الأمن الغذائي: فلاحتنا، السلاح المثلوم (جزء 2)
قطاع التمور في تونس: الواقع والإشكاليات والحلول
ورد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {لا يَجُوعُ أهْلُ بَيْتٍ عِنْدَهُمُ التَّمْرُ} صحيح مسلم ٢٠٤٦ وعليه فإن هذه الثمرة المباركة كفيلة إن وجدت العناية الكافية بها أن تكون ركيزة من ركائز الأمن الغذائي للبلاد التونسية سيما وأن أكثر من سدس مساحتها صالحة لنجاح غراسة النخيل بمختلف أصنافه ويعتبر التمر من المنتوجات الفلاحية المستهلكة بكثرة لدى المسلمين خاصة في شهر رمضان لقوله صلى الله عليه وسلم {إذا كان أحدُكم صائمًا فلْيُفطرْ على التمرِ فإنْ لم يجدِ التمرَ، فعلى الماءِ، فإنّ الماءَ طَهورٌ} أخرجه أبوداود والحاكم ولقوله صلى الله عليه وسلم كذلك عن أبي هريرة وجابر ابن عبد الله {نعمَ السَّحورُ التمرُ} أخرجه الألباني
ويعتبر النخيل أهم ثروة فلاحية على ضفاف شط الجريد في واحات كل من بلاد الجريد وقبلي وقفصة وقابس. وازدهر النخيل في تلك الربوع بسبب عيون المياه الطبيعية العذبة التي كونت أنهارا يسقى منها النخيل وبعد جفاف تلك العيون الطبيعية وتوقفها عن السيلان أصبحت تلكم الواحات تعتمد في سقيها على الآبار سواء السطحية أو الإرتوازية .
وحتى نكون رؤية شاملة وواضحة حول هذا القطاع الفلاحي ومدى أهميته في تحقيق الأمن الغذائي للبلاد التونسية سوف نحاول أن نعرض واقع وإشكاليات و حلول قطاع التمور في تونس
أ ــ واقع قطاع التمور في تونس بالأرقام
تعتبر تونس من بين الدول العشر الأوائل المنتجة للتمور في العالم ورغم أنّها ليست أوّل منتج, إلا أنها مصنّفة كأوّل مصدّر للتمور في العالم من حيث القيمة المالية وأول مزوّد لأوروبا, فقد أنتجت واحاتنا التي تمسح حوالي 41 ألف هكتار حوالي 240 ألف طن في موسم 2015 – 2016 منها 182.250 ألف طن دقلة نور صُدّر منها حوالي 108 آلاف طنّ مكّنت تونس من عائدات من العملة الصعبة قُدّرت بـ 463.3 مليون دينار.
أما عدد الفلاحين المنخرطين في هذا النشاط فيقدر بحوالي 60 ألف فلاح يسهرون على رعاية حوالي 5.4 مليون نخلة منها 3.55 مليون نخلة صنف دقلة النور (65٪) و 1.85 مليون صنف مطلق وتنتج تونس نحو 200 نوع من التمور، من أهمها “دقلة نور” و”الفطيمي” و”لخوات” و”الكنتة” و”العليق”
وتكمن أهمية منظومة التمور في اقتصاد البلاد في كونها تساهم بنسبة 6,6 بالمائة من القيمة الجملية للمنتوج الفلاحي وتساهم بنسبة 19,2 من القيمة الجملية للصادرات الفلاحية لتحتل المركز الثاني في سلم الصادرات الفلاحية بعد زيت الزيتون
هذا في العموم واقع قطاع التمور في تونس إلا أنه واقع محاصر بجملة من الإشكاليات التي جعلته غير فاعل بالشكل المطلوب في تأمين الأمن الغذائي .
ب ــ إشكاليات قطاع التمور في تونس
على غرار بقية القطاعات الفلاحية يحاط قطاع التمور بجملة من الإشكاليات التي منعته من أن يكون الرائد في تحقيق الأمن الغذائي للبلاد وعلى رأس هذه الإشكاليات نذكر
1 ــ نظام ملكية الأراضي
ــ ففي منطقة نفزاوة عموما هناك عدم وضوح في خارطة ملكيّة الأراضي الإشتراكية فهناك تداخل بين الحدود التّرابية الخاصة بالقبائل وحدود الخريطة الإدارية التي تحدّد مساحات الولايات والمعتمديات والتي لم تراع فيها الدولة حين وضعتها الملكيات التاريخية لأراضي القبائل وهو ما جعل مساحات هائلة صالحة للزراعة محل نزاع فتعطّلت واستحال استثمارها هذا علاوة على مشاكل الاستثمار في الأراضي ذات الملكية المشتركة .
ــ أما أسباب المأساة العقارية التي يكتوي بنارها أهلنا في منطقة الجريد فتتجلى لكل ذي عقل بمجرد معرفة نسب تملك الأراضي لولاية توزر إجمالا حيث على خلاف كل الولايات تمتلك الدولة ما نسبته 97% من الأراضي ونسبة الـ 3 % المتبقية تقبع عليها معتمديات الولاية الست بواحاتها وبناءاتها وكل عقاراتها الإقتصادية والسياحية وهنا مربط الفرس والخلل الحقيقي الذي يتمثل في القوانين المنظمة للتفويت العقاري لإملاك الدولة لصالح الناس أي أن الخلل يكمن في النظام العقاري والقوانين المنظمة له الذي تبنته الدولة
2 ــ ندرة المياه
تشكو منطقة الجنوب عموما ندرة في المياه وهو العائق الأبرز أمام نهضة فلاحية بالجهة و تحاول الدولة الوطنية الترويج إلى أن الجنوب التونسي والبلاد عموما يفتقران إلى المياه ما يمنع من الاستثمار في الفلاحة بالجنوب في حين أن الواقع يقول عكس ذلك فهناك عديد الآبار العميقة المحفورة والمغلقة ولا ندري سبب عدم توزيع مياهها على الفلاحين
وعوض أن تسعى الحكومات المتعاقبة إلى وضع استراتيجيات تسمح لنا باستثمار خصوبة الأرض ووفرة المياه الجوفية بالجنوب دأبت على أن تقنعنا وفي مناهجها التربوية بأن سدس تونس صحراء وهي أرض غير خصبة وغير صالحة للزراعة وهو ما كذبته التجربتان الجزائرية والليبية
وقد عملت دولة الحداثة على ترويج فكرة أن الجنوب التونسي يفتقر إلى المياه الجوفية ومياهه السطحية في نضوب في حين أثبتت الدراسات الجيولوجية المنشورة أن الجنوب التونسي يسبح فوق أكبر مائدة مائية عذبة ومتجددة في العالم استثمرتها الجزائر في ولاية الواد المجاورة لولايتي توزر وقبلي فأحدثت بها نهضة فلاحية شاملة جعلت صحراء الجزائر الممول الأول للمنتوجات الفلاحية المختلفة في الجزائر واستغلت ليبيا تلك المائدة المائية في النهر الصناعي ما جعلها تشهد هي الأخرى نهضة فلاحية وأصبحنا نستورد منها بعض المنتوجات الفلاحية
ويمكن أن نخلص إلى أن الإشكاليات الحقيقية التي تقف أمام ازدهار قطاع التمور بتونس تكمن في نظام الملكية الذي عطل الانتفاع بالاراضي من ناحية وفي غياب استراتيجية تتبناها الدولة للنهوض بهذا القطاع من ناحية أخرى
ج ــ كيف يمكن إحداث نهضة فلاحية بالجنوب التونسي
1 ــ إن المعاناة التي يعيشها أهلنا في مختلف المناطق والمشاكل العقارية المتراكمة ما كانت لتكون لو كانت لنا دولة تحتكم لشرع ربها. ففيما يخص أحكام الأراضي فالإسلام يرى أن غاية استخلاف الإنسان في الأرض هو عمارتها وليس احتكارها وتعطيل وظيفتها الأساسية فرسول الله صلى الله عليه و سلم قال { من أحيا أرضا ميتة فهي له } فالأرض لمن أحياها وعمرها وإن تحوزت جهة بأرض دون تعميرها وإحيائها وعطلتها عن وظيفتها الأساسية تنتزع منها وتسند لمن يحقق وظيفتها وقد أثر عن عمر رضي الله عنه أنه انتزع جزءا من أرض الصحابي بلال ابن الحارث التي قسمه اياها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وجد أنها أرض طويلة عريضة وأن جزءا منها لم يعمر بزرع او بنخل لأن متحوزها لم يطق عمارتها كلها وكان رأي عمر رضي الله عنه أن رسول الله قسمها له لتعميرها ولياكل منها ويطعم وتذهب صدقتها إلى فقراء المسلمين فذاك هو القصد فإن عجز عن عمارتها ذهب القصد فلا انتفع بها هو ولا انتفع بها الناس فطلب منه أن يمسك ما قوي عليه وأن يدفع للدولة ما لم يطق تقسمه بين المسلمين وقد عاين الصحابة ذلك ولم ينكروا مما يجعل اجماعهم حاصلا في أن الأرض لمن يحييها ويعمرها لا لمن يتحوزها ويحتكرها ويعطل وظيفتها فشتان بين منظومة ترى أنه “ما خلق الله الأرض إلا لتنبت وتعمر” وبين منظومة ترى فيها سلعة للإحتكار لتدر عليه مرابيح كرائها أو بيعها
2 ــ بناء سياسة زراعية فعالة من طرف الدولة تحدد فيها الأولويات وتستثمر فيها كل الطاقات والخبرات لتحقيق الاكتفاء الذاتي ثم الإنتقال نحو التصدير
3 ــ فتح الآبار المغلقة وتوزيع مياهها على الفلاحين وحفر آبار عميقة جديدة واستغلال المائدة المائية التي جعلت من ولاية الواد بالجزائر وليبيا مناطق إنتاج فلاحي متنوع .
استهداف المنظومات الفلاحيّة بتونس
الحبوب والزّياتين نموذجا
إنّ المستعمر يعلم علم اليقين أنّ الأمّة الإسلامية ـ بما حباها الله بها من خيرات ومقدّرات وموقع جغرافي استراتيجي وبما تزخر به من زخم ديموغرافي وبما تكتنزه من ثروة فكرية تشريعيّة ورابطة عقائديّة مبدئيّة ـ لا يمكن أن تبقى خاضعة له إلى ما لا نهاية، فهي تمتلك جميع مقوّمات الأمّة العظيمة التي تمكّنها من استعادة دولتها ومكانتها بما يهدّده لا في مصالحه فحسب بل في وجوده أصلاً.. لذلك لم يكتف بإسقاط الدّولة الإسلاميّة وإبعاد الإسلام من حياة المسلمين وتقسيمهم إلى أكثر من 50 مزقة نصّب عليها نواطير يسبّحون بحمده ويمكّنونه من ثرواتهم ويحاربون كلّ نفس إسلامي نيابةً عنه، بل سعى جاهدًا إلى تجريدهم من كلّ مقوّمات قوّتهم ـ تحسّبًا لإمكانيّة استفاقتهم ـ إمّا عبر الاستغلال الاستعماري المجحف أو باسم الاتّفاقيّات الدّولية التي تفرض عليهم الكميّة والنّوعية والثمن والأسواق بما يسلبهم ثرواتهم من بين أيديهم ويحوّلهم إلى مجرّد (خمّاسة ونواطير) ويمكّن الشّركات الرّأسمالية منها بأقلّ من ثمن الكلفة..
الأمن الغذائيّ
وسعيًا منه لإحكام السّيطرة على الأمّة الإسلاميّة بشكل يؤبّد تبعيّتها ويحول دونها ومجرّد التّفكير في التحرّر من نيره وربقته، فقد عمل على ضرب استقلاليّتها الغذائيّة والتحكّم في أمنها الغذائي: فسعى إلى تحطيم المنظومات الفلاحيّة الأصيلة والسّيطرة عليها من البذور والمشاتل إلى المنتوجات، مرورًا بالأسمدة والأدوية والأسواق والأثمان والنّوعيات، وصولاً إلى الأراضي الفلاحيّة نفسها، بما يمكّنه من التحكّم في المحاصيل ـ كمًّا وكيفًا ـ والتّلاعب بالأمن الغذائي للأمّة وتركيعها وجعلها غير قادرة على الاستغناء عن الاستعمار حتّى وإن عانت من ويلاته وتاقت إلى دولتها وإسلامها.. فالمطلوب رأسماليًّا واستعماريًّا هو تدمير المنظومات الفلاحيّة المحليّة والقضاء على الفلاحة الأصليّة للمستعمرات لإفساح المجال لفلاحة الأسياد من البذور والمشاتل والأدوية إلى الآلات والمنتجات الفلاحيّة لاسيّما إذا كانت منخفضة الجودة أو تالفة أو منتهية الصلوحيّة أو مشعّة ومسرطنة..فعلى المستعمرات أن تكون مستهلكة فحسب أمّا الإنتاج فهو حكر على العالم الحرّ، وعليها أن تكون مرتبطة في غذائها وحياتها بالسيّد الأوروبيّ ارتباط الجنين بالحبل السريّ لأمّه..
تونس نموذجًا
هذا المخطّط الاستعماري الخبيث طُبّق على الواقع التونسي بمنتهى المكيافليّة والخسّة والنّذالة والإجرام، وفي تبادل للأدوار بين المستعمر وعملائه في الدّاخل الذين مكّنوه من استباحة البلاد واقتراف أبشع الجرائم في حقّ أهلها ومقدّراتها: فقد جيء بسيّئ الذّكر سمير بالطيّب وزيرًا للفلاحة تحديدًا لإنجاز هذه المهمّة القذرة فأدّى واجبه على أحسن وجه..ففي عهده السعيد دُمّرت كلّ المنظومات الفلاحيّة في تونس (حليب ـ حبوب ـ دواجن ـ صيد بحري ـ لحوم حمراء ـ قوارص ـ زياتين..)، وحسبنا فيما يلي أن نقف على الجذور التّاريخيّة لهذا المخطّط الاستعماريّ الجهنّميّ الذي قطف (وزر فلاحتنا) ثماره النّكدة: فتونس من أخصب المناطق الفلاحيّة في العالم، وتمتلك فلاحة أصيلة عريقة ثريّة متنوّعة غنيّة بالبذور والمشاتل المحليّة المتأقلمة مع تربتها ومناخها وهي ذات جودة عالية وإنتاج غزير بما يمكّنها من الاكتفاء الذّاتي والاستقلال الغذائي ومنافسة دول حوض المتوسّط..وقد تكرّست فيها عبر العصور عادات وتقاليد فلاحيّة في الحفاظ على المنظومات الفلاحيّة والبذور والمشاتل الأصيلة..هذا الوضع المريح محليًّا لا يخدم الجشع الرّأسمالي الاستعماري، لذلك سعى الكافر المستعمر جادًّا إلى تقويض المنظومات الفلاحيّة المحليّة لضرب الاستقلاليّة الغذائيّة وفتح الباب أمام منتجاته الفلاحيّة دون منافسة تذكر..
الأرض المحروقة
لذلك اعتمد المستعمر منذ ستّينات القرن المنصرم سياسة الأرض المحروقة للقضاء على البذور والمشاتل الأصيلة، وليتمكّن من ذلك لا بدّ له من استهداف الأعراف والعادات الفلاحيّة القائمة على المجهودات الذّاتية والتعويل على النّفس في استخراج البذور وتخزينها وضمان استمراريّتها..فاستعان بوزارة الفلاحة ومندوبيّاتها الجهويّة لإغراق السوق التونسيّة بالبذور والمشاتل الأوروبية الهجينة المحوّرة جينيًّا، وسوّقها بين الفلاّحين بالمجّان وأغراهم بالتّواكل على الدّولة والتخلّي عن عاداتهم في التّخزين والتّعويل على الذّات..وهكذا شيئًا فشيئًا وموسمًا بعد آخر فُقدت المشاتل والبذور الأصيلة المحليّة وتضاعفت أثمان نظيرتها الأوروبية الهجينة بعد أن كانت تعطى بالمجّان..والأدهى والأمرّ من ذلك أنّ تلك البذور والمشاتل غير متأقلمة مع تربتنا ومناخنا ولا مقاومة لآفاتنا المحليّة، لذلك فإنّ زراعتها تتطلّب الأسمدة والأدوية ممّا ضاعف من الارتهان للاستعمار وأثقل كاهل الفلاّح وأثّر على التّربة والبيئة والمائدة المائيّة والقيمة الغذائيّة وصحّة المستهلك.. والمفارقة أن تلك البذور والمشاتل وقع إخصاؤها كي لا تنتج إلاّ مرّةً واحدة، وبالتّالي فلا مجال معها إلى العودة لعادات الخزن والتعويل على الذّات بما يؤدّي إلى تأبيد التّبعية والارتهان الغذائي ويثبّط في المسلمين نيّة الانعتاق من ربقة الاستعمار تحت طائلة التجويع..
منظومة الحبوب نفس هذا السيناريو الاستعماري الخبيث (إغراء ـ تواكل ـ غزو البذور الهجينة ـ انقراض البذور الأصيلة ـ ارتهان فلاحي غذائي) انتهجه المستعمر بالتواطؤ مع السّلطات المحليّة للقضاء على معظم المشاتل والبذور التونسية الأصيلة (بطاطا ـ دلاّع ـ بطّيخ ـ تفّاح ـ مشمش ـ طماطم ـ لفت ـ سفنّاريا..) ما أدّى إلى انقراضها وتكريس التبعيّة الفلاحيّة للاستعمار وتهديد أمننا الغذائي في الصّميم..والمصيبة أنّ هذا المخطّط الخبيث لم تسلم منه حتى القطاعات العريقة في تونس على غرار الحبوب: فتونس أو (فريقا) اعتُبرت تاريخيًّا بمثابة مطمور روما الذي يزوّد الامبراطوريّة الرّومانية بالقموح ولها تقاليد عريقة في الزراعات الكبرى وتنتج أجود أنواع القمح الصّلب وتمتلك مخزونًا من البذور الأصيلة المحليّة على غرار (الشبلي ـ المحمودي ـ البيدي ـ جناح خطّيفة ـ العويجة ـ رزّاق..) وكلّ هذا كفيل بامتياز بجعلها في غنى عن الأجنبي..لكن ما راعنا إلاّ والدّولة التونسية تنتهج منذ ستّينات القرن المنصرم سياسة إغراق السّوق المحليّة بنوعيّات مستوردة من البذور الهجينة المخصيّة المعدّلة وراثيًّا والضّارّة بالتربة والبيئة إلى جانب تدنّي نوعيّتها وقلّة مردوديّتها واعتمادها على الأدوية والمبيدات، وذلك مقابل تهميش البذور المحليّة المتأقلمة مع تربتنا ومناخنا وأمراضنا فضلا عن مردوديّتها وجودة نوعيّتها وقيمتها الغذائيّة..هذا السّلوك المريب واللاّمبرّر لسلطة الإشراف في تونس يشي بتواطئها وخضوعها لإملاءات الكافر المستعمر، ناهيك وأنّ الفلاّحين وأهل الاختصاص أجمعوا على أنّ ما يحصل سيؤدّي إلى أضرار كبيرة بالمزروعات والتّربة إضافةً إلى تكريس الارتهان الغذائي للأجنبي: فهذه البذور الأحاديّة الاستعمال هي بمثابة الحبل الذي يلتف حول رقاب الفلاّحين ويفقدهم استقلاليّتهم ويحوّلهم مكرهين إلى حرفاء للاحتكارات الاستعماريّة في شبه استعباد فلاحي..
إضمار وترصّد
وقد بلغ الجشع المستعمر حدّ إتلاف محاصيل الحبوب المحليّة ليُفسح المجال لحبوبه المشعّة والمسرطنة وغير المرحّب بها في سائر أسواق العالم..وهذا ليس من قبيل المزايدة والتهيّؤات والإغراق في نظريّة المؤامرة: فقد كان واضحًا سنة 2019 أنّ المستعمر يتتبّع صابة الحبوب في تونس، وما أن اكتشف أنّها قياسيّة تهدّد هامش مبيعاته وتوصدُ السوق المحليّة أمام سمومه حتّى عزم على وأدها في مهدها عبر إتلاف المحاصيل، وهذا ما حصل طيلة شهري جوان وجويلية من نفس السّنة، حيث تعمّدت عصابات إجراميّة إضرام النّار وحرق مئات الهكتارات من الحبوب في مناطق الشّمال الغربي، وكان واضحًا أنّها حرائق مفتعلة بفعل فاعل لا يريد للصابة أن تصل بسلام إلى مخازنها..ولمّا كشف القاضي الفاضل (المكّي بن عمّار) هذا الملفّ وفضح الأطراف النّافذة المتورّطة فيه أُقيل من منصبه واتُّهم بالجنون وأودع مستشفى الرّازي بإذن إيواء وجوبي من النيابة العموميّة في محاولة لإسكاته، وقد يُصاب (بسكتة قلبيّة مفاجئة) كما حصل لمن تجرّأ وهدّد بكشف المستور (فوزي بن مراد ـ العميد عبد الفتّاح عمر ـ طارق المكّي..)..أمّا الجزء الذي نجا من هذه المحرقة الاستعماريّة وحُصد واستحال حبوبًا ذهبيّةً فقد تعمّدوا إهماله وإتلافه: فادّعوا ابتداءً أن لا طاقة لهم بتخزينه وتركوه مكدّسًا خارج مراكز تجميع الحبوب (ببوعرادة وحدها جبال من القمح على امتداد كيلومترين).. وهكذا أُلقي أكثر من مليون قنطار من صابة القمح المحليّة في العراء مغطّى بالأتربة والأوساخ إلى أن داهمته أمطار الخريف (والخليف عليه)..كلّ ذلك من أجل أن يفسحوا المجال لاستيراد قموح الاستعمار المشعّة المسرطنة بالعملة الصعبة ،فهل يوجد أقذر وأخسّ وأنذل من هؤلاء الحكّام الذين ابتُلينا بهم..؟؟
منظومة الزياتين
ممّا لا شكّ فيه أنّ تونس تعدّ من أعرق البلدان المنتجة لزيت الزّيتون، فهي تمتلك أفضل أصناف المشاتل التي تعمّر لقرون (لدينا عيّنات من عهد الرّومان عمرها أكثر من ألفيّ سنة ومازالت تنتج)، كما تمتلك أكثر الأصناف إنتاجيّة ومردودا، ودونكم زيتونة العكاريت بالدويرات بالجنوب التونسيّ: إذ يقدّر عمرها بقرابة الألف سنة، ويبلغ محيطها 135مترا وارتفاعها خمسة أمتار وتغطّي مساحة 1100 متر مربّع، أمّا إنتاجها فيبلغ 1500 لتر سنويّا..وتنتج المشاتل التونسيّة أجود أنواع الزّيوت بحيث تشغل المرتبة الأولى عالميًّا في جودة زيت الزّيتون متقدّمةً على كلّ من إسبانيا وإيطاليا، فزيت الزّيتون التونسيّ يباع في صيدليّات أوروبا بوصفه دواء..هذه العراقة والرّيادة والأفضليّة ـ كمًّا وكيفًا ـ أثارت حسد المنافسين في الضفّة الشماليّة للمتوسّط (إسبانيا وإيطاليا واليونان) ودفعتهم إلى التخطيط لتدمير قطاع زيت الزيتون التونسي في إطار المخطّط الأوروبيّ الاستعماريّ وبالتواطؤ مع سلطات الإشراف المحليّة، وقد انتهجوا لذلك مسلكين: المسلك الأوّل يتمثّل في مصادرة الصّابة التونسيّة وتغيير منشئها ونسبتها لأنفسهم أو تحسين جودة منتوجهم بها: فزيت الزّيتون التونسيّ يباع (أو بالأحرى يُنهب) خاما بالجملة دون تعليب أو بيانات تحدّد بلد المنشأ والنّوعيّة ودرجة الحموضة..ما يمكّن المشتري من التلاعب به نوعيّة ونسبة في تعدّ صارخ على أبسط حقوق الفلاّح المحلّي وأدنى درجات السّيادة (الوطنيّة) المزعومة..
ضرب المشاتل الأصيلة
المسلك الثّاني يتمثّل في القضاء على المشاتل التونسيّة الأصيلة: فمنذ قرابة العقد انطلقت عمليّة إغراق ممنهج للسوق التونسية بمشاتل زيتون معدّلة وراثيًّا من مخابر مشتركة إيطاليّة / إسبانيّة وتوزيعها على الفلاّحين بأسعار رمزيّة وأحيانًا بالمجّان (يكفي أن تعمّر مطلبًا لتحصل على 20 شتلة مجانًا)..وقد حذّر خبراء في الفلاحة من هذه السياسة الخطيرة التي تنذر بالخراب للثروة المحليّة والتدمير لقطاع زيت الزيتون: فهذه المشاتل التي تسوّق على أساس أنّها محسّنة ومعدّلة ومعدّة للريّ قطرة قطرة وقادرة على مضاعفة الإنتاج والعطاء كلّ سنة ومنذ موسمها الأوّل، كما أنّها لا تحتاج إلى مساحة الزياتين المحليّة المتباعدة بحيث تستوعب 10 شجيرات من المشاتل المعدّلة.. إلاّ أنّ هذا الدّسم يخفي طيّه السمّ الزّعاف: فهذه المشاتل المعدّلة وراثيًّا تكون سريعة النموّ وغزيرة الإنتاج خلال العقد الأوّل من حياتها فقط، ثم يتناقص إنتاجها بعد ذلك إلى أن تصاب بالعقم بعد 12 إلى 15 سنة على أقصى تقدير، عندها تصبح غير ذات فائدة ولا مردوديّة وتكون كلفة قلعها كبيرة، وحتّى إن تجشّم الفلاّح تلك المشقّة والخسائر وأراد غراسة الزيتون المحلّي الطّبيعي الأصيل، فيلزمه الانتظار خمس سنوات حتى يثمر الغرس الجديد ما يمكّن الأطراف المنافسة من المناورة واختطاف الزّبائن واستباحة الأسواق وفرض الشّروط والمواصفات..والأخطر من كلّ ذلك أنّ هذه المشاتل المستوردة تحمل فيروسًا ينتقل إلى الأشجار المحليّة الأصيلة في تونس فيُفسد نوعيّة وجودة زيوتها ويجعلها تهرم بسرعة..
التحرير
CATEGORIES بطاقات خاصة