حدّث أبو ذرّ التّونسي قال: بعد فضيحة الدّورة الأولى للانتخابات البلديّة الخاصّة بالأمنيّين والعسكريّين والتي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 12 % انطلقت يوم أمس الأحد 06/05/2018 الدّورة الثّانية الخاصّة بعامّة النّاس وسط أجواء مشحونة من (الحملات الأمنيّة) على الانتصاب العشوائي بالأسواق والأماكن العامّة لجرّ الناس إلى صناديق الاقتراع ودفعهم لإنجاح الانتخابات…وبصرف النّظر عن نسبة المشاركة التي لن تفسد لودّ المهزلة الدّيمقراطية قضيّة، فإنّ الذين شاركوا فيها قد اضطلعوا عمليًّا بدور البطولة في مسرحيّة (شاهد ماشافش حاجة)، لأنّهم بكلّ بساطة يجهلون المهمّة التي اختاروا لها مرشّحيهم، أي أنّ تصوُّرهم للعمل البلدي وللبلديّة ورئيسها ـ واقعًا وحجمًا ودورًا وصلاحيّات ـ لم يقع تحيينه وتعديله بمقتضى مجلّة الجماعات المحلّية الجديدة، فكانوا كمن أمضى شيكًا على بياض وسلّمه إلى لصوص المال العامّ، وكفى بذلك إجرامًا في حقّ البلاد وأهلها…فواقع الانتخابات أنّها وكالة في الرّأي أي شهادة في حقّ من رشّحوا أنفسهم لينوبوا عنّا في تصوّر الخدمات البلديّة وإنجازها: فالمُنتخِب يقدّم عمليًّا شهادة متعلّقة بشخص أو جهة أو طرف سياسي إمّا لتعديلهم وتزكيتهم وتمكينهم من مقاعد في المجلس البلدي، أو لتجريحهم والطّعن في أهليّتهم وإقصائهم عن المهمّة…وبما أنّ الأصل في الأفعال التقيّد بالحكم الشّرعي، فإنّ المسلم مطالب شرعًا قبل الإقدام على الانتخاب أن يسأل نفسه هل أنّ ما سيدلي به في صندوق الاقتراع شهادة حقّ أم شهادة زور..؟؟ ولا يكفي للإجابة عن هذا السّؤال معرفة الأشخاص المترشّحين ومقوّماتهم الفرديّة، بل يجب معرفة المهمّة الموكولة إليهم من حيث جوازها شرعًا وأهليّتهم للاضطلاع بها، وفي غياب ذلك يُعدّ الفعل الانتخابي رجْمًا بالغيب وتزويرًا للمعطيات ينحطّ بصاحبه إلى درك شهادة الزّور…
حرمة مُغلّظة
وقبل البتّ في هذا التّساؤل المركزي، من المفيد للبحث أن نقف عند واقع شهادة الزّور وننظر في حكمها الشّرعي من حيث درجة الإثم والوزر، وفي تمظهراتها على أرض الواقع من حيث الصّور والأشكال التي تتلبّس بها…وممّا لا شك فيه أن شهادة الزّور كبيرة من الكبائر، بل هي معدودة من أكبر الكبائر: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر..؟؟ ـ قالها ثلاثًا ـ قلنا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين ـ وكان مُتّكئًا فجلس ـ ألا وقول الزّور ألا وشهادة الزّور…فما زال يكرّرها حتّى قلنا ليته سكت)…هذا الحديث الشّريف ـ إن في مضمونه ومعناه ومحتواه أو في شكله وكيفيّة إلقائه وقوله ـ يبيّن فداحة هذا الجرم وخطر هذا الذّنب العظيم: فقد بادر النّبي بالحديث عنه قبل أن يُسأل ـ على خِلاف عادته ـ والتزم بتكرار مصطلحاته الهامّة ثلاث مرّات للتّأكيد عليها مع تَغيُّر سِحنته ولهجته وتحويل جلسته للفت الانتباه إلى المعنى المقصود…وما ذلك منه إلاّ لكون شهادة الزّور من أعظم الجرائر وأخطر الظّواهر ـ لاسيّما إذا كانت مقرونة باليمين الغموس ـ وذلك لِما يترتّب عنها من الظّلم والقهر وهدر الحقوق وقلب الحقائق وتزييف الوقائع وتضليل العدالة وزرع الأحقاد ونشر البغضاء والضّغينة…فلا عجب أن قَرَن الله تعالى بينها وبين الشّرك وعبادة الأوثان فقال (فاجتنبوا الرّجز من الأوثان واجتنبوا قول الزّور)، كما نزّه المؤمنين عنها بما ينفي ضمنيّا الإيمان عن مقترفها فقال (والّذين لا يشهدون الزّور وإذا مرّوا باللّغو مَرّوا كرامًا)…فكم طُمِست بسببها من حقائق وانتُزعت من أملاك وانتُهكت من أعراض وانتُهبت من أموال، وكم من بريء بُهِتَ بسببها واتُّهِم ومجرم بُرّئ ووضيع رُفع وشريفٍ وُضِع…فهي آفة تعصف بالمجتمع وتُقوّض أركانهُ وتُزعزع أمنه واستقراره، فلا غرْو أن حذّر منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال (إنّما أنا بشر وإنّكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحُجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بحقّ أخيه فإنّما هي قطعة من النّار فليأخذها أو يذرها)…
أشكال متنوّعة
هذا الذّنب الخطير والشّر المستطير لا يقتصر على النّموذج المستهلك المتمثّل في الشّهادة الكاذبة بين يدي القاضي في المحكمة، بل إنّه يتلوّن كمَا الحرباء ويلبس لكلّ حال لبوسها فيتمظهر على أرض الواقع بأشكال وصُور لا تدخُل تحت الحَصر في حقير الأمور وجليلها: من الوشاية الكاذبة والتّقارير المغرضة والفواتير المبالغ فيها والشّهائد الطبيّة المغلوطة والتّرويج الكاذب للسّلع، إلى الغشّ في مواصفات البناء وتزوير الشّهائد العلميّة والبيانات الشّخصيّة والغش في الأدوية والمواد الاستهلاكيّة وتشويه سمعة النّاس والحطّ من كرامتهم…ومن أفدح أشكال شهادة الزّور وأعظمها إثمًا ووِزرًا وأوسعها نطاقًا وأخطرها تبِعاتٍ نذكر شكلين اثنين: الأوّل يتعلّق بالعِرض والشّرف كقذف المحصنات والشّهادة زورًا بما يُسيء إلى سُمعتهنّ، قال تعالى (إنّ الذين يَرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعِنوا في الدّنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) وعلّق القرطبي على الآية في تفسيره بقوله (واللّعن هو الطّرد من رحمة الله والإبعاد والهجر وسقوط العدالة وانتفاء الثّناء الحسن…وأجمع العلماء على أنّ حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسًا واستدلالاً…ويكون التّقدير: إنّ الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكّر والمؤنّث) وقد واصل الله تعالى وعيده لهذا الصّنف في الآيتين المواليتين حيث قال (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجُلُهم بما كانوا يعملون، يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين)…أمّا الشكل الثاني فيتعلّق بأمر العامّة وسياسة النّاس ورعاية الشّؤون، فإنّ التّزوير في هذا الميدان يتجاوز شخص الشّاهد والمشهود له ليعمّ شرائح واسعة من المجتمع وقد يتوسّع ليشمل الأمّة قاطبةً بما يؤدّي إلى تضييع حقوق الله تعالى كما هي حال حكّام المسلمين اليوم مع الأمّة الإسلاميّة من الغدر والزّور والغشّ والخيانة والعمالة…وفي هؤلاء قال النّبي عليه الصّلاة والسّلام( لكلّ غادرٍ لواء يوم القيامة يُرفع له بقدر غدرته حتّى يُقال هذه غدرة فلان وهذه غدرة فلان…ألا ولا غادِر أعظم غدرًا من أمير عامّة)، وفي هذا الدّرك الأسفل بالذّات تتنزّل شهادة الزّور في الانتخابات البلديّة: تزكية أطراف غير مؤهّلة وتمكينها من مواقع حسّاسة تستغلُّها لتنفيذ أجندا استعماريّة تعود بالوبال على البلاد والعباد…وكفى بذلك إثمًا مُبينًا..
لا يُعذر الجاهل بجهله
كيف تتنزّل شهادة الزّور على واقع الانتخابات البلديّة..؟؟ وكيف يكون المشارك فيها بمثابة شاهد زور على جريمة سياسيّة تُقترف في حقّ تونس وأهلها..؟؟ في البداية نحن ننزّه سواد التّونسيّين عن الوعي بفخّ هذه الانتخابات: فمعظم من شاركوا فيها غابت عنهم الخلفيّة السياسيّة وتسلّحوا بحسن نيّة تُلامس حدود السّذاجة والغباء السّياسي…فقد استحلّوها إمّا مدفوعين بأفكار مسبقة خاطئة تجاوزها الزّمن حول واقع البلديّة والعمل البلدي، أو لترجيح كفّة أطراف (فيهم الخير) والتصدّي لأطراف أخرى (ما تخافش ربّي) هكذا بكلّ بساطة وبذهنيّة خالية من مستجدّات مجلّة الجماعات المحليّة والحكم المحلّي والديمقراطيّة التشاركيّة وما يُحاك للأمّة في كواليس العواصم الغربيّة ودهاليز مخابراتها…إلاّ أنّ حُسن النيّة والجهل لا يكفيان لتبرئة ذمّتهم: فلا يُعذر الجاهل بجهله، ومن يُرشّح شخصًا لا يعرفه أو لمهمّة و وظيفة لا يعلمها يكون قد شهد في حقّه شهادة زور، لأنّه بصفته تلك غير مؤهّل لأن يشهد شهادة حقيقيّة مطابقة لواقع المشهود له…وللتدليل على ذلك نسوق للنّاخب التونسي (الزوّالي) جملة من المعطيات: أوّلاً= إنّ البلديّة لم تعد مجرّد مؤسّسة إداريّة خدماتيّة تطوّعية مستقلّة عن السّلطة السياسيّة ولا حتّى جهازٍ تنفيذيّ موظّف من طرفها، بل أصبحت (إمارة) داخليّة شبه مستقلّة لها من الصّلاحيّات الموسّعة ما يمكّنها من رعاية شؤون منظوريها بنفسها وتجاوز السّلطة المركزيّة…فمن شارك في هذه الانتخابات لم يختر طاقمًا متطوّعًا للسّهر على نظافة المدينة وتنظيم شؤون الحياة فيها وإنّما وُظّف من حيث لا يعلم لتنصيب حاكم بأمره واشترك من حيث لا يدري في حرب مواقع بالوكالة بين الأحزاب السياسيّة في تونس…ثانيًا: أنّ هذا التضخّم في دور البلديّة الذي خوّل لها الاستفراد برعاية الشّؤون والتصرّف في مواردها ووضع ميزانيّاتها وربط علاقات مع جهات خارجيّة بمنأى عن السّلطة المركزيّة، إنّما يتنزّل في إطار ما يُسمّى بالحكم المحلّي وهي وصفة استعماريّة مسمومة مفروضة من طرف صندوق النّقد الدّولي الغرض منها تفكيك الدّولة وضرب مركزيّة الحكم فيها وإيجاد منفذ للاستعمار في شؤونها الدّاخليّة بما يجعل له سبيلاً على ثرواتها وقرارها السّياسي…فالمشارك في تحقيق هذا الجرم على أرض الواقع لم يمارس سلطانه بقدر ما كان بمثابة القفّاز المحلّي المنفّذ لأجندا استعماريّة مستهدفة لبلاده ومقدّراته، ويكون بذلك قد شهد شهادة زور أدخلت ذئب الاستعمار إلى زريبة خرفانه…
(طريحة التوبة)
ثالثا: إنّ الأطراف السياسيّة المتكالبة على مقاعد البلديّات سواء ما هو منها في الحكم أو في المعارضة لا تملك إلاّ أن تكرّر نفسها، ومن الغباء السياسي أن نتوقّع منها نسخة غير مطابقة للأصل ،فهي موجودة أصلاً لإنجاز مهامّ الكافر المستعمر في البلاد بالوكالة، ودونك (إنجازاتها) الحاليّة فهي خير شاهد عليها ( فقر ـ تهميش ـ بطالة ـ غلاء ـ تداين ـ ضرائب ـ ارتهان للأجنبي ـ تفريط في الثّروات…)..هذا جملةً، أمّا تفصيلاً فإنّ مشروع نداء تونس يكاد يتلخّص في نقطتين أساسيّتين: رهن البلاد والعباد للكافر المستعمر ومحاربة الله ورسوله (إباحة المخدّرات ـ تقنين المثليّة ـ المساواة في الميراث ـ زواج المسلمة بكافر…) أمّا حركة النّهضة فهمّها أن تدفع عن نفسها (تهمة) الإسلام حتّى إنّها تعمّدت إغراق قوائمها بالنّساء واختيار رؤساء القوائم من اليهود والنّصارى والعلمانيّين…فأيّ خير يُرجى من هكذا وسط سياسي…؟؟ وإنّ الذين شاركوا في هذه الانتخابات قد أعانوا عمليًّا الظالم على ظلمه ومكّنوا للطّاغوت في الأرض وجعلوا للكافرين على المؤمنين سبيلاً…رابعًا= إنّ الذين يتكالبون على منصب رئاسة البلديّة لم يكن ذلك منهم رغبةً في خدمة الصّالح العامّ والتطوّع لتحسين وضعيّة مناطقهم ـ إلاّ من رحم ربّي ـ بل رغبةً في التمتّع بالامتيازات التي مكّنتهم منها مجلّة الجماعات المحليّة الجديدة: فبمقتضى التفرّغ الذي أقرّته لهم أصبحوا يتمتّعون بمنحة شهريّة لا تقلّ عن 3 آلاف دينار وحوافز مختلفة وامتيازات عينيّة (سيّارة وظيفيّة ـ سائق خاصّ ـ 500 لتر وقود شهريًّا ـ خدمات اتّصالية…)، وإنّ الذين شاركوا في انتخاب أمثال هؤلاء الانتهازيّين قد مكّنوا لصوص المال العامّ من موارد الجهة…هذا هو واقع الانتخابات البلديّة وهو واقع يجعل من المشاركة فيها شهادة زور بامتياز ومن عدم المشاركة فيها شهادة حقّ لا يجوز كتمانها (ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه)…ونحن نربأُ بالشعب التونسي المسلم الأبيّ أن يكتم شهادة الحقّ ويحمل وزر شهادة الزّور بين يدي الله…الدّرس لم ينته، غفر الله للجميع وعسى أن تكون (طريحة التوبة)…