يبدو أن الحكومة الحالية كسابقاتها ليست إلا مجموعة من الإداريين ومسيّري شؤون الفئة الغالبة أو المتمعشة من تونس ومكامن الثروة فيها, ومؤكد يقينا أن جدول أعمالها لا يحتوي أيا من ملفات الحكم الفعلي للبلاد, فلا يتعدى مجال تصرّفها إزاء مطالب الشعب التسويف والتأجيل والترقيع ما أمكنها ذلك وما أسعفها الوقت قبل الإنفجار الكبير لمن ضاق ذرعهم ونفدت بهم الحيلة للحياة بأدنى متطلباتها.
في جهة تطاوين مثلا لا تريد الحكومة أن تتجه نحو حلّ جذري للأزمة الإقتصادية عامة ولملف حرمان الشعب التونسي من خيرات بلاده بشكل خاص، هذا على الأقل ما فهم من خلال تصريحات رئيس الحكومة هشام المشيشي خلال الندوة الصحفية الأخيرة. وما أقره المجلس الوزاري المنعقد بعدها يوم الخميس بإشراف رئيس الحكومة والذي أصدر وثيقة “نهائية “وافق عليها الوفد الجهوي المفاوض حول تنفيذ اتفاق الكامور الممضي في 16 جوان 2017, وقد تضمنت جملة من القرارات تمثل خاصة في:
تصنيف شركة البيئة والغراسات والبستنة شركة ذات مساهمة عمومية تحت إشراف وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري
إعلان انتداب 1000 عامل وإطار في هذه الشركة في اجل أسبوع من عودة الإنتاج,
خلاص أجور عمال وإطارات هذه الشركة المباشرين وإقرار مبدأ الزيادات العامة لأجورهم ,
الترفيع في راس مال شركة الجنوب للخدمات وإمضاء عقود جديدة لها مع الشركات البترولية
بعث خمس شركات ذات مساهمة عمومية قادرة على خلق مواطن شغل خلال الثلاثية الأولى من العام القادم.
تمتيع 1000 منتفع من الجهة بقروض لإحداث مواطن شغل في الخدمات والتجارة والصناعة والفلاحة
التشغيل الفوري لعدد 215 معطل بصفة قارة في الشركات البترولية ومحطة تعبئة الغازل بتطاوين,
انتداب 70 عامل وإطار في الشركات البترولية في الثلاثي الأول للسنة القادمة.
كما تضمن هذا الاتفاق قرارات تنموية خارج اتفاق الكامور 15 جوان 2017 وتتمثل في :
رصد 18 مليون دينار ضمن برنامج المسؤولية المجتمعية للشركات البترولية
رصد 1,2 مليون دينار لجمعية الاتحاد الرياضي بتطاوين
رصد 2,6 مليونن دينار لبلديات الجهة
رصد 1,2 مليون دينار للجمعيات التنموية
إسناد 100 قرض لتمويل المشاريع بقيمة 2,2 مليون دينار
دراسة وانجاز الطريق الحزامية لمدينة تطاوين وتطوير الطريق المحلية رقم 1014 ودراسة وتهيئة الطريق الجهوية من مشهد صالح الى ذهيبة والطريق الوطنية رقم 19 على طول 60 كلم (طريق ماطوس)
تهذيب أحياء السند البئر الأحمر والحي الغربي بذهيبة وحي الرصد الجوي برمادة وحي بمعتمدية بني مهيرة وحي قرار بالبئر الأحمر وتهيئة وتعبيد مسلك شعبة الزيتونة وعدد من المسالك في معتمدية غمراسن وطريق برج بورقيبة وطريق البرمة ومسلك كرشاو الصمار وحماية منطقة بني عرفة بغمراسن من الانزلاق والتساقط الحجري وذلك خلال الاربع سنوات القادمة بكلفة جملية قدرت بأكثر من 236 مليون دينار,
عقد مجلس جهوي بإشراف وزاري في اجل أقصاه الثلاثي الأول من العام القادم للنظر في المشاريع المعطلة.
تسوية ما انجر عن حراك الكامور وما يتعلق بتوابعه
تكليف المجلس الجهوي بمتابعة وضعية عائلات فقداء وجرحى هذا الحراك وتوفير الرعاية الاجتماعية والمادية لعائلاتهم واسقاط الدولة في حقها في التتبع لجميع القضايا المتعلقة بحراك اعتصام الكامور من 2017 الى حين صدور هذا البلاغ,
دعوة الوفد الممثل للجهة برفع كل أشكال الاعتصام
تكليف لجنة متابعة لحسن تطبيق هذا الاتفاق تتكون ممن ممثلي الوفد الحكومي وممثلي وفد الجهة.
ملف الكامور أو بصيغة أدق ملف مطالبة الأهالي باسترداد ثرواتهم وأقوات عيالهم وما حوت أراضيهم من خيرات ومنافع يُعدّ من أعقد المسائل التي واجهتها الحكومات المتعاقبة على تونس وتواجهها حكومة المشيشي العاجزة. فعمر هذا الملف أكثر من ثلاث سنوات سنة توقيع الاتفاق 2017 الذي تم الإمضاؤ عليه كمحاولت من الأطراف المسؤولة لتطويع المحتجين وتحويل وجهة مطالبهم من إسترداد الثروات المنهوبة من قبل الشركات الأجنبية إلى الحصول على قسط ضئيل من الموارد.. ورغم ذلك فان جميع المساهمين فيه يعلمون صعوبة تنفيذه على ارض الواقع بالشكل الأولي الذي كتب به وأكرهت الحكومة تقريبا وقتها على توقيعه.
هذا الملف تم طرحه من قبل الشعب التونسي عامة منذ بواكير الثورة وسنواتها الأولى, حيث كان لحزب التحرير في العمل على تسليط الأضواء عليه الدور الكبير حين توجه بالخطاب لحكام البلاد بأن ملف الطاقة في تونس يقع بين أيدي السفراء الأجانب وخاصة منهم سفراء بريطانيا التي هرب سفيرها ذات يوم من المحتجين في مدينة قرقنة الرافضين لتواجده بالمنطقة وتوجهه إلى مكان استخراج النفط في حقل ميسكار الذي تأخذ بريطانيا عائداته بصفة كلية.
خاض الأهالي في تونس ماراطونات متواصلة من الاحتجاجات على عملية التفريط في ثروات البلاد للشركات الأجنبية, وكان ذلك في أساليب متعددة بالوقفات في الساحات والدعوات للتجمع أمام الوزارات المعنية ومخاطبة الوزراء, والإعتصام أمام الوزارات والضغط على المنصات الإعلامية لطرح الموجوع بشكل جدي وتمكين الخبراء المنصفين من الإدلاء بحقائق وإحصائيات حول الكم المهول من نهب أموال الشعب وحقوقه على أرضه بموافقة الحكام والوزراء المتعاقبين المتخاذلين… حتى وصل الأمر بأحد وزراء الصناعة حينها إلى التصريح في إذاعة شمس أف أم بأن السفراء الأجانب يتصلون به ويهاتفونه بشكل يومي حول موضوع الاحتقان الحاصل عند الناس من تواجد الشركات الأجنبية العاملة على استخراج الطاقة…
والمهم قوله وتبيانه اليوم بعد هذا الاتفاق الذي حصل بين محتجي مدينة تطاوين وحكومة المشيشي, ودون العودة إلى تفاصيل كثيرة لهذا الملف, هو أن ملف الطاقة في تونس مازال من الملفات التي لا يمكن أن تخرج عن طوع المستعمر وتصرفه ما لم يكن لأهل هذا البلد شوكة حقيقية وحاكم سياسي يملك أمره وقراره للتصرف في أملاك عامة المسلمين وحقوقهم والضرب على يد كل طامع وعابث بها داخليا وخارجيا, كما لا بد من التنبيه بخصوص ما تحاول وسائل الإعلام تمريره من كون الاتفاق الذي حصل هو اتفاق نهائي وبهِ يغلق الملف نهائيا.. في محاولة لتشكيل رأي عام على الموضوع في صيغة الحل حتى لا يأتي يوم آخر من تحدثه نفسه عن حق الناس في ثرواتهم ولرسيخ فكرة مغلوطة في أذهان التونسيين أساسها أن المحرومين والمهمشين من مناطق الجنوب التونسي قد استأثروا بنصيبهم من الثروة ولا مجال بعد اليوم للاحتجاج والاعتصام أو منازعة السلطة في كيفية تصرفها في هذا الملف.
وأخيرا نقول: إن القاصي والداني يقر بشرعية وأحقية مطالب المحتجين في تطاوين بل وواجبهم في الصمود أمام هجمة أذرع الشركات الأجنبية الناهبة للثروات الطاقية بترخيص من حكومات تسيير شؤون المستعمر الغربي في البلاد, حتى الإعلام التونسي الذي كثّف هجماته تجاههم ورماهم بالتهم والتشويه بالليل والنهار مُحاولا تأليب الرأي العام ضدهم.. يُجمعُ في كل منصاته على “مشروعية مطالب المحتجين” ومباشرة يحلقها ب “لكن” لينهال بعدها عليهم بالتهم والتخوين والنعوت المنحطة التي تبين مدى استعداد السفارات الغربية التي تخطط في الخفاء لرجم كل من يقترب من مصالحها ومنظوريها الذين يستولون على مواطن قوت التونسيين برّا وبحرا… ولنستشفّ جليّا مدى طول أيدي المستعمر في تونس بشكل يمكنه من تجنيد الأبواق والأصوات ضد كل من يتحرك في اتجاه تحرير شبر من هذا البلد المنهوب.
والآن, وبعد هذا الاتفاق, قد تتحول بوصلة الإعلام وتركيزه صوب فكرة أن الاتفاق “نهائي”. وهو الأمر المرهون بمدى التزام الحكومة بما التزمت به فيه أوّلا, ومدى تصديق الأهالي في تطاوين لوعودها, والأهم مدى وعيهم على حقيقة استحالة استرداد حقوقهم كاملة دونما سلطان ونظام تشريعي لا يرى في ما تحت أقدامهم من ثروة ملكا لمن يستخرجها من شركات المستعمر الغربي, بل ملكا عاما لعامة المسلمين ولا سلطان لمن يتغول عليهم بمنصبه فيها..