل كل مجموعة بمجلس تصرف متكون من أعضاء منتخبين من المجموعة وأعضاء معينين من الوالي، تحت إشراف ووصاية الدولة. وبما أنّ الذي يعيّن وجه الإنتاج في الأرض هو كيفية حيازتها، وكيفية العمل فيها، فإن خمسمائة ألف هكتار من أراضينا الزراعية قد تعين وجه الإنتاج فيها بملكية “الدولة الوطنية” لها، والثلاث ملايين هكتار الأخرى، قد حدد وجه الإنتاج فيها تملك الجماعات لها، باسم الإشتراكية. فهذا ما حدد طبيعة الإنتاج فيها، فلا الدولة تقوم مقام الفلاح، فهي ليست بتاجر فتمتهن التجارة، ولا هي مقاول تقوم مقام المقاولين، ولا هي بفلاح تباشر مهامّ الفلاحين، وإنما عملها رعاية الشؤون، وفتح الآفاق للطاقات حتى يبدع كل في مجاله. وكذلك الملكيات الجماعية، دلت التجارب الحسية، والوقائع الثابتة على إخفاق المزارع الجماعية في كل من روسيا الشيوعية والصين، رغم الكبت والضغط بكل وسائل الإكراه.
إلا أنه ومع كون ملكية الدولة الوطنية لهذه المساحات الهامة من الأراضي الفلاحية من أهم أسباب انخرام وجه الإنتاج، وكيفية العمل فيها، فإن الخطر الأعظم متأت من أصل ملكيتها لهذه الأراضي، بعدما خلفت الدولة التونسية المستعمر، على أساس القانون الذي سنه ذاك المستعمر للسطو به على ملكيات الناس، وذلك أن خير الدين باشا “الوزير المصلح” باع سنة 1880 هنشير النفيضة، الذي كان أقطعه إياه حاكم البلاد سنة 1850، “احمد باي” عقابا لمالكيه الأصليين، “أولاد سعيد” عقابل لهم على مناوءتهم لسلطته، لـ”شركة مرسيليا للقرض” الذراع الاقتصادية للقوة الاستعمارية الفرنسية.. ولما واجهت “شركة مرسيليا للقرض” سيلاً من النزاعات والدعاوى أمام المحاكم الشرعية التونسية رفعها المالكون الشرعيون لهنشير النفيضة بما كانوا يمسكون من وثائق تثبت ملكيتهم، فإن دوائر القرار للسلطات الفرنسية التي احتلت البلاد بعد هذا الحدث بسنة، استشعرت الحاجة لتغيير قواعد إثبات الملكية العقارية في تونس، فاعتمدت تصورا قانونيا خاصا بالمستعمرة التونسية هو: قانون التسجيل العقاري التونسي الذي صدر بتاريخ 01 جويليه 1885، وهو القانون الذي أضفى على استيلاء المستعمرين على كثير من أراضي الأحباس، وبعض الأراضي المتروكة، وغير المستغلة من أملاك الدولة… حيث أفقد هذا القانون الاستعماري وثائق التملك، الأصلية، قوتها الثبوتية ونزع عن الحوز الفعلي للأرض أثره القانوني. إلا أنه كان من الممكن لقانون الجلاء الزراعي الصادر سنة 1964 أن يكون مدخلا لتصحيح مظلمة حرمان أهل الأرض من أرضهم، التي سلبها منهم المستعمر، إلا أن استيلاء “دولة الاستقلال” على تلك الأراضي وتملكها، بحكم نفس قانون التسجيل العقاري أدى مرة أخرى الى تغييب الحقوق التاريخية لأصحاب الأرض الحقيقيين، بعدما جعل الدولة التونسية خلفا “بحكم القانون” للمستعمر”.
واضح وجلي أن انعدام الأمن الغذائي للبلاد التونسية، وحاجتها لاستيراد قوتها من خارج أرضها، يعود في معظمه إلى مسألة حيازة الأرض، وذلك أن “الدولة الوطنية” تتحوز على ما يقارب الثلاثة ملايين ونصف المليون من الهكتارات، من جملة خمسة ملايين هكتار، سواء تحت مسمى الأراضي الدولية، أو الأراضي الاشتراكية التي تتدخل في إدارتها تحت عنوان ضمان حق الجميع، فصار هذا التدخل أهم عائق يحول دون إنتاج تلك الأرض على الوجه الكامل. وذلك لمحدوديّة فعاليّة إجراءات إسناد التصرّف في هذه الأراضي واستغلالها إذ تقلّ مردوديّة 40 % منها عن معدّل مردوديّة ضيعات الخواص المجاورة بالرغم من تواجدها بأخصب الأراضي الفلاحية بالبلاد.
ولمعالجة مسألة جعل الأرض تنتج على أرفع مستوى، كان لابد من معالجة مسألة تملك الأرض أولا، دون إهمال النواحي الفنية والعلمية في أساليب وآلات الإنتاج، ومسألة التمويل. فالإسلام جعل الأرض تملك ابتداء بالشراء، وتملك بالإرث، وتملك بالهبة، وتملك بالإحياء، وتملك بالإقطاع. وأما الملك بالإحياء، فإن كل أرض ميتة، وهي الأرض التي لم يظهر عليها أنه جرى عليها ملك أحد، إذا أحياها أحد فهي ملك له، لقوله صلى الله عليه وسلم: “مَن أحيا أرضًا ميتة، فهي له”. وأما الإقطاع فهي الأرض التي تعطيها الدولة للأفراد مجانا دون مقابل، وقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر أرضا. والأرض حي تملك بأحد هذه الأشياء، يجبر مالكها على استغلالها، ولا يسمح له بتعطيلها، وعدم استغلالها لثلاث سنوات يبطل ملكيته لها، لقوله صلى الله عليه وسلم: “عادي الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين”.
والحاصل أن ملكية الأرض تعني استغلالها جبرا بوصف هذا الاستغلال جزءا لا يتجزأ من الملكية. فإذا لم يحصل الاستغلال مدة ثلاث سنين سقطت الملكية حتما وتؤخذ الأرض جبرا من مالكها، عملا بإجماع الصحابة لقول عمر رضي الله عنه: “من عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له”. هذا من ناحية الملكية، وأما من ناحية كيفية العمل في الأرض، فقد أجبر الشخص أن يتولى هو استغلالها، فجعل لمالك الأرض أن يزرع أرضه بآلته وبذره وحيوانه وعماله مقابل أجر لهم هم، ولكنه منع إجارة الأرض للزراعة منعا مطلقا، سواء أكان الأجر نقودا أو غيرها.
هذه إشارات لبعض أحكام الإسلام، في معالجة بعض حاجات الإنسان الفلاحية، وذلك مما يضمن كرامته بتوفير غذائه، فلا يشقى، ولا يظل عرضة للمساومة على حياته. ذلك والحق تبارك وتعالى قد أعذر كل ذي عقل حين قال: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)” ـ طه ـ
غياب التخطيط الاستراتيجي لا ينهض بفلاحة، ولا يعيل شعبا
لا يمكن للمتابع للشأن الفلاحي في تونس أن يتبين معالم لسياسة زراعية قد تكون طريقا نحو تحقيق اكتفاء ذاتي في أهم مقومات عيش الإنسان، أو نهضة زراعية يمكن أن يُدفع بها غائلة الحاجة إلى الأطراف المتربصة بمن أضاع بوصلة الحياة، فاضطر أن يبحث عن الفتات على موائد اللئام، مقابل ماء الوجه. ولا يكون هذا المتابع قد جانب الصواب لو جزم أن هذه السياسة الفلاحية المتبعة في بلادنا، قد سُطرت عمدا، لتجويع وتركيع شعب، ومعاقبته لا لذنب اقترفه، إلا أنه يتفلّت من عقال الهزيمة، ويسعى لتحرير إرادته، بعد أن ابتلي بحكام هم طليعة الماكرين به والقاعدين به على درب الهوان. وإلا كيف يمكن تبرير هذه الطوابير من الناس التي لا كاد تغيب عن العين للحصول على رغيف خبز، أو أي حاجة أساسية من حاجات الناس العادية… وقد يقضي المرء ساعات ولا يحصل إثرها على نصيبه منها، وقد يمر على رفوف المحالّ التجارية ولا يقتني منها شيئا لقلّة حيلته وخُلوّ جيبه. لا يمكن عزوُ هذا النقص الحاد في المواد الأساسية، في بلد مثل تونس، وهي التي تنعم بأرض كريمة ومناخ متوسطي بما يحمله من مزايا، إلى العوامل الطبيعية أو ما يسمى بالاحتباس الحراري، أو إلى تقصير الفلاحين، وهم من هم في العراقة، والدراية بكل شأن الفلاحة والإنتاج الفلاحي. إلا أن صمت السلطة العامة المريب حول هذه المعضلة، وعدم الجدية في الكشف عن أسبابها الموضوعية، رغم المحاولات اليائسة لكثير من المخلصين الذين تؤذيهم حال بلدهم البائس وهم يرون الحلول الممكنة للخروج من هذه الوهدة، رغم كل العقبات التي توضع أمامهم، والتي تصل إلى حدّ التهديدات المباشرة والمبطنة، مما حدا بالكثيرين منهم إلى اليأس وكبت طموحاتهم، يطرح ألف سؤال. فهل يمكن لعاقل أن يبرر إشراف شعب لا يتجاوز تعداده بضع وعشرة ملايين ساكن على حاجز الفقر، في بلاد مساحة أراضيها الفلاحية تعد 10 مليون هكتار، منها 5 مليون هكتار غابات ومراعي، و5 مليون هكتار أراضي صالحة للزراعة. وحاجياتنا من الحبوب لا تتجاوز 30 مليون قنطار حتى يتحقق توفير الغذاء لكل الناس، مع خلل هيكلي بارز، وهو أن طاقة خزن البلاد للحبوب لا تتجاوز 12 مليون قنطار. هذه بعض الأرقام المقتضبة، ومن خلال دراسات أُجريت لعدة سنوات، لتحديد مواطن التقصير أو الخلل في عدم توفر الغذاء. وعلى هذا يتبين أن السياسة الزراعية المتّبعة في بلادنا خلال عقود تعتمد أساسا على إهمال مريب للأراضي الزراعية، وفشل سياسة فلاحية صارخ، حتى جاز القول بأن هناك رغبة في عدم تحقيق الكفاية الذاتية من إنتاج الحبوب، بل لعلّ الأخطر من كلّ ذلك، هو انتهاج سياسة الاعتماد على المستعمر على مستوى التفكير والتخطيط، حين فسح “لخبرائه” المجال للاطلاع على كل الملفات، والتأثير في كل القرارات المتخذة في ما اعتبر بحثا عن حلول لهذه المعضلات، فزادها هذا التدخل الخارجي ضغثا على إبّالة، حيث باتت مساحات الأراضي الزراعية المهملة تتزايد سنة بعد سنة، مما عمّق فقر البلاد على المستوى الفلاحي. فبعدما كانت مساحة الأرض المهملة تقدر بمليون هكتار خلال العقود الماضية بلغت في هذا العقد أكثر من مليون و سبعمائة ألف هكتار، خاصة بعد مصادرة أكثر من 440 ألف هكتار بعد الثورة. ومع ذلك لا يمكن إغفال عامل ارتفاع أسعار المستلزمات الفلاحية، من بذور، وأسمدة، وأدوية، مما تسبب في ارتفاع مشط بل مبالغ فيه نتيجة لعمليات الاحتكار والمضاربة التي يتولاها السماسرة ووكلاء الشركات العالمية، وخاصة تدني القوة الميكانيكية، مما ضاعف كلفة الإنتاج أضعافا كثيرة، حيث أثرت على قدرة الفلاحين على مواصلة الإنتاج بنفس الأريحية المعهودة عنهم. ومن ثم ساهمت هذه الأوضاع في عزوف كثير من الفلاحين عن استغلال أراضيهم، وترك المجال الفلاحي بالكلية مما أفقد هذا القطاع مهارات وكفاءات، هو أحوج ما يكون إليها.
وبالرجوع إلى معدلات الإنتاج من الحبوب خلال السنوات الماضية التي بقيت جامدة، ولم تتجاوز 12 قنطار في الهكتار، وهي إنتاجية متدنية، لا تتناسب مع التطورات العلمية التي شهدها العالم سواء على مناهج الإنتاج، أو الطفرة النوعية للآلات الفلاحية، التي كان يمكن أن تسهم في رفع إنتاجية فلاحتنا إلى مستويات عالية خاصة، وأن بلادنا تتمتع أراضيها بخصوبة جيدة، قابلة لإنتاج من 4 إلى 5 أضعاف ما تنتجه اليوم إذا توفرت الإرادة لذلك. فحكمة آبائنا وأجدادنا السارية، من تجاربهم، “الصّابة سنين والحرث دوام”، وأحفاد ألائك الآباء والأجداد سريعو التكيُّف مع التطورات العلمية، والقدرة على استثمار منافعها، حيث كانت تونس، على مرّ العصور، سلّة غذاء لكثير من الشعوب حولها. تُصدّر إليها خيرات بلادنا من مختلف الطرقات التجارية، جنوبا وشمالا، في حين أصبحنا اليوم، نستورد أكثر من 90% من بذور الخضراوات والغلال، وقد نضطر هذا العام إلى استيراد أكثر من 70% من حاجتنا إلى الحبوب، بل ومن البذور أيضا. فندرة المياه وقلة الأمطار الموسمية خلال هذه السنة لا يمكن اعتمادها كمقياس لتردي إنتاج القمح الصلب، وسائر أنواع الحبوب والأعلاف، والذي لم يبلغ أكثر من 2 مليون قنطار ولا يمكن اعتمادها كمرجع لمعدلات الإنتاج. بل الأمر لا يخفى عن المتابع المنصف، حيث يستطيع أن يدرك بسهولة، أن السياسة الزراعية المتّبعة في بلادنا خلال عقود، هي سياسة فاشلة، لم تتخذ من مسألة تحقيق الأمن الغذائي غاية إستراتيجية تعمل لتحقيقها، فتُوفر لها الظروف الموضوعية. بل نخشى أن نجزم بأن هناك تواطأ مريبا بدأ يتبدّى في الأفق من وراء تلك الاتفاقيات المشبوهة والتي تمضى مع الدوائر الاستعمارية، والتي لا نعلم عنها كثيرا ولا قليلا، تحت عنوان التعاون المشترك والاستثمار، وتحرير المبادرة، بل صرنا نخشى أن أرضنا الكريمة باتت في سوق المساومة، وتهيئة الظروف القاهرة لتمكين “المستثمر” الاستعماري منها باسم الشراكة والاستثمار، وتوفير سوق الشغل لطوابير العاطلين الذين دمّرهم هذا النظام الرأسمالي الليبرالي الذي نكتوي بناره منذ أكثر من قرن ونصف.
CATEGORIES بطاقات خاصة