الأوضاع في ليبيا وتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية
لئن كانت منطقة الشرق الأوسط من أثرى المناطق في العالم وأهمّها استراتيجيًّا وأسخنها سياسيًّا فإنّ شمال إفريقيا يعدّ امتدادًا جغرافيًّا وحضاريًّا وسياسيًّا لها يقاسمها نفس عناصر القوّة والجذب: الإسلام والموقع الاستراتيجي والثروات الطّاقية، وهي عناصر كفيلة بإثارة التّكالب الاستعماري عليها وتحويلها إلى برميل بارود وقضية من أخطر قضايا السياسة في العالم وأكثرها تعقيدًا، ناهيك أنّ الولايات المتّحدة الأمريكية جمعت بينهما وأفردتهما بسياسة خاصّة (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا)…أمّا المفصل الذي يربط هاتين المنطقتين ويوحّد بينهما فهو القطر اللّيبي، هذا القطر الذي يتوسّط بين المشرق والمغرب الإسلاميّين لطالما تميّز تاريخيًّا ومنذ سنوات الفتح الأولى بوزنه وثقله وتأثيره على سائر الأقطار المغاربية بوصفه بوّابة شمال إفريقيا وموطئ قدم ثابتًا فيها…وقد ارتفعت وتائر هذا الثقل كلّما تقدّمنا في الزمن لتبلغ ذروتها مع الاستعمار المباشر واكتشاف النّفط والغاز ثم مع الاستعمار غير المباشر اضطلعت بدور قاطرة عملاء بريطانيا في المنطقة أيّام العقيد القذّافي، فلا غرابة إذن والحال هذه أن وجدت ليبيا نفسها هذه الأيام في قلب رحى الصّراع الطّاحن بين بريطانيا المتحوّزة وأمريكا الغازية وأوروبا المناكفة، هذا دون أن ننسى الأدوار القذرة للأدوات (تركيا – مصر ـ قطر ـ الإمارات ـ السعودية…) وطبيعي أن يكون لهذا الصّراع تداعياته محليًّا على الجارة تونس وإقليميًا على الجزائر خاصّةً ودوليًّا على الأطراف المتصارعة…
صراع دولي شرس
فواقع القطر الليبي اليوم انّه ساحة صراع دولي شرس طرفاه صاحبة الامتياز والسبق الاستعماري بريطانيا ومن ورائها أوروبا (فرنسا وإيطاليا خاصّة) من جهة، وأمريكا القوّة العظمى المعتدّة بنفسها والعازمة على دخول قرنها بامتياز عبر السيطرة على منابع الطّاقة وخصخصة المنظّمات الدولية لتعزيز امبراطوريّتها…ولئن كانت أوروبا بقيادة بريطانيا عازمة على الاستماتة في الدفاع عن مصالحها في القطر الليبي لاسيما حنفية النّفط والغاز، فإنّ أمريكا بدت مصرّة إلحاحًا على الانتصاب في منطقة شمال افريقيا التي ظلّت محرّمة عليها وذلك عبر البوّابة الليبيّة كموطئ قدم نحو بيضة القبّان (الجزائر) الكفيلة بتذليل المنطقة بأسرها…هذا الصراع الدّولي واقعًا اتّخذ له ظاهريًّا أدوات محليّة وأخرى إقليمية ودولية (عملاء وحلفاء كل طرف) وقد تجسّد ميدانيًّا في شكل سلطة برأسين مختلفين ـ ولاءً ودعمًا وتموقعًا جغرافيًّا ـ الرّأس الأوّل هو حكومة الوفاق في طرابلس بقيادة فايز السراج عميل بريطانيا الذي اُعطيت له الشرعية دوليّا…أمّا الرّأس الثاني فيتمثّل في برلمان طبرق المسنود عسكريًّا من طرف ما يُسمّى “الجيش الوطني الليبي” بقيادة عميل المخابرات الأمريكية خليفة حفتر …
ميدانيًّا استطاع حفتر اكتساح الشرق الليبي ثم الجنوب ولم يبق للشرعيّة إلا الشمال الغربي بموازاة الحدود التونسية…
مستجدّات مفاجئة
تتويجًا لتفوّقه العسكري الميداني أخذ خليفة حفتر يزحف نحو جيب “الشرعيّة” في العاصمة طرابلس التي طوّقها وأصبح قاب قوسين من اقتحامها مستعينًا بالمرتزقة على رأسهم الروس (شركة VAGNER) هذا إلى جانب الغطاء الجوّي والأسلحة العالية الدقة والجودة التي أمّنتها له روسيا…لكن مؤخّرًا ـ وفي مفارقة عجيبة مخالفة لكل التوقّعات ـ سدّدت قوات السرّاج ضربة موجعة لقوّات المشير حفتر وتمكّنت من السيطرة على قاعدة الوطيّة الجوية وهي منصّة متقدّمة لإحكام حصار العاصمة وتحوي أسلحة روسيّة إستراتيجية ومنظومات دفاع صاروخية ذكيّة مضادّة للطائرات…وبين عشيّة وضحاها تحوّلت قوّات حكومة الوفاق من وضع الدّفاع طيلة الشهور الستّة الأخيرة إلى حال المطاردة والهجوم أمام تقهقر قوّات حفتر وهروبها تاركةً المجال لتقدّم قوات الوفاق في العمق الاستراتيجي لمرتزقة حفتر جنوب غرب البلاد في اتجاه طرهونة…لقد لعب التدخّل التركي دورًا حاسمًا في تحقيق هذا الانقلاب في موازين القوى خاصّةً على مستوى التسليح النّوعي (طائرات بدون طيّار) وتأمين الغطاء الجوّي والتدريب والدعم اللّوجستي…ونحن نعلم أن تركيا ما هي إلا مجرّد أداة في يد أمريكا تنفّذ بها مشاريعها جاءت بها إلى ليبيا لتضطلع بنفس الدور الذي قامت به في سوريا: احتواء المقاتلين الثوّار
تونس أرض للصراع على ليبيا
بريطانيا على الخطّ
بما ان تونس تمثّل الخاصرة الحيوية للغرب اللّيبي المشتعل فلا غرابة أن تكون تداعيات الساحة اللّيبية الأخيرة ذات أثر واضح عليها، إذ شهدت تونس في الأيّام الأخيرة تحرّكات مكثّفة للقوى الاستعماريّة مواقف الدّيبلوماسية الأوروبية والأمريكية متمظهرة في شكل تصريحات ناريّة وتحرّكات مشبوهة وقرارات خطيرة وجريئة وعروض تعاون عسكري واستخباراتي واقتصادي سخيّة:
فعلى مستوى بريطانيا صاحبة الامتياز و(الباتيندة) الاستعمارية ازدادت تحرّكات السفيرة (لويزا دي سوزا) خاصّة بعد انتصار السرّاج، وكانت تحرّكاتها تتمحور أساسًا حول تأمين (حدودها) وتعزيز حضورها في (مجال نفوذها) وتقوية أدواتها فيها وتمتين الرّوابط بينها وفرض رؤيتها لحلّ الأزمة اللّيبية والتصدّي للمشاريع الأمريكية في المنطقة… ومن أبرز هذه التحرّكات اجتماع السفيرة البريطانيّة بوزير الدّفاع التونسي (عماد الحزقي) ونقلت البيانات أنّهما “تباحثا حول السّبل الكفيلة بدعم التعاون العسكري بين البلدين وتطويره وتنويع مجالاته مؤكّدةً على وجوب احترام الشرعية الدّولية ورفض التدخّل الأجنبي في الشأن اللّيبي وتقديم الحل السياسي لتسوية النّزاع” وهذا يعني أنّ بريطانيا تشرف على تسيير الأمر مباشرة وتروّج لما تسميه الشرعيّة الدّوليّة الذي يعني عندهم دعم حكومة السرّاج، وترسّخ مسألة رفض التدخّلات العسكريّة الأجنبيّة في ليبيا قطعا للطّريق أمام المحاولات الفرنسيّة والعمليّات التي لوّحت بها أمريكا ضدّ الوجود الروسي في ليبيا، ويتأكّد هذا التدخّل البريطاني إذا علمنا أنّ الاجتماع بين السفيرة ووزير الدّفاع كان يوم الخميس 28/05 وذلك بعد الاتّصال الهاتفي لوزيرة الجيوش الفرنسيّة بالحزقي يوم الثلاثاء 26/05، والمكالمة الهاتفيّة لقائد الأفريكوم الأمريكي للحزقي يوم الأربعاء 27/05، بما يعني أنّ اللقاء البريطاني كان خشية من وقوع المسؤولين في تونس تحت تأثير التدخّلات الفرنسيّة والأمريكيّة، ودعما لموقفها الذي تحرص عليه (عدم التدخّل العسكري الأجنبي في ليبيا) وهو موقف يروم ضرب الدّور التّركي – الأمريكي، وجعل المسألة سياسيّة، ولتدفع تونس والجزائر للتّدخّل والوساطة في ليبيا.
… ولأنّ أمن تونس من أمن الجزائر فقد أوعزت بريطانيا لقيام تنسيق عسكري تونسي جزائري رفيع المستوى على الحدود اللّيبية وإنشاء مجلس أعلى للبحث العلمي بين البلدين…وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون (بعد أن تمّت تصفية معظم عملاء فرنسا في الجيش منذ عهد بوتفليقة) أكّد على وجوب الوقوف مع ليبيا واعتزامه استضافة حوار بين الفرقاء الليبيين هذا فضلاً عن اعتزامه تنقيح الدّستور بما يسمح للجيش الجزائري أن يتدخّل خارج حدوده ويمكّن الجزائر من لعب دور إقليمي أكبر تحسّبًا لكلّ طارئ على الساحتين اللّيبية والتونسية…
فرنسا تحاول أن تجد لها مكانا
على مستوى الموقف الفرنسي فمن المعلوم سياسيًّا أنّ فرنسا خسرت كلّ قوّتها في الحرب العالميّة الثّانية وفقدت جرّاء ذلك هيمنتها على معظم مستعمراتها وبخاصّة في شمال افريقيا ولم يبق لها إلا شيء من نفوذ سمحت به بريطانيا، فحاولت منذ 2011 استغلال الفرصة بالتدخّل في ليبيا عسى أن يكون لها موطء قدم ثمّ استغلّت ظهور حفتر وحاولت مساندته سرّا، حتّى يكون لها حضور على الساحة عسى أن يكون لها نصيب من ليبيا ولو كان فتاتا، لكنّها كانت مفضوحة مكشوفة في كلّ مرّة.
بعد سقوط الوطيّة أصيبت فرنسا مرّة أخرى بخيبة أمل وطغى على تصريحاتها القلق والتشنّج والتهديد والوعيد: فقد أكّد وزير خارجيّتها أن بلاده تعرب عن قلقها الشديد من الأوضاع في ليبيا وأنّها تلوّح بالسيناريو السوري، كما عبّر الرّئيس (ماكرون) عن امتعاضه الشديد من الإجراءات الجزائرية الأخيرة ضد الوجود الفرنسي بالجزائر…وفي محاولة يائسة للتدارك والحضور في تونس سُجّلت بعض التحرّكات الديبلوماسية الفرنسية: فقد التقى الملحق العسكري للسفارة الفرنسية بوزير الدفاع التونسي وتباحثا سُبُل تعزيز التعاون العسكري والاستراتيجي مع تونس كما أجرت وزيرة الجيوش الفرنسية (فلورانس بايلي) محادثة هاتفية مع وزير الدفاع التونسي قيل أنّها لتبادل وجهات النّظر بخصوص الوضع الإقليمي الرّاهن وسبل تدعيم التعاون العسكري التونسي ـ الفرنسي على مستوى تكوين الضبّاط وتبادل الخبرات وتطوير التجهيزات العسكرية وسبل الرّفع من مستوى العلاقات الثنائية بين البلدين (في إطار وثيقة مرجعية تُعدّ بصفة مشتركة وتمتدّ على سنوات) والنّاظر في حركة فرنسا يرى أنّها تتحرّك تريد أن تستبقي شيئا من نفوذها أمام الاستيلاء البريطاني على المنطقة ومحاولات الدّخول الأمريكيّة.
أمريكا تخلع الأبواب… تريد نصيبها من الكعكة
لئن كان الموقف الأوروبي من المستجدّات اللّيبية يتمحور حول تحصين النّفوذ وتقوية الأدوات والحفاظ على المصالح فإنّ موقف العم سام ـ وهو الدخيل الغازي ـ تركّز أساسًا على تدعيم موطئ القدم الحاصل في ليبيا وكسب الوقت وتحجيم دور الحلفاء والفرقاء أخذ نصيبها من الكعكة اللّيبية أو الاستئثار بها…الموقف الأمريكي التقليدي المعلن يتمثّل في إدانة كلّ تدخّل خارجي في ليبيا. أمّا أهدافها الحقيقيّة فالاستيلاء على كلّ ليبيا أو على نصيب منها، لذلك أعادت حفتر عميلها إلى ليبيا بعد (بعد 20 عاما قضّاها في أمريكا)أمّا اعترافها بالحكومة في طرابلس واتّفاق الصخيرات، فكان تحت التهديد فأمريكا ما فتئت تلوّح بإفشال الاتّفاق إذا لم ينجح (أي إذا لم يحقق لها مصلحة) وكانت تتدخّل باستمرار لإفشال مسارات التّسوية الأممية والأوروبية كما حصل مؤخّرًا في مؤتمر برلين…لمّا فشل حفتر في الاستيلاء على العاصمة دعمته بروسيا ثمّ خطّطت بدهاء ومكر للدّور التركي محاولة احتواء السرّاج ومن معه، فحضرت أمريكا على الواجهتين المتصارعتين: واجهة حفتر عميلها المعلن دعمته بروسيا ومصر … وواجهة السرّاج أدخلت عليه تركيا (عميلتها) لتحتويه ومن يقاتل معه من الثّوار.
انتهت هذه المرحلة بتراجع كبير لحفتر ممّا يشير إلى أنّ أمريكا أنهت دور حفتر على الأقلّ في هذه المرحلة لصالح الدّور التّركي وهو دور سيكون أخطر من دور حفتر لأنّه دخل من باب المساندة والدّعم (وهو بالضبط الدّور القذر الذي قامت به في سوريا دخلت لدعم الثّوّار فصدّقوها فاستحوذت عليهم ومنعتهم من إسقاط نظام الأسد بل حوّلتهم إلى حرّاس لنظام الأسد…فالظّاهر أنّ أمريكا ستهدّئ جبهة الحرب لتلعب الورقة التركيّة-الرّوسيّة (كما في سوريا): تركيا لتحتوي السرّاج والثّوّار، وروسيا تستعملها فزّاعة ومبرّرا للتّدخّل المباشر وربّما إيجاد قاعدة عسكريّة لها في جنوب ليبيا قريبة من الحدود التونسيّة الجزائريّة والمؤشّرات على ذلك واضحة فقد أعلن قائد قوّات الأفريكوم أنّ أمريكا تعمل لنشر قوّات أحد ألويتها عسكرية في تونس على الحدود الليبيّة، ثمّ سرعان ما تمّ تكذيب الخبر أو بالأحرى تعديله حيث أعلن قوّات الأفريكوم أنّ المسألة لا تتعدّى فرقة صغيرة تدريبيّة لتدريب الجيش التّونسيّ وهذا يدلّ على الضغط الشّديد الذي تمارسه أمريكا على تونس من أجل الحضور الميداني الذي يمكّنها في خطوة أولى من المراقبة وربّما من الاستحواذ والهيمنة في خطوة ثانية.
والمؤلم في كلّ هذا أنّ تونس وليبيا صارتا تحت حكم الرويبضات حلبة صراع بين القوى الاستعماريّة وقودها دماء المسلمين وأموالهم. والحال أنّه ما كان لهؤلاء المستعمرين المجرمين أن يكون لهم موطئ قدم لولا العملاء والخونة.
أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)
CATEGORIES محلي