الإصلاحات الاقتصادية الكبرى” في تونس, مستعمر متربص ونظام رأسمالي مهلك

الإصلاحات الاقتصادية الكبرى” في تونس, مستعمر متربص ونظام رأسمالي مهلك

الأزمة …الكارثة… الدولة لن تكون قادرة على سداد أجور الموظّفين…، الحلول الموجعة،…هذه العبارات هي الأكثر تردّدا منذ مدّة في وسائل الإعلام وعلى ألسنة المسؤولين والسياسيين فالجميع يصرخ ويطلق صيحات الفزع منذرا بكارثة ستحلّ قريبا بالمجتمع من جرّاء الأزمة الاقتصاديّة، فمن أين جاءت الأزمة الاقتصاديّة؟ فهل هي من قلّة الثروة في البلاد كما يشاع؟ فماذا تفعل عشرات شركات الطّاقة الغربيّة في البلاد؟ أم هي من قلّة الإنتاج وكثرة الاحتجاجات والاعتصامات المعطّلة للإنتاج؟

مع نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي وبداية العشريّة الأولى من القرن الحالي أجمعت المعارضة السياسيّة في الدّاخل والخارج أنّ مشكل تونس ليس في الناحية الاقتصاديّة فهي تسير على خطى صحيحة  بل مشكل تونس سياسيّ بالأساس لانعدام الحرّيّات وسوء تطبيق الدّيمقراطيّة هذا ما قاله راشد الغنّوشي لقناة الجزيرة أكثر من مرّة حين كان في بريطانيا وهذا ما قاله مرّات ومرّات أحمد نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر والمنصف المرزوقي وغيرهم من المعارضين لـ “بن علي” و”سياساته”. واليوم بعد 6 سنوات من الثورة كلّهم يتباهون بديمقراطية تونس والحريّات المكفولة فيها ولكنهم يطلقون صيحات الفزع من الكارثة الاقتصاديّة. فلماذا يتحدّثون عن كارثة اقتصاديّ اليوم؟ ألم يقولوا من قبل أنّ المشكل الرئيس في تونس هو انعدام الحرّيات وسوء تطبيق الدّيمقراطيّة؟ فهاهي الدّيمقراطيّة تسود فأين الرّفاه الاقتصاديّ؟ بل أين ضمان الحدّ الأدنى للعيش؟

   تجتاح البلاد موجة من الحديث عن الإصلاح الاقتصادي، ودعوة واسعة إلى ضرورة الحوار “الوطني” والتكاتف الجهود والهدنة الاجتماعيّة. والجميع المسؤولون يتحدّث عن ضرورة التنمية وزيادة نسب النّموّ الاقتصادي، أهل السياسة وخبراء الاقتصاد يتحدثون عن ضرورة خلق الثروة وزيادة نسب النموّ لزيادة الدخل القومي الخام. وكلّهم مجمع على ضرورة تطبيق إصلاحات كبرى وقد جاءهم صندوق النّقد بهذه الإصلاحات الكبرى وعيّنوا لها وزيرا مكلّفا بها لمتابعة تنفيذها.

 لا شك أن المتتبعين للحوادث السياسية وسير العلاقات الدولية والتكالب الظّاهر للدّول الاستعماريّة على تونس يدركون أن هذه الموجة وتلك الدعوات وصيحات الفزع ليست نتيجة إحساس طبيعي بمشاكل النّاس في هذا البلد أو شعور مثير بالظلم الاقتصادي في المجتمع، بقدر ما هي توجيه متعمد من الدول الرأسمالية الكبرى بواسطة أذرعها الاستعماريّة صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي والبنك الافريقي للتنمية والبنك الأوروبي للإعمار ومنتدى دافوس الاقتصادي . وذلك لتغيير أسلوب الاستعمار بعد أن انكشف عواره، وللإبقاء على النظام الرأسمالي مطبقاً في بلادنا بعد أن بزر فساده للناس أجمعين.

أمّا تغيير أسلوب الاستعمار:

فقد برز أسلوب جديد للاستعمار بتحويله من فرض سيطرة بواسطة الجيوش والقوى العسكرية على الشعوب الضعيفة لاستغلالها إلى فرض هذه السيطرة بإعطاء البلاد استقلالها الشكلي وفرض السيطرة عليها بواسطة القروض والمساعدات. ولم يعد خافياً على أحد أن فكرة إعطاء الشعوب استقلالها ومدها بالقروض إن هو إلا الأسلوب الجديد للاستعمار.

فأغرقوا تونس منذ بورقيبة وبن علي بالقروض وبعد الثورة ظلّ السياسيّون وال”خبراء” الاقتصاديّون يبررون أخذ هذه القروض بذريعة ضرورة تمويل التنمية وزيادة نسب النموّ، وارتفعت المديونيّة في تونس حتّى وصلت نسبا مخيفة (أكثر من 70 في المائة) ومع ارتفاع المديونيّة زادت الأزمة وها هي تونس تشارف على الانهيار، نعم زادت القروض وزادت معها شروط الدّول الاستعماريّة على تونس ولقد رأى الجميع كيف أنّ صندوق النقد جمّد أقساط القرض لأنّ السياسيين في تونس لم يطبّقوا شروطه بشكل كاف، وسمع الجميع أنّ بعثة الصّندوق غادرت منذ أيّام قليلة تونس ولم تحسم بعد قرارها في شأن الإفراج عن القسط الثالث من القرض، وهذا لا يعني إلا أمرا واحدا يعني أنّ القروض لا تُسندها الدّول الرأسماليّة إلاّ ليجري بواسطتها فرض السيطرة على تونس لاستغلالها. ولهذا فإن دعوة إلى الإصلاح الاقتصادي والتنمية الاقتصادية حسب وصفة صندوق النّقد هي دعوة مشبوهة يراد منها فتح الطريق للأموال الأجنبية لتحل محل الجيوش والقوى العسكرية في فرض السيطرة على البلاد وعلى المنطقة.

نعم نحن بحاجة أكيدة للعمل لزيادة ثروة البلاد، وإن وضع سياسة اقتصادية من أجل تنمية ثروة البلاد وتوفير الحاجات الماديّة لها لأمر بديهي وضروري ولا يمكن الاستغناء عنه. ولكن هذه السياسة إنما تمليها حاجات البلاد ولا تحتاج إلى الدّول الاستعماريّة، ولا يصح أن تأتي بتوجيه من أعداء المسلمين، وهذه السياسات هي كوضع سياسة تعليم لرفع المستوى العلمي في البلاد، وكوضع سياسة تسلح لزيادة قدرة الجيش، وكوضع سياسة خارجية لتمكين الدولة من التأثير في الموقف الدولي ومن تسييره في اتجاه معين، وغير ذلك من السياسات. أما أن تفرض الدعوة إلى ما يسمّونه إصلاحات الاقتصادية، ونعيّن لها وزيرا مكلّفا بالإصلاحات الكبرى، وتأتينا بتوجيهات من الخارج طبق مخطط استعماري مدروس، فإن ذلك يدل بشكل صريح على أن هذه الدعوة إنما يراد منها فرض سيطرة الدول الاستعمارية على البلاد.

هذه هي الناحية الاستعمارية التي تكمن وراء ما نسمعه كلّ يوم عن الإصلاحات الاقتصاديّة والاجراءات الموجعة. فهل يريد بنا الاستعمار خيرا؟ وهل غيّر الاستعمار من أساليبه من أجل تنمية تونس؟

الإبقاء على النظام الرأسمالي

أما ناحية الإبقاء على النظام الرأسمالي بعد أن انكشف عواره فإن طريقة السير في الاقتصاد تدل عليه. فإن ما يشاهد من إجماع على جعل التنظيم الاقتصادي يبنى كله على زيادة الدخل القومي مع ترقيعه بما يسمّونه السياسات الاجتماعية، أو تطعيمه ببعض الأفكار الاشتراكيّة دليل واضح على ذلك.
النّظام الرّأسمالي هو النّظام الاقتصادي المسيطر اليوم في العالم بل وتفرضه الدّول الكبرى على الجميع من أجل أن يتمّ فرض هيمنتها، رغم أنّ الجميع شاهد ويشاهد أزماته المتتالية التي أفسدت على النّاس معايشهم. فالأزمة الاقتصاديّة التي نعيشها في تونس اليوم هي نتيجة حتميّة لتطبيق النّظام الرّأسمالي، وبدل أن يتمّ استبدال هذا النّظام الفاسد بنظام يصلح عيش الناس ويضمن إشباعهم لحاجاتهم الأساسيّة ويفتح لهم الطريق لتحقيق الرفاه نرى الطبقة السياسيّة في تونس والخبراء الاقتصاديين ينادون بإدخال إصلاحات كبرى، وهذه الدعوات العريضة للإصلاحات الكبرى توهم الناس بأنّ الجماعة عندنا وعوا وأدركوا أنّ النّظام الاقتصاديّ بحاله الراهنة فاسد يستوجب التغيير بنظام غيره بدليل أنّنا نسمع كلّ يوم عن ضرورة تغيير المنوال الاقتصادي الحالي ولكنّ المتأمّل في هذه الدّعوات يرى أنّها دعوات لتطبيق شروط الدّول الرأسماليّة التي جاء بها صندوق النّقد الدّولي، وأمثلهم طريقة يدعو إلى تكييف هذه الشروط مع الواقع التونسيّ.

إنّ ما قامت عليه الدعوات إلى الإصلاحات الاقتصاديّة الكبرى والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية بسند مباشر من الدّول الغربيّة، ليس إلا محاولة تطويل أمد الاستعمار الغربي والإبقاء على النظام الرأسمالي في تونس من أجل إدامة الهيمنة عليها واستغلال أهلها.

CATEGORIES
TAGS
Share This