الإنتخابات البلدية والإصرار على الهروب إلى الأمام
بعد الإرتباك الذي أصبح السمة البارزة للحياة السياسية في بلادنا إثر الرفض العارم من قبل جماهير الناس للسياسة التي تنتهجها ما تبقى مما يسمى ب”حكومة الوحدة الوطنية”، خاصة على المستوى الإقتصادي ثم الإصرار على إمضاء قانون المالية لسنة 2018 والذي تصفه الدوائر الرسمية بالمؤلم، وبعد المستوى المعيشي المتدني لعموم الناس والغلاء الفاحش لأقواتهم ومتطلبات حياتهم الأساسية، وبعد تفكك نسيج تحالفات الأطراف المكونة للسلطة بل والوصول إلى حد التراشق بالإتهامات وإعلان فك الإرتباط بينها والعمل على شيطنة حليف اليوم وإقصائه من دائرة القرار، للحفاظ على بقايا القواعد المتآكلة، وبعد أن انحسرت مساحة الشعور بالإطمئنان أمام الناس فلا سكان المناطق الفلاحية أضحوا آمنين على مواشيهم التي غدت نهبا لعصابات السرقة والتي لم تكد تسلم من أذاها قرية أو “دوار” ولم يشف غليلها أحد بكشف الفاعلين أو إعادة أرزاقهم إليهم. ولا سكان المدن الذين يشهدون تنامي ظاهرة السطو الليلي على منازلهم أو استهدافهم في المحطات ووسائل النقل أوفي الأزقة والدروب الخلفية.
في ظل هذه الأجواء الموبوءة والسلطة تعمد إلى تحصين “مراكز السيادة” بالحواجز الحديدية وإحاطة مواطن الثروة المنهوبة من الشركات الإستعمارية بقوة الأوامر القانونية وصرامة قوى الأمة، تعود السلطة مرة أخرى، ومضطرة، إلى خشبة الإنتخابات البلدية لتتخذ منها مركب عبور أزماتها بإيهام جمهور الناس بأن حل مشاكل البلاد يمر حتما عبرها والمشاركة فيها بكثافة، بعد أن صار ثمن عدم إجرائها الإضطرار إلى الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية المسبقة ولسحب الحجج من الأيدي المناوئة على كرسي الحكم كعلاج للحالة السياسية التي أصبح من العسير الدفاع عنها، مما حدا برئيس الدولة الباجي قايد السبسي أن يمضي، وبصورة متسرعة، بعد أن كانت الأحداث تصب في اتجاه تأجيلها لعدم توفر ظروفها السياسية والقانونية، يوم الثلاثاء 19 ديسمبر 2017 الأمر الرئاسي المتعلّق بدعوة الناخبين بالبلاد التونسيّة إلى انتخاب أعضاء المجالس البلديّة يوم الأحد 06 ماي 2018، تعلّلا بأنّ لهذا الاستحقاق الإنتخابي البلدي من أهمية، واعتبارا لأهميّة السلطة المحليّة في إرساء الديمقراطية التشاركيّة وتأثيرها المباشر على مستوى ونوعية حياة الناس.
هذه السلطة المحلية التي سترسي “الديمقراطية التشاركية” والتي ستؤثر على “مستوى ونوعية حياة الناس” لم تحدّد تفاصيلها بعد ولم تضبط حدودها لعدم اتفاق الفرقاء السياسيين حول ماهيتها والتصويت على بنودها بعد أن كان مجلس الوزراء قد صادق على المشروع العام لهذا القانون يوم28 أفريل 2017، ورغم سنتين من التعديل والتأجيل. إلا أن رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر، اعتبر في تصريح لإذاعة خاصة يوم 22جانفي 2018، أن عدم المصادقة على قانون الجماعات المحلية لا يُعطل تنظيم الإنتخابات البلدية المقرر ليوم 06 ماي القادم لأن الأولوية اليوم هي إجراؤها، وذلك تحت سمع وبصر وبمباركة كل الأطراف المؤثّرة في المسار الانتخابي، كالهيئة العليا المستقلة للانتخابات ومجلس نوّاب الشعب ووزارة الشؤون المحليّة. هكذا يصبح مجرد إجراء الإنتخابات “شكليا” هدفا في حد ذاته، رغم غياب مجلّة الجماعات المحليّة الجديدة والتي من المفترض أن تطبق مباشرة إثر هذه الإنتخابات كحلّ “عبقري” لأزمة سلطة “تونس الثورة” وهو القانون المفترض أن يعوّض القوانين القديمة الجاري العمل بها وعلى رأسها القانون عدد 33 لسنة 1975 المُنظّم لعمل البلديات والذي يكرّس تبعية الجماعات المحليّة لسلطة الإشراف ولرقابة الوالي. وبمباركة كل الأطراف المؤثّرة في المسار الانتخابي، كالهيئة العليا المستقلة للانتخابات ومجلس نوّاب الشعب ووزارة الشؤون المحليّة، في تعارض صريح مع دستورهم.
هكذا تتجدد فصول تراجيديا العبث بمصير أمة تعمل جاهدة على الإنفكاك من قيود النظام الرأسمالي العلماني والذي ران عليها لأكثر من قرن ونصف عانت منه الويلات وذاقت الأمرين بإدخالها في متاهة الصراع على المواقع ومراكز القرار بين سياسيين يدركون يقينا حجم التدخل الأجنبي في مفاصل حياتنا بفرض نظمه وقوانينه علينا وهم يدركون يقينا أنّ ذلك لم يكن بالإنتخابات البلدية أو البرلمانية، بل حين هزمونا بقوة الجندي فرضوا علينا هذا “النظام الوطني” المركزي والذي يقول عنه ساسة اليوم أنه ألحق أضرارا هيكلية على المستوى المحلّي والذين يعملون على استبداله بزعمهم بما هو خير منه: نظام لامركزية الحكم، نظام لم ير فيه بعضهم إلا بابا يسمح لهم بالحصول على نصيب من كعكة “نعيم السلطة” في حين يرى فيه الماسك بعنانها خطرا عليه وجب التوقي منه.
وفي حين يظل الوسط السياسي مذبذبا وغير حاسم في شأن القطع مع الماضي بالإتجاه نحو تغيير نمط السلطة أو إبقاء الوضع على ماهو عليه، نلاحظ أن الجهات الحريصة على التغيير هي المنظمات التي يقال عنها منظمات المجتع المدني والتي استطاعت أن تفرض لنفسها موقعا في المشهد السياسي حتى غدت المراقب المرهوب الجانب من كل الفرقاء على اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية بتأكيدها على ضرورة المصادقة على الإطار القانوني والكامل والمتناسق في مجال اللاّمركزيّة وذلك قبل الشّروع في انتخابات المجالس البلديّة والجهويّة، حتى لايكون المسار الانتخابي صوريّا بل يقرّب الخدمات من المواطن ويكرّس “مسار اللامركزية الذي ينصّ عليه الدستور في الباب السابع”، بالحرص على تشتيت مركز القرار وبما يمنع السلطة المركزية من إيقاف قرار للمجلس المنتخب، أو إمكانية إيقاف نشاطه أو حله تأكيدا على حرية التدبير واللامركزية حتى أن هذه المنظمات بلغت أن تتدخل في عمل مجلس نواب الشعب بمراقبة سير أعماله وإحصاء أنفاس النواب حضورا وتدخلا بل وحتى التدخل في عمل اللجان باقتراح جدول أعمالها حتى ينجز المصادقة على مشروع قانون الجماعات المحلية هذا قبل موعد الإنتخابات.
جلّ هذه المنظمات، تستقي رؤيتها و مناهجها وأهدافها من المنظمات الناشئة في البلدان الغربية و القوى الإستعمارية والتي تعمل بمكر كبير على حماية مصالح هذه الدول بالتضليل والمخادعة عن الحلول المبدئية وحرف حركة الشعوب المتحفزة للتغيير الجذري عن السير في الطريق الموصل للغاية. في ظل هذه الأوضاع المدمرة لم تجد الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات إلا التباهي بكونها قد انهت تركيز الهيئات والإدارات الفرعية، وأعدت برنامج رسكلة لعدد هامّ من الأعضاء والأعوان استعدادا ليوم الإقتراع في الانتخابات البلدية المقبلة. ولم تجد العوائل السياسية من مجال للتنافس إلا فيمن يستطيع أن يغطي كل الدوائر الإنتخابية بالمترشحين أوالانتهاء من تركيز القوائم الإنتخابية وأمثلهم طريقة هو من حقق التناصف في قوائمه، مع غياب تامّ للتصور الحقيقي للتغيير.
هذه الإنتخابات سواء جرت أم لم تجر وسواء صادق مجلس نواب الشعب على قانون الجماعات المحلية أم لم يصادق، لن يكون لها أي أثر إيجابي على الأوضاع العامة للناس كما يروّج لها، بل ستزداد الأحوال سوءا وسيرى الجميع أن الوقت أهدر عبثا وأن الشدائد تترى بفعل قانون التراكم السلبي، ولإدارة القوى السياسية ظهرها عن القضية الحقيقية وهي أن أمتنا في صراع حضاري مع قوى مهيمنة ليست مستعدة للتخلي عن مناطق نفوذها ومجال الصراع فيما بينها، وأن العلاج بأيدينا وهو التحرر والخروج من الهيمنة وامتلاك القرار، مشكلته الوحيدة أنه مكلف، ولكن المتسلطين على رقاب الناس غير مستعدين لتحمل الأعباء بشرف والإعراض عن هذه الحقيقة لأن مواجهتها والتفكير فيها يؤدي مباشرة للقيام بواجب الإعداد،ومواجهة الخصوم سادة اليوم، لكن الأمة لا تنسى و ستسقيهم من الكأس ذاتها يوم أن يأذن الله بالفرج.