الاستثمار الخارجي وتمويل المشاريع

الاستثمار الخارجي وتمويل المشاريع

تعتمد الحكومات التي أنشأها الغرب في بلادنا على عمودين رئيسيين لربط البلاد إقتصاديا وسياسيا بالدول الغربية، أولهما سياسة التداين من البنوك الغربية والدولية، فعن طريق القروض الربوية القصيرة والطويلة الأجل يتم ربط البلاد بعجلة الدول الغنية، فلا تملك الانفكاك عنها لأنها تستنزف ما يزيد عن ثلث دخلها في سداد القروض وخدمة الدين كما هو الحال في بلادنا.

أما العمود الثاني فيتمثل في الاعتماد على الاستثمار الخارجي، الذي يعتبر نوعا من الاستعمار الجديد، الذي يهدف إلى استغلال ونهب الفائض الاقتصادي للبلاد، ومن لم يقتنع بذلك فعليه أن يراجع قانون عهد الحماية الذي فرضته فرنسا على الباي سنة 1957 والذي أدى إلى استعمار تونس بعد 24 سنة من توقيعه.

الخبراء والاستثمار الخارجي

يعمد بعض الخبراء الاقتصاديين في تونس ممن يتصدرون المشهد الإعلامي على ترويج فكرة الاستثمار الخارجي باعتبارها المخرج الوحيد أو الأساسي على الأقل للخروج من الأزمة الاقتصادية، فيدعون إلى توفير مناخ الاستثمار، من خلال سن التشريعات التي تجذب المستثمرين وتوفير المناخ الآمن، بزيادة القبضة الأمنية بدعوى أن رأس المال جبان ويفر من البلدان غير المستقرة أمنيا.

وفي المقابل يقع التعتيم على الخبراء التونسيين والأساتذة الجامعيين الذين يتصدون لهذه الدعوات لأنها لا تخدم مصلحة الغرب.

الاستثمار الخارجي لن يزيد البلاد إلا عجزا وفقرا

في الحقيقة لن يزيد الاستثمار الخارجي البلاد إلا فقرا وبطالة وعجزا في الميزان التجاري, وذلك للأسباب التالية:

الاستثمار في البلاد العربية يقصد منه نهب الثروات الطبيعية، كما هو حاصل في تونس، حيث تستنزف عشرات الشركات الغربية الثروات البترولية والغازية والمعدنية دون حسيب ولا رقيب، وهو ما يفقد البلاد مصدرا مهما من المال الذي نحتاجه لبعث المشاريع الطموحة كالتصنيع.

الاستثمار الأجنبي يحرص عادة على الربح السريع والسهل مثل المشاريع المصرفية والسياحية وهي خدمات لا تخدم التنمية إطلاقا، لأنها لا تنتج لا ثروة زراعية ولا صناعية، وفي هذا السياق نفهم لماذا يضغط صندوق النقد الدولي على تونس لرسملة البنوك العمومية وإصلاح مجلة الاستثمار لتشمل قطاع الخدمات لكي تغزوها الشركات الأجنبية.

توجه بعض الاستثمارات الخارجية لتمويل مشاريع البنى التحتية، وهي مشاريع تثقل كاهل البلاد بالديون لأنها مشاريع إنشائية وليست استثمارية فلن تدر على البلاد أموالا, ومثل هذه المشاريع تلتهم الفائض التجاري للبلاد.

نظرا للتيسير في تبديل أرباح المستثمرين الأجانب من الدينار إلى العملة الصعبة, فإن ضغطا إضافيا سيضاف على مخزون البلاد من العملة الصعبة، وهو ما يزيد في عجز الميزان التجاري، فعلى سبيل المثال تشتري الشركة التونسية للكهرباء والغاز ما تنتجه أرضنا من الغاز من الشركة الاستعمارية بريتش غاز بالعملة الصعبة ما مقداره 750 مليون دولار سنويا، وقد بلغ العجز في الميزان التجاري 19 مليار دينار سنة 2018، دون احتساب عجز إضافي مع الاتحاد الأوروبي يقدر ب10 مليارات من الدينارات.

بخلاف أهل البلاد يتمتع المستثمرون الأجانب من إعفاءات جمركية وضريبة, ما يفقد الدولة موردا مهما من مواردها, وبالمقابل يجعل المستثمر الأجنبي في وضع مريح لمنافسة المستثمرين التونسيين الذين يخضعون لكل أنواع الضرائب, ما يؤدي إلى منافسة غير شريفة, ما ينتج عنه انهيار الصناعات المحلية, وما ينتج عنه من بطالة وفقر.

تمويل المشاريع

لا شك أن السياسة الاقتصادية في الإسلام حددت المشاريع التي يجب أن تتولاها الدولة، أو على حد تعبيرهم، حددت مدى القطاع العام، وحددت المشاريع التي يتولاها الأفراد، أو على حد تعبيرهم حددت مجال القطاع الخاص. فالسياسة الزراعية إنما هي مجال القطاع الخاص، ولا مكان للقطاع العام فيها سوى إمداد المزارعين بالهبات وإنشاء المشاريع العمرانية لا المشاريع الإنتاجية. ولنضرب مثلا ما يشهده قاع الفلاحة اليوم من تأزّم ورفض الحكومة الإشراف على دعم القطاع وإنقاذه, ونذكر بالخصوص قطاع الألبان, حيث بين رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري في تصريح صحفي أنه من بين الإشكاليات المطروحة اليوم هو التجاء الحكومة إلى التوريد عوض دعم وتقوية منظومة الإنتاج الوطنية، مفيدا بان تكلفة اللتر الواحد من الحليب المستورد تبلغ 1950 مليم وأنها تباع بالسعر المدعم بـ1120 مليم، ملاحظا أن الدولة تتكبد خسائر بحوالي 800 مليم في اللتر الواحد من الحليب المورّد، وهذا ما سينعكس سلبا على صندوق الدعم وستساهم في إثقال كاهل الميزانية وستعمق في الخالات الميزان التجاري وضرب منظومة الإنتاج المحلية. والسياسة الصناعية محصور مدى القطاع العام فيها بالصناعات التي تصنع ما هو داخل في الملكية العامة، وما عدا ذلك هو مجال القطاع الخاص، ولكن لا يمنع منه القطاع العام كشخصية معنوية مثل أي شخصية معنوية كالشركات.

فبالنسبة للمشاريع التي يملكها الأفراد، فإنه يترك لكل فرد ولكل شركة ولكل جماعة أن يمول كل منهم مشاريعه بالأسلوب الذي يراه، سواء بالقروض أو بغيرها، بقروض من داخل البلاد أم من خارجها. غير أن القروض والمساعدات التي توصل إلى ضرر تمنع كالقروض الربوية.

أما بالنسبة للقطاع العام وهو ما تشرف عليه الدولة, فإن التّعلل بنقص مدخراتها المحلية، باعتباره السبب الرئيسي وراء الاقتراض أو جذب الاستثمار الأجنبي، لتمويل المشاريع الاقتصادية الطموحة والارتقاء بالمستوى المعيشي، مجانب للصواب لان في بلادنا ثروات ضخمة تستطيع أن توفر لنا السيولة اللازمة لبعث المشاريع الاقتصادية المنتجة كالتصنيع.. فلماذا لا تعمل الدولة في تونس على إدارة ثرواتنا الطبيعية إنتاجا وتسويقا فتوفر بذلك التمويل اللازم لبعث المشاريع الصناعية الطموحة وتستفيد من الثروة البشرية الهائلة والمتعلمة التي تتمتع بها بلادنا, خاصة وأن حجم الثروات في تونس كبير, ويشهد بذلك عشرات الشركات العالمية المنتصبة في طول البلاد وعرضها وتستنزف ثروات البلاد بلا عدادات ودون حسيب ولا رقيب, وعندنا كل عوامل النجاح, فالأرض أرضنا والثروة ثروتنا, والقوى العاملة المدربة من خبراء ومهندسين وعمال هم أبناؤنا وموجودون على الأرض ولا ينقصهم إلا حسن الإدارة والتسيير, أما المنشات فيمكن شراؤها من الدول غير الطامعة في بلادنا وهي كثيرة, ويمكن تغطية نفقاتها مما تدره الثروات الطبيعية من بترول وغاز وفسفاط وملح واسمنت وغيره من المعادن التي تزخر بها أرض الخضراء.

كلمة الختام

في الحقيقة, الأزمة الإقتصادية ليس سببها قلة التمويل حتى نحتاج إلى الاستثمارات الأجنبية, فالمال موجود وزيادة, وإنما مرده إلى النظام الرأسمالي المتوحش الذي يضمن البقاء للأقوى ويجعل ثروات الشعوب بيد الشركات الرأسمالية الناهبة, والتي تسعى السلطة في تونس إلى تسليمها ما تبقى من ثرواتنا الباطنية والزراعية من خلال الاقتراض أو الاستثمار الخارجي الذي في حقيقته استعمار لتعميق قبضة الغرب على بلادنا حتى لا ينعتق من ربقة الاستعمار, وإن الحل لما نحن فيه معلوم غير مجهول, إنه إتباع شرع الله الحنيف, وجعل تونس مرتكزا لدولة كبرى تتجاوز الحدود القطرية, وتمحو الخطوط التي رسمتها اتفاقية سايكس- بيكو, لأن الدول القطرية لا تملك المقومات التي تجعلها ممتنعة وقتا طويلا أمام سياسة الهيمنة التي تمارسها الدول الكبرى.

قال تعالى: ومن أحسن من الله حكما.

د, الأسعد العجيلي, عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير تونس

CATEGORIES
TAGS
Share This