“الإصلاحات الكبرى” مقدمة صغرى للجرائم الكبرى

“الإصلاحات الكبرى” مقدمة صغرى للجرائم الكبرى

أعلنت رئاسة الحكومة في تونس أن جلسة عمل جمعت صباح الجمعة 11 ماي 2018 بدار الضيافة بقرطاج رئيس الحكومة يوسف الشاهد بسفراء مجموعة الدول السبع الكبار المعتمدين بتونس وسفير الاتحاد الأوروبي “باتريس برغاميني”.

وقال وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي “زياد العذاري” إنّ السفراء أكدوا خلال الجلسة “دعمهم للانتقال الديمقراطي في تونس وخاصة نجاح الانتخابات البلدية إلى جانب الدعم الاقتصادي والاجتماعي”، وفق ما نقلت عنه إذاعة موزاييك.

وغابت المعطيات الرسمية عن فحوى اللقاء، إذ لم تصدر رئاسة الحكومة بلاغا حول الجلسة وجاءت التصريحات منمقة بلغة ديبلوماسية معتادة وباهتة، في وقت تشير فيه تركيبة الجلسة وتوقيتها إلى أن ما تم تداوله بعيد عن المجاملات التي تضمنتها تصريحات الوزير العذاري وعدد من السفراء، فيما تضمنت إشارات جاءت على لسان سفيري فرنسا وكندا بتونس إلى أن الاجتماع تطرق إلى ملف “الإصلاحات الكبرى”، من ذلك قول سفير فرنسا بتونس أوليفيي بوافر دارفور “ثقتنا بالغة في هذه الحكومة لقيادة وإنجاح مجمل الإصلاحات التي وضعتها، بما يجعل من تونس نموذجا مثاليا يحتذى في المنطقة، وستبقى فرنسا داعما دائما لتونس”، حسب ما جاء بالصفحة الرسمية لرئاسة الحكومة بالفايسبوك.

أما سفيرة كندا الممثلة بمجموعة الدول السبعة الكبار “كارول ماكوين” فقد نوهت بنجاح الاستحقاقات البلدية الأخيرة، مؤكدة مواصلة بلادها على غرار بقية دول المجموعة، دعمها لتونس مُعتبرة أن تونس ماضية قُدما في تحقيق أهداف التنمية، وتنفيذ الإصلاحات الكبرى على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

حصيلة قرنين من الإصلاح

من المهم التذكير في معرض الحديث عن أي إصلاح سياسي في البلاد، أن عنوان الإصلاحات الكبرى، ليس جديدا على تونس، فقد تم استهلاكه بقوة مطلع القرن التاسع عشر، تلك الفترة التي شهدت استفحال الأزمة الاقتصادية وأزمة المالية العمومية بعد تصاعد مصاريف بل سرقات البايات الذين لم يتوانوا عن نهب خزينة الدولة ومن ثم رفع الجباية المسلطة على الشعب وإثقال كاهلهم بالضرائب وأبرزهم أحمد باي الذي كان إيصاله للسلطة سنة 1837 جزء من خطة تعميق الأزمة في البلاد التونسية تمهيدا لفصلها النهائي عن الدولة العثمانية والتي تطلبت عقودا لإنجازها، ثم ظهرت في المقابل نخبة فكرية وسياسية شرعت في الدفاع عن مسار الإصلاحات الكبرى واعتباره الطريق الوحيد للخروج من التأخر والتبعية واللحاق بالدول الأوروبية المتقدمة وراحوا يصفقون لدستور 26 أفريل 1861 على اعتبار أنه إنجاز القرن لأول بلد عربي صار له دستور، بل اعتُبِر التكنوقراط خيرالدين باشا زعيم الفكر الإصلاحي للقرن التاسع عشر، كما اعتُبر كتابه “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” والصادر سنة 1867 إثر زيارته لفرنسا ولأسطنبول المرجع والمنارة الفكرية للحركة “الإصلاحية” في تونس، حيث بلور الكتاب المشروع الفكري والإطار السياسي لما ظنه البعض برنامجا إصلاحيا، فدعا إلى بناء نظام سياسي حديث ودولة حديثة ترتكز على اقتصاد متطوّر، وراح الجمع يرددون شعارات التحديث والحداثة دون أدنى دراية بمضمون هذه الشعارات، فانفصلت بذلك النخب عن الشعب الذي ظل يكتوي بنار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة ولم تسعفه ثورة “باي الشعب” علي بن غذاهم سنة 1864 في القضاء على الفساد، فقد تم إجهاضها بتسليمه من قبل فرنسا إلى الباي إلى حين وفاته في سجن حلق الوادي.

ورغم كل الظروف التي شهدتها تونس والتي لا تشير إلى الصلاح فضلا عن الإصلاح، من ذلك دخولها في معاهدة الحماية مع فرنسا، فقد ظل الغرب الصليبي يخدع الناس عبر عملائه في الداخل بعنوان “الإصلاحات الكبرى”، إلى أن فوجئ جميعهم بأن لجنة “الكومسيون المالي” التي ترأسها صاحب الجنسية الفرنسية “المصلح” خيرالدين باشا سنة 1869 لم تكن سوى أداة لإخضاع تونس إلى الاستعمار الذي استغل وضعية العجز الاقتصادي وتضاعف المديونية ليختطف البلد برمته ويفتكه من أهله بقوة السلاح، وأن الإصلاحات المزعومة في شتى المجالات ليست سوى إملاءات أجنبية محكمة الإعداد والتنفيذ، مهدت الطريق لاحتلال البلد عسكريا من قبل عدو صليبي متربص أعانه على جرمه ثلة من أغبياء السياسة في بلدنا، فقدموا له البلاد بمقدراتها وثرواتها على طبق من ذهب.

أما الإصلاح في القرن العشرين، فكان على موعد مع جيل جديد من المصلحين بنفس غباء الجيل السابق أو أشد غباء، يسير على خطى نفس العدو الذي طالما وعدهم بدولة الحداثة “يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا “. فقد كان في جعبة “المجاهد الأكبر” رزمة من الإصلاحات الكبرى، وضعت تونس على سكة المنظومة الرأسمالية منذ وقت مبكر سواء من الناحية السياسية والتشريعية أم من الناحية الإقتصادية، ثم لما بدأ الشعب بالتحرك ضد نظام بورقيبة فيما عرف بثورة الخبز وما سبقها ولحقها من أحداث دامية، جاء عهد “التغيير” و”التحول المبارك” ليكشف الوجه الحقيقي لقبح الرأسمالية المتوحشة، حيث كانت بدايات الإصلاح موثقة بآية من كتاب الله في بيان السابع من نوفمبر، أما نهايته فهي معلومة لدى الجميع، حيث كتبت بأحرف من دم في الحوض المنجمي وبن قردان وسيدي بوزيد، على جدران بقايا دويلة مهترئة لا تملك من السيادة إلا الإسم ومن الإصلاح إلا الرسم.

إصلاحات القرن الواحد والعشرين

إن الأصل أن تُساءل المنظومة السابقة ويحاسب رموزها على فشلهم في رعاية شؤون الناس، ولكن العجيب أن كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، قد أجمعت على طي ملف الثورة حتى في جانبها المطلبي الاقتصادي، وراحت تتبنى نفس الخيارات الاقتصادية والدبلوماسية الموروثة عن النظام السابق في صغير الأمر وكبيره، وذلك بحجة التمسك بقاعدة استمرارية الدولة في احترام الالتزامات الدولية بما في ذلك تسديد الديون رغم الوضع المالي الصعب للبلاد مما أدّى إلى انهيار التوازنات المالية الكبرى واستفحال المديونية الخارجية إلى معدلات خطيرة وخضوعها مجددا منذ 2013 إلى البرامج الاصلاحية القصرية للمؤسسات المالية الدولية ولصندوق النقد الدولي أو ما اصطلح عليه بـ”الإجراءات الأليمة” وما يرتبط بها من قيود وشروط مجحفة أدت عمليا إلى تجريد تونس نهائيا من استقلالية قرارها في رسم أبسط سياساتها وخياراتها الاقتصادية.

ورغم هذه النتائج الاقتصادية «الكارثية»، كما وصفها رئيس الدولة نفسه، لتبرير إقالة رئيس الحكومة السابق، فإن كافة المؤشرات الاقتصادية تؤكد مزيد تدهور الأوضاع وانهيار التوازنات في ظل الحكومة الحالية بما في ذلك استفحال العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات وتواصل ارتفاع المديونية الخارجية التي أصبحت خارج دائرة السيطرة إلى جانب تدمير القطاعات الانتاجية التونسية والعجز عن تحقيق الأمن الغذائي والمائي والتحكم في ثروات البلد الطبيعية استخراجا وتوزيعا، واستفحال ظاهرة التهريب وانهيار الدينار التونسي بشكل متسارع وبمعدلات غير مسبوقة قياسا بالعملات المرجعية الرئيسية.

بهذه الظروف المشابهة لما قبل 1881، يتنافس الغرب في دفع حكام تونس إلى المضي قدما في تبني إملاءاته بشكل حرفي تحت قاعدة: اخلق المشكل ووفر الحل، بما في ذلك التدابير الخطيرة الواردة في رسالة النوايا التي وجهها محافظ البنك المركزي ووزير المالية السابق في شهر ماي 2016 إلى رئيسة صندوق النقد الدولي من قبيل خوصصة المرافق والمؤسسات العمومية في مجال الكهرباء وتوزيع المياه وقطاع التأمين والبنوك المهددة تباعا بانتقال ملكيتها إلى الأجانب على غرار ما حصل بالنسبة لعديد القطاعات الاستراتيجية التونسية الحيوية كقطاع الإسمنت، وتكنولوجيات الاتصال وجانب هام من التجارة الداخلية.

هذا فضلا عن تمرير عديد القوانين المجحفة تحت ضغط الحاجة إلى تمويلات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنها قانون الاستثمار الجديد والقانون المنظم للبنك المركزي.

من أجل عيون الغرب إذن، أطلقت حملة الإصلاح الزائفة وهيئت أرضيتها التشريعية، وعقدت في نفس السياق “الندوة الوطنية حول الإصلاحات الكبرى” والتي شملت سبعة محاور أساسية، هي: المنظومة الجبائية (باعتبارها أساس كل إصلاح لدى رأس المال)، منظومة تمويل الإقتصاد، منظومة الدعم، الوظيفة العمومية، المؤسسات والمنشآت العمومية، الصناديق الإجتماعية وتحديث الإدارة التونسية، هذا فضلا عن وعود بعديد الإصلاحات القطاعية لا تزال تجد من يصدقها من حكام تونس لهذا الزمان.

إن المطلوب من تونس اليوم وباختصار شديد، هو استقالة الدولة، أي إسناد كل أمور القطاع العام من صحة وتعليم وبنوك عمومية وإدارة لموارد الطاقة ولثروة البلاد المائية والفلاحية وغيرها إلى الخواص، وهذه الاستقالة بكل ما فيها من إجرام في حق الشعب وبيع للبلاد، تمر عبر تشريك القطاع الخاص في مرحلة أولى (خاصة بعد المصادقة على قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص)، ثم تسليمه بقية المهام، حتى الاستشارية منها، لينحصر دور الطاقم الحكومي في السمسرة، أي في توزيع الغنائم على من يفوز بصفقة طلب العروض من الحيتان الكبرى، وذلك يقتضي فضلا عن مسايرة مؤسسات النهب الدولي، مزيد التوسيع في العولمة الاقتصادية من خلال الانخراط في التبادل الحر الشامل والمعمّق مع الاتحاد الأوروبي بوصفه “شريكها الاقتصادي والتجاري الرئيسي” وأحد الأعضاء الفاعلين ضمن مجموعة السبع G7، هذه المجموعة التي تعهدت بعد الثورة بتقديم مساعدات مالية ضخمة ومشروطة شبيهة ببرنامج مارشال في إطار ما أسمته بالشراكة الجديدة من أجل الديمقراطية.

من أجل هكذا برامج، نجد هؤلاء السباع من سفراء الدول السبع في “دار الضيافة”، يمسكون بأيديهم ملف مخطط التنمية 2016-2020، ويقيمون عمل موظفيهم في الحكومة التونسية ويباركون تقسيم البلاد إلى أقاليم محلية، فهل سننتظر مجددا عهد الحماية، أم سنقلب الطاولة على رؤوسهم بمشروع التحرير الذي يمليه الإسلام؟

وسام الأطرش

CATEGORIES
TAGS
Share This