..الإفطار في رمضان وحرية المعتقد
ككل سنة في رمضان تتعالى أصوات بعض الناس ممن استبدلوا الإسلام باللائكية والحداثة الغربية من أجل ضرب فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإتاحة الفرصة للمعصية والفجور تحت مسمى حرية المعتقد. ففي بلد الزيتونة منارة العلم الشرعي، وفي البلد الذي ينص دستوره على أن دينه الإسلام، لا يجوز لمسلم – وفق بعض الناس – أن ينكر على من يفطر رمضان جهارا متحديا الناس ومشاعرها الإسلامية، وذلك بحجة أن الصيام مسألة فردية تخضع لحرية المعتقد، وعلينا أن نراعي هذا الحقّ ونراعي مشاعر المفطر سواء أكان ملحدا أم مسلما.
دعاة اللائكية لا يستخدمون قيم الغرب التي يقلّدونها إلا من أجل خدمة مصالحهم المبدئية أي من أجل تركيز مفاهيمهم هم والدفاع عن أفكارهم؛ فحرية التعبير عندهم أن تكفر وتفجر وأن تجاهر بالفسق والفحش، وحرية المعتقد عندهم أن تظهر كفرك وفسقك وعصيانك وفجورك ولا يحقّ لك أن تظهر إيمانك وورعك وتقواك والتزامك بأحكام دينك، فهذا لا يدخل عندهم في الحرية بل هو عندهم من أبواب أسلمة المجتمع الذي يهدد الحرية.
وكذلك فيما يتعلّق بمسألة الفطر في رمضان التي أثار بعض الناس ضجة كبيرة حولها مطالبين بوجوب التصدي لمن يتصدى للمفطرين، ومطالبين أيضا بتدخل الدولة لفرض احترام حرية المعتقد. وكأن حرية المعتقد للمفطر فقط، وأما الصائم فلا حرية معتقد له، ولا يهم إن كان يتأذى من الجهر بالفطر أو لا؟ فالحرية عند هؤلاء ذات اتجاه واحد ضد التيار الإسلامي، وضد الالتزام بالأحكام الشرعية، وضد بروز الإسلام في المجتمع. وهم يعملون بجد واجتهاد من أجل إشغال الراي العام وإذكاء مشاعر الخوف والرعب فيه حتى يكره الناس النموذج الإسلامي. ولهذا تراهم يتصدون بكل قوة لكل مظهر أو قول أو فعل اسلامي خشية أن يتغلغل في المجتمع، وهذا من باب الوقاية خير من العلاج، فهم يستبقون الظواهر ويتصدون لها حتى يقطع الناس الأمل في إمكانية التغيير, ولكن كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}، قال الشيخ الطاهر ابن عاشور في تفسيره: ” وجملة {والله متم نوره} معطوفة على جملة {يريدون} وهي إخبار بأنهم لا يبلغون مرادهم وأن هذا الدِّين سيتم أي يبلغ تمام الانتشار. وفي الحديث «والله لَيِتَمَّن هذا الأمرُ حتى يسيرَ الراكبُ من صنَعاء إلى حضرَموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون». والجملة الاسمية تفيد ثبوت هذا الإِتمام. والتمام: هو حصول جميع ما للشيء من كيفية أو كمية، فتمام النور: حصول أقوى شعاعه وإتمامه إمداد آلته بما يقوى شعاعه كزيادة الزيت في المصباح وإزالة ما يغشاه. وجملة { ولو كره الكافرون } حالية و { لو } وصلية ، وهي تدل على أن مضمون شرطها أجدر ما يُظن أن لا يحصل عند حصوله مضمون الجواب… وإنما كانت كراهية الكافرين ظهور نور الله حالة يُظنّ انتفاء تمام النور معها، لأن تلك الكراهية تبعثهم على أن يتألبوا على إحداث العراقيل وتضليل المتصدين للاهتداء وصرفهم عنه بوجوه المكر والخديعة والكيد والإِضرار”. فمهما حاول أعداء الإسلام التشويش على هذا الدين، ومهما زوّروا الحقائق وكذبوا، فلن يوقفوا مسيرة الأمة نحو استرجاع مجدها ودولتها من أجل تطبيق شريعتها ونظامها. قال الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }.
تأديب المفطر المتعمد عند المالكية:
نذكر فيما يلي جملة من النقول عن علماء المالكية تفيد وجوب الإنكار على المفطرين في رمضان، ووجوب تأديبهم ومعاقبتهم عقوبة تعزيرية من طرف الحاكم.
– قال ابن الحاج المالكي في المدخل: “ومن ذلك ما يفعله بعضهم من إفطارهم في شهر رمضان جهارا والناس ينظرون إليهم مثل بعض التراسين وغيرهم ولا أحد ينكر عليهم في ذلك فيدخلون في عموم قوله تعالى {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} [المائدة: 79]والنهي عن هذا آكد وأوجب من النهي عن ترك الصلاة إذ أن الصلاة في الغالب لا يتحقق تركها إلا بإقرار من فاعل ذلك بخلاف الإفطار في نهار رمضان فإنه ظاهر جلي بين ليس فيه تأويل إذ أن ذلك لا يجوز إلا لأحد أمرين، إما مرض أو سفر وهؤلاء يفطرون وليسوا بمرضى ولا مسافرين”.
– قال خليل في مختصره: (وأدب المفطر عمدا إلا أن يأتي تائبا).
قال المواق في التاج والإكليل: “اللخمي: من ظهر عليه أنه يأكل ويشرب في رمضان عوقب على قدر ما يرى أن فيه ردعا له ولغيره من الضرب أو السجن أو يجمع عليه الوجهان جميعا الضرب والسجن، والكفارة ثابتة بعد ذلك، ويختلف فيمن أتى مستفتيا ولم يظهر عليه فقال مالك في المبسوط: لا عقوبة عليه ولو عوقب خشيت أن لا يأتي أحد يستفتي في مثل ذلك وذكر الحديث، وإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يعاقب السائل. ويجري فيها قول آخر أنه يعاقب قياسا على شاهد الزور إذا أتى تائبا قال في المدونة يعاقب”.
– وقال الدردير في الشرح الكبير: “(و) وجب (أدب المفطر عمدا) ولو بنفل بما يراه الحاكم من ضرب أو سجن أو هما ولو كان فطره بما يوجب الحد حد مع الأدب وقدم الأدب إن كان الحد رجما (إلا أن يأتي تائبا) قبل الظهور عليه فلا أدب”. قال الدسوقي في حاشيته: “(قوله ولو بنفل) تبع عج في ذكر النافلة وهو غير صحيح؛ لأن المسألة للخمي وقد صرح بأن ذلك في رمضان كما في المواق والتوضيح وابن عرفة…”.
– وقال ابن الحاجب في جامع الأمهات: “ويؤدب المفطر عامدا فإن جاء تائبا مستفتيا فالظاهر العفو وأجراه اللخمي على الخلاف في شاهد الزور”.
– وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير: “من أفطر متعمدا في قضاء رمضان فإنه يؤدب، ومثله من أفطر متعمدا في كل واجب. ولو كان فطره بما يوجب الحد كفاه الحد وقيل يجمع بينهما والأول أوجه. واختلف: هل يلزمه قضاء القضاء فيقضي يومين:يوما عن الأصل، ويوما عن القضاء؟ أو لا يلزمه إلا الأصل؟ وهو الأرجح، وأما إن أفطر سهوا أو لعذر فلا يقضي اتفاقا. واختلف: هل يؤدب المفطر عمدا في النفل لغير وجه أو لا يؤدب للخلاف فيه وهو الذي جزم به في المجموع تبعا للبناني”.
– وقال الشيخ عليش في منح الجليل: “(و) وجب (أدب) أي: تأديب ومعاقبة الشخص (المفطر) في أداء رمضان (عمدا) اختيارا بلا تأويل قريب بما يراه الإمام من ضرب أو سجن أو منهما معا. وإن كان فطره بموجب حد كزنا وشرب مسكر حد وأدب، وإن كان رجما قدم الأدب واستظهر المسناوي سقوط الأدب بالرجم لإتيان القتل على الجميع. عج ويؤدب المفطر في النفل عمدا حراما. البناني هذا غير صحيح؛ لأن المسألة للخمي. وقد صرح بأنه في رمضان على أن من فطر النفل عمدا خلافا بين المذاهب. قلت: اقتصار اللخمي على رمضان لا ينافي أن النفل كذلك يجامع المعصية في كل، وسيقول المصنف وأدب لمعصية الله. وقد أطلق ابن الحاجب فقال ويؤدب المفطر عمدا فإن جاء تائبا فالظاهر العفو، وأجراه اللخمي على الخلاف في شاهد الزور، ونص ابن عرفة ويؤدب عامد فطره انتهاكا إن ظهر عليه، وفي الآتي مستفتيا ثالثها ذو الهزء لا الستر لتخريج اللخمي على قولها يعاقب المعترف بشهادة الزور، وعلى قول سحنون لا يؤدب مع رواية المبسوط واختياره. (إلا أن يأتي) المفطر عمدا قبل الاطلاع عليه حال كونه (تائبا) فلا يؤدب”.
– وقال النفراوي في الفواكه الدواني: “(تنبيه) كما يلزم المعتمد للفطر الكفارة يلزمه الأدب أيضا. قال خليل: وأدب المفطر عمدا إلا أن يأتي تائبا. قال شراحه: ولو كان فطره بما يوجب حدا فيجتمع عليه عقوبة المال وهي الكفارة، وعقوبة البدن وهي الحد، والأدب فهذه ثلاثة أشياء، فإن جاء تائبا سقط الأدب فقط ويلزمه الحد والكفارة، كما يسقط الأدب إن جاء مستفتيا لئلا يؤدي إلى عدم الاستفتاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يؤدب الأعرابي الذي جاء مستفتيا والله أعلم”.
– وقال ابن عرفة في المختصر: “ويؤدب عامد فطره انتهاكا إن ظهر عليه”.
– وقال ابن بشير في التنبيه: “وتجب العقوبة على من ظهر عليه الإفطار في رمضان متعمدا… وإذا وجبت العقوبة كانت مصروفة إلى الاجتهاد بقدر جرأة الفاعل وعدم جرأته”.
وقال ابن راشد القفصي في لباب اللباب: “ومن ظهر عليه الإفطار في رمضان متعمّدا، فإنه يعاقب على قدر اجتهاد الحاكم”.
هذه بعض النقول عن علماء المالكية تثبت وجوب تأديب المفطر عمدا في رمضان والمجاهر بمعصيته وعقوبته عقوبة تعزيرية. فأين الذين يزعمون أن تونس مالكية؟ هل يعملون بفقه مذهبهم وتقريرات المالكية أم يعملون بقيم الحداثة الغربية واللائكية؟
ياسين بن علي