الاستقلال في تونس… حديث خرافة

الاستقلال في تونس… حديث خرافة

زعم بورقيبة أنّه حرّر تونس من الاحتلال الفرنسي، ويحلو لكثير من العلمانيين ودعاة الدّولة الوطنيّة أنّ 20 مارس يمثّل محطّة بارزة في تاريخ تونس، محطّة تحقّق فيها الاستقلال ومنها بداية بناء الدّولة الوطنيّة “الحرّة” ذات السّيادة. وها قد مرّت ما يقرب من السّبعين عاما، فماذا تحقّق؟ هل تحرّرت تونس فعلا؟ هل هي مستقلّة؟ من صانع القرار فيها؟

إنّ حديث العلمانيين في تونس الدّولة الوطنيّة الحديثة يتغشّاه مغالطات كثيرة ذلك أنّه بعد 20 مارس 1956 ظلّ الاحتلال الفرنسي في تونس وتحديدا في قاعدته العسكريّة ببنزرت إلى غاية 1963، ولم يخرج الجيش الفرنسيّ من تونس إلّا بعد سنتين كاملتين من “معركة” بنزرت (أكتوبر 1961). وتفيد شهادات كثير ممّن حضر “المعركة” أنّها لم تكن حربا بين جيشين نظاميين بل كانت مذبحة جبانة حيث قصفت فرنسا المجرمة بطائراتها ودباباتها المدنيين العزّل، وصبّت حقدها الأسود على أهل البلاد بقنابل “النابالم” حارقة، وقتلت خلال 4 أيّام أكثر من 6 آلاف شهيد قلّة قليلة منهم حاملة للسلاح من جيش وتشكيلات حرس، حديثة التكوين. وهذا يكشف أنّ الاستقلال الذي أعلن عنه بورقيبة وجماعته في 1956 كان صوريّا، إذ ظلّ الجيش الفرنسي في بنزرت (التي قال عنها جول فيري أنّها أهمّ من تونس كلّها) 8 سنوات كاملة تُقلع منها طائراته كلّ يوم لضرب المجاهدين في الجزائر، بما يعني أنّ المقبور بورقيبة وجماعته كانوا شركاء للمستعمر الفرنسي في ذبح المجاهدين في الجزائر. ولمّا فاحت رائحة بورقيبة الخيانيّة واشتدّ عليه النّكير من المجاهدين في الجزائر ومن التّونسيين الرّافضين لاتّفاقيّة الاستقلال المزعوم، افتعل معركة بنزرت افتعالا دون إعداد أو تخطيط فزجّ بآلاف المدنيين العزّل من كلّ ولايات تونس دون تسليح إلى بنزرت ليُذبحوا، من أجل تلميع صورته فقط بدليل أنّ فرنسا خرجت بعد سنتين من “معركة” بنزرت. أمّا عن علاقته بفرنسا فقد ظلّ بورقيبة على علاقة حميميّة مع فرنسا التي ذبحت أبناء تونس والجزائر وكان يجاهر طوال الوقت ويقول إنّنا نريد أن نبني علاقات جديدة مع فرنسا (هكذا) دون حياء.

وبنفس الادّعاء يحاول العلمانيّون ودعاة الدّولة الوطنيّة إحياء ما يعتبرونه عيدا للاستقلال وهم يتبنّون مقولات المحتلّ، في كلّ شيء، من ذلك مثلا أنّ وزارة الخارجيّة التّونسيّة منذ أيّام قليلة نعت موت الوزير الفرنسي السّابق “فريديريك ميتيران” باعتباره صديقا وفيّا لتونس من الذين عملوا على تحسين العلاقات بين تونس وفرنسا. في سابقة غير معهودة، فهل العلاقة مع فرنسا مهمّة جدّا إلى هذه الدّرجة؟ وبماذا أفادت فرنسا تونس، فرنسا هذه التي أجرمت في حق تونس والتّونسيين لماذا يريد العلمانيّون أن نكون قريبين منها؟ لم كلّ هذا الحرص على ربط الصّداقات معها؟ لماذا يحزن وزير الخارجيّة على موت “ميتيران” هذا؟

سبعون عاما أو تكاد، على بداية بناء ما يزعمونه دولة وطنيّة مستقلّة ذات سيادة؟

بورقيبة وأيتامه من العلمانيين يتاجرون بدماء الشّهداء الذين جاهدوا بأنفسهم وجادوا بأرواحهم من أجل دحر المحتلّ الفرنسيّ، لكن أين هم من الشّهداء الأبطال الذين واجهوا فرنسا الإرهابيّة وترسانتها العسكريّة بصدور عارية وشجاعة منقطعة النظير، وسالت دماؤهم الزكية من أجل قلع الاستعمار، ومن أجل أن يكون التّحرّر تامّا وحقيقيّا. أين العلمانيّون من دربهم الطّاهر القويم؟ فشهداؤنا رغم انعدام السّلاح والعتاد اختاروا الموت بشرف على البقاء تحت سيطرة المستعمرين، أمّا العلمانيّون فاختاروا الإنحاء بل الانبطاح تحت أقدام المستعمرين. ثمّ يزعمون أنّ الحرب اليوم هي حرب داخليّة لاقتلاع الفساد والفاسدين.

هذا ولحديث الاستقلال والاحتفاء به وجوهاً أخرى أشدّ بشاعة وأكثر خطورة:

المحتفلون بالاستقلال أو الدّاعون إليه يرون تونس كيانا صغيرا تابعا لأوروبا، مفصولة عن كيانها الطّبيعي البلاد الإسلاميّة، وقد كانت تونس ولاية من ولايات دولة عظمى، بل كانت قائدة الجناح الغربي لدولة الخلافة العظمى وكانت مهيبة، وإنّ استعمار تونس وغيرها من بلاد المسلمين كان في إطار خطّة عالميّة قادتها بريطانيا المجرمة بمعيّة فرنسا وبمعاونة الخونة من العرب والترك لإزالة الخلافة والإسلام كقوّة عالميّة وتفكيك دولة المسلمين. ولم تخرج فرنسا من تونس والجزائر، ولا بريطانيا من مصر وفلسطين إلا بعد أن اطمأنّوا أنّ الفئة الحاكمة الجديدة تابعة فكريّا وسياسيّا للفكر الغربي العلماني وأنّ القيادات الجديدة ستحارب الإسلام ودعاته وستتصدّى بكل قوة للحيلولة دون عودة كيانه السياسي: الخلافة الراشدة التي تجمع كلّ المسلمين في دولة واحدة. وفعلا فقد صارت تونس منذ حكم بورقيبة علمانية يحارب فيها الإسلام بشراسة يهادن فيها الكفر ومتولّداته، حتى رحّبت بكل فكر شاذّ ودخيل وأصبحت مرتعا لشركات النهب الاستعمارية تستنزف الخيرات وتفقر البلاد والعباد، وهذه الطامّة التي عمّت كلّ بلاد الإسلام.

ما سمّي بالتّحرّر الوطني في أربعينات القرن العشرين وما بعده لم يكن إلا خديعة كبرى للمسلمين برحيل الاستعمار، والحقيقة هي أن الاستعمار رحل بالاسم وبقي بالفعل حيث ترك المستعمر وراءه جيشاً من العملاء سياسيين ومشايخ وأحزابًا وغيرهم، واختار بنفسه من يسلم له الحكم عبر مفاوضات صوريّة. واستمرّت القوى الغربيّة في تسيير شؤون البلاد من وراء ستار.

هل استقلّت تونس؟ وهل استقلّت باقي بلاد المسلمين؟ فما شأن القواعد العسكريّة الأمريكيّة والبريطانيّة التي تُحاصر العالم الإسلاميّ؟ وماذا تفعل الجيوش الأمريكيّة في العراق منذ سنة 1990، وهل نسينا أفغانستان التي تُدمّر تدميرا؟ وماذا يقع الآن في فلسطين وغزّة، أين جيوش البلاد المستقلّة والحرب تدور على أرضها ما لها لا تحرّك ساكنا؟ أين الأرض المباركة فلسطين، هل طّهرتها جيوشنا من رجس عصابات يهود؟

أين هذه الدّويلات المستقلّة بزعمهم لماذا يعجزون عن وقف شلّالات الدّماء المنهمرة منذ ستّة أشهر وهم ينظرون؟ أين هم؟ لا حياة لمن تُنادي فكلّهم يزعم الاستقلال والسّيادة وتفضحُهم الأحداث والوقائع، لا يصنعون قرارا ولا شبه قرار كلّهم ينتظر قرارات الدّول الاستعماريّة الكبرى، وأمثلُهم طريقة من يتوسّل إلى أمريكا والغرب أن توقف الحرب أو يندّد على استحياء ببيانات جوفاء. أمّا السّيادة فأبعد ما يكون عنهم.

ثمّ انظر إلى جحافل المخابرات العالميّة التي تعشّش في كلّ البلاد، فقد صرّح وزير خارجيّة بريطاني السابق “هيج” مثلا أنّ بلاده ضاعفت عدد الموظّفين البريطانيين في سفارتها في تونس. أمّا السّفارة الأمريكيّة في تونس فهي شبه قاعدة عسكريّة تضمّ ما يقرب من 5 آلاف فماذا يفعلون؟ وألق نظرة على الخضوع للعسكريّة الأمريكيّة التي تذبحُنا في تونس مثلا اتّفاقيّة فضيحة سُمّيت “خارطة طريق” بين الجيش التّونسي والجيش المحتلّ الأمريكي يسمّونه زورا وبُهتانا تعاونا أمنيّا وهو في الحقيقة احتلال مقنّع ومساهمة في قتل الفلسطينيين وغيرهم.

إنّ الاستقلال الحقيقيّ الذي ننشد هو التحرّر الكامل من الاستعمار لا في تونس فقط بل في كلّ بلاد المسلمين والتحرّر الكامل هو التّحرّر من الفكر الرّأسمالي الغربي الغريب عن أمّتنا المفروضة علينا دساتيره وقوانينه بالحديد والنّار، المفروضة علينا سياساته بديمقراطيّة جوفاء يسيطر عليها المال الملوّث بدماء شهدائنا.

CATEGORIES
Share This