الاستشارة الوطنيّة الخلفيّات والمآلات.. الدّستور يأكل الدّستور
كثر لجدل هذه الأيّام حول “الاستشارة الوطنيّة” التي أطلقها الرئيس قيس سعيّد، التي يروم من خلالها تغيير دستور 2014 لتغيير النّظام السياسيّ.ويزعم الرئيس ومن معه أنّ أزمة تونس تكمن في دستورها ولذلك فتغيير الدّستور الحالي ضرورة من أجل:
– تجاوز أخطاء الدّستور الحالي: إذ أكّد الرئيس ومن معه في أكثر من مناسبة أنّ النّظام السياسي الحالي نظام لم يُنتج إلا الفوضى.
– حاجة البلاد إلى سلطة موحّدة وقويّة: بعد أن ثبت أنّ النّظام البرلماني يفتّت السّلطة ويجعلها عاجزة.
هذه هي أهمّ مبرّرات الدّعوة إلى تغيير النّظام السياسي والدّستور. ولكن هل الأزمة تكمن حقيقة في دستور 2014؟
الاستشارة حول النّظام السّياسي الخلفيّات والمآلات:
أطلق الرئيس الاستشارة وحدّد لها يوم 20 مارس 2022 موعدا لانتهائها، ومن ثمّ سيعيّن لجنة لصياغة دستور جديد حسب الاستشارة تكون جاهزة في شهر جوان ومن ثمّ يتمّ الإعداد لاستفتاء على الدّستور الجديد في 25 جويلية 2022، ….
الخلفيّات المعلنة:
– دستور 2014: استند الرئيس ومن معه في استشارته على دستور 2014، باعتبار أنّ التدابير الاستثنائيّة كانت بتفعيل الفصل 80 من الدّستور، والمفارقة أنّ تفعيل أحد فصول الدّستور أدّى إلى تعليق الدّستور تمهيدا لإلغائه وتبديله بآخر تصوغه لجنة يُعيّنها الرئيس، والمفارقة الأعجب أنّ هاته اللجنة المنتظرة تستمدّ شرعيّتها من دستور 2014 لإلغاء دستور 2014. فما الذي يضمن أن لا يأتي طرف آخر ويعلن هو الآخر إلغاء دستور الرئيس وتغييره بآخر؟
– الخلفيّة المدنيّة: محو كلّ أثر للإسلام: أحاط الرئيس نفسه بـبعض أساتذة القانون الدّستوري لا ينفكّ المتكلّم باسمهم ( أمينمحفوظ) يعلن أنّ الدّستور “المنتظر” يجب أن يكون مدنيّا صرفا لا أثر للإسلام فيه، زاعما أنّ دستور 2014 كان دستورا فيه شيء من الإسلام يجب أن يمحى حتّى لا يبقى منه أثر (هكذا).
– وضع أسس “متينة” للتحكّم في مصير الشّعب: النّظام السياسي يجب أن يكون رئاسيّا حيث تتركّز عنده السّلطات التنفيذيّة كلّها، ولا يبقى للبرلمان إلا المصادقة على القوانين ومساءلة الرئيس (حسب الإمكان أو قل الميولات والولاءات).
وبالنّظر إلى هذه الخلفيّات المعلنة الصّريحة يتبيّن لنا ما يلي:
– يزعم الرئيس أنّ الشّعب هو صاحب القرار، فما يقرّره الشّعب هو الذي سيسير فيه. فهل سيُبطل قيس سعيّد استشارته الوطنيّة بعد أن أهملها الشّعب؟ أم سيهرب إلى الأمام ويزعم أنّ بعض الآلاف الذين شاركوا في الاستشارة يمثّلون رأي الشعب ومن ثمّ يمضي في إجراءاته؟
– الإصرار على تجاهل حقيقة الشّعب التّونسيّ وهو شعب مسلم، جزء من أمّة الإسلام العظيم، فهو شعب صاحب رسالة هي رسالة الإسلام الذي أرسل به النبيّ الأكرم محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا يعني أنّ التونسيين باعتبارهم مسلمين مطالبين بل ملزمين باتّباع الإسلام في كلّ شيء ومنها في التشريع دستورا وقوانين.
– واستشارتهم لا معنى لها إلا دعوتهم إلى التخلّي عن دينهم والإعراض عنه. والبحث عن دين آخر (هو الدّيمقراطيّة). الله سبحانه وتعالى يدعو التّونسيين (وكلّ البشر) إلى اتّباع أحكام الإسلام وشرائعه، ونهى أن يكون لهم اختيار مع وجود أحكام الله، ولكنّ قيس سعيّد وزمرة العلمانيين التي تحيط به يأبون ذلك.
مآلات الاستشارة الوطنيّة
هل سيختلف مسار دستور الرئيس عن دستور 2014؟
يعلم الجميع أنّ دستور 2014 وُضع علمانيّا تدخّلت فيه أيادي المستعمر (الاتّحاد الأوروبي، صندوق النّقد الدّولي، والبنك العالمي، …)، فهل سيتغيّر الحال؟ هل سيُمنع المستعمر من التدخّل في الدّستوروالعبث بمصيرنا مرّة أخرى؟
يقول المثل التّونسي (من نفقته باين عشاه)
– اللجنة “المتنظرة” لجنة من العلمانيين المقدّسين للعلمانيّة بعضهم لا يُطيق سماع اسم الإسلام، وعلمانيّتهم هي ولاء وتقديس للفكر السياسي الغربي (الدّيمقراطيّة)، هذا بالإضافة إلى أنّهم جميعا يرون أنفسهم تلامذة للغرب الأوروبي يتعلّمون منهم وينتظرون دعمهم بما يعني أنّهم جميعا يرون تبعيّة تونس لأوروبا، لأجل ذلك ورغم التنافس الظّاهريّ بين الرئيس ومجموعة “ضدّ الانقلاب” فإنّهم جميعا يسعون إلى هدف واحد هو جعل تونس قاعدة أوروبيّة ويتجلّى ذلك في كلّ تصريحاتهم وأعمالهم. لا فرق بين الرئيس سعيّد أو راشد الغنّوشي أو اتّحاد الشّغل ورئيسه. هذه العقليّة وضعت تونس وشعبها تحت الوصاية وصارت ترى في هاته الوصاية قدرا محتوما يزعمونها سياسة وبرامج.
فهل سيتغيّر الحال مع لجنة قيس الرئيس؟ هل يمكن الحديث عن صناعة قرار مستقلّ أو وضع دستور؟
ثمّ هل سيُغيّر الدّستور الجديد حياة التّونسيين؟
كلّ الوسط السياسي في تونس علمانيّ خادم للغرب، وصل إلى طريق مسدود مع الشّعب المسلم في تونس، وهو اليوم يبحث عن الحلول لترويض الشعب ومن ثمّ تدجينه، وفي هذا الإطار يأتي الحديث عن تغيير النّظام السياسي والدّستور، في محاولة يائسة لتنفيس الاحتقان في ظلّ الأزمات المتراكمة في الصّحّة والتعليم وغلاء المعيشة، وهم ينتظرون أن يشتدّ الإنهاك بالنّاس وينتهي مخزون الثورة عندهم، ليعلنوا عن الحوار فالمصالحة(وهي إعادة الحرس القديم، وإرجاع الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورة، من رضوخ وتسليم واتّباع) وإعلان انتهاء الثورة (أو موتها). بالإعلان عن دستور جديد وانتخابات جديدة ومن ثمّ إلغاء كلّ شرعيّة لأيّ فعل ثوريّ أو دعوة للتّغيير الحقيقيّ.
كيف ننظر إلى “الاستشارة الوطنيّة”؟
قال الله عز وجل:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب: 36]. هذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد كائنا من كان، مخالفته ولا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول.
والله سبحانه وتعالى أرسل إلى البشر كافّة تشريعا ينظّم حياتهم بأحكام شرعيّة عمليّة واضحة بيّنة،
وأمر الله سبحانه وتعالى نبيّه الكريم صلّى الله عليه وسلّم في محكم تنزيله بقوله: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ … الآية) وهي آية صريحة تنصّ على أنّ الله أنزل أحكاما لا يُستشارُ فيها أحد، والواجب على المسلمين جميعا أن يلتزموا بها ويطبّقوها مسلّمين لربّهم مطيعين.
ومن نكبات الدّهر التي أصبنا بها أن يتولّى علينا أشباه سياسيين يزعمون أنفسهم حكّاما يُعرضون عن كتاب الله وأحكامه ويدعون إلى “استشارة وطنيّة” لوضع دستور نُجبر على اتّباعه جبرا.
هذا ظنّهم: وهذا هو مخطّطهم: ويمكرون ويمكر الله
الشّعب في تونس أهمل استشارة الرئيس إهمالا كما أهمل من قبل دستور 2014 ومزّقه تمزيقا، في تونس شعب أبيّ عصيّ عن الترويض والتدجين، يرفض أن تكون تونس تابعة لأوروبا، في تونس شعب من أمّة إسلاميّة حيّة واعية وشبابها متحرّك مصرّ على استرجاع بلده وافتكاكها من بين أنياب المستعمر. في تونس شعب ما عادت ديمقراطيّة الغرب تفتنه وما عاد حديث الدّستور يُغريه.
ولم يبق إلا الإسلام العظيم بعقيدته الصّافية وبأحكامه العادلة هو الملهم وهو المخرج الذي تبحث عنه الشّعوب كلّها: هربا من ديمقراطيّة خادعة ماكرة تسلّطالأقوياء تمكّنهم من وضع القواني لأكل الضّعفاء وهربا من رأسماليّة جائرة ظالمة تجعل الثروة في أيدي قلّة من المرابين مصّاصي دماء الشّعوب.
نعم لقد نفذ الصّبر في تونس بل في كلّ العالم من اضطهاد الدّيمقراطيّة وجرائم الرأسماليّة، وسئمنا ألاعيبكم وآن الأوان أن تزولوا فأنتم أعجز من أن تخدعونا أو تروّضونا وإنّ تونس وكلّ البلاد الإسلاميّة قادمة على تغيير عظيم يكون فيه الإسلام هو الحاكم وشرع الله العادل هو السيّد في دولة خلافة راشدة على منهاج النّبوّة. وإنّ ذلك لقريب، فارتقبوا وانتظروا فإنّ وعد الله حقّ.
أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب
الأستاذ محمد الناصر شويخة
CATEGORIES كلمة العدد