البالوعة هي المكان الطبيعي للأنظمة الفاسدة

البالوعة هي المكان الطبيعي للأنظمة الفاسدة

مع حدود الساعة السابعة إلاَ عشرون دقيقة وبينما أعود من مشوار مع الوالدة (حفظها الله) إذ نلمح على مرمى عشرين مترا من مكاننا في الشارع ب”حي الوادي  بالبحر الأزرق” تجمَعا بشريا، فيه يخوض بعض الناس بالصراخ والبكاء والبعض الآخر تجده في بهتة من أمر هذا البلد المنهك بآلام الظلم والقهر… أسأل: “ما الذي يجري هاهنا؟” فتجيبني امرأة: “طفلة صغيرة تجمع القوارير البلاستيكية سقطت في البالوعة.”
بين القوم المكتظين استطعت أن ألمح والدة الطفلة، امرأة وجهها قد أنهكته سلفا قساوة الحياة في نظام علماني دنيء ثم زاد وجهها بؤسا بمصابها الجلل.
هذه الفتاة تدعى فرح الطفلة الصغيرة التي لم تذق بعد شيئا من فرح الحياة ولم تعرف سوى الألم والفقر مرافقة أمها في رحلة نضالها اليومية في جمع القوارير البلاستيكية من الحاويات على قارعة الطريق دون أن ترتدي كمامة ولا قفازا فتخلَ بذلك بالبروتوكول الصحي الذي تفرضه دولة الحداثة على من لا يملك ثمن عشاءه فما بالك بثمن “الكمَامة”.
أمَا البالوعة في تونس فهي عبارة عن حفرة بعيدة كل البعد عن المقاييس التقنيَة لبالوعة لمياه الأمطار والصرف الصحي، مجرَد حفرة مغطَاة بقطعة من اللوح فلا يُميَزها النَاظر عن  الأرض، فضلا عن أن الحاوية الكبرى للمهملات لا تبعد عن الحفرة “البالوعة” أكثر من نصف متر تقريبا أي أن الجميع مضطرون للاقتراب منها، وقد ذكرت شهادات أهالي “حيً الوادي” أنهم قدَموا ما لا يحصى ولا يعدَ من العرائض بغرض النَظر في أمر هذه البالوعة منذ سنة 2017، أي أربع سنوات عجاف للنظر في قضية البالوعة التي لا يكلَف الدولة ثمن إغلاقها سوى بضع دنانير والحال أن بترولنا عند بريطانيا وملحنا في فرنسا !!؟
وهنا نقف على أمر مهم ألا وهو سلطان البلاد وقانونها و”ترسانتها التشريعية” وأساسها الرأسمالي, حيث لم تهلك فرح فقط جراء إهمال دولة الحداثة. حتى القطة التي لاطفتها فرح ليلتها لم تسلم من نكبات هذا النظام الذي أغرق البلاد في وحل الضنك, إذ وقعتا معا في البالوعة.. هي الرأسمالية يا مسلمون, هي حكم الجور ونظام التداول على خدمة الأجنبي مقابل إنهاك بلادنا والتلاعب بأرواح البشر والحيوان على حد سواء ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فرح لم يعثر عليها أعوان الحماية المدنية (رغم جهودهم المبذولة أمام قلة الحيلة في دولة لا توفر أبسط مقومات العيش الكريم) إلا بعد 36 ساعة من سقوطها داخل البالوعة، حيث حملها التيار القوي لمياه الصرف الصحي التي تحوي غازات سامة نحو محطة التطهير التي تبعد حوالي 1 كلم عن مكان الحادثة، ولعل من ألطاف الله بنا وبعائلة فرح وأمها أن جثتها لم تطحن مع الفضلات وفزنا بإنجاز إكرام الميَت بدفنه الذي أصبح أقصى أمانينا في بلد تسارع مؤسسة الحكم المحلي فيه “البلدية” مباشرة إثر خروج خبر سقوطها, تسارع إلى نشر بيان تتنصل فيه من مسؤوليتها وتلقي بثقل الجريمة على كاهل شركة تطهير المياه.
ناهيك عن التخاذل في الأوساط الإعلامية التي تخلت عن واجبها في قول الحقيقة بل زيفت القضية محاولة التعتيم على الموضوع فأعلنت وفاة الطفلة قبل أن يجدوا الجثة موجًهة أصابع الاتهام نحو الأم بالإهمال والتقصير، لكن في هذه البلد لازال هناك رجال وألسنة حق نقلت وفضحت الأخبار لاسيما وأن بعض المسئولين أرادوا إيقاف البحث وقد وظفوا بعض الأذيال لإقناع الأهالي والرأي العام بأن الطفلة لم تسقط داخل البالوعة وأنها في حالة ضياع ،لكن أمة الإسلام ولادة ولازال فيها الخير الكثير فقد وقع الضغط بفضل وعي الناس على السلطة للبحث عن الجثة وتحمل مسؤولية الحادثة.

وفي خضم هذه الأحداث دفعت الأجواء المشحونة أهالي الحي إلى الاحتجاج بالطريق الرئيسي لمنطقة “البحر الأزرق” على الأوضاع المزرية التي تعيشها المنطقة من تهميش واهتراء البنية التحتية وخاصة “الوادي” الذي يعتبر مصدرا للتلوث وخطرا يؤدي لسقوط السيارات فيه، إضافة إلى سوء تجهيز البنية الكهربائية للحي التي اهترأت وتسببت في حوادث كثيرة (حادثة مقتل أحد شباب الحي اصطداما بعامود كهربائي سنة 2015، تقطَع يدي رجل خمسينيَ سنة 2016)
إنه ليس بالغريب على دولة 3000 سنة حضارة -كما يدعون- أن تصل إلى ما وصلت إليه من انهيار وسقوط أخلاقيَ، فستون سنة من العلمانية التي تفصل سياسة أمور الناس عن الإسلام العظيم، أضف إليها عشرية أخيرة من الديمقراطيات المتنوعة “تمثيلية وتشاركية…” ليس غريبا عنها أن تتنصل من مسؤوليتها خاصة وأنها تطبق رأسمالية براغماتية متجردة من الرحمة لا تميل إلا مع بوصلة المال والمنفعية المادية، مجهضة كل قيمة روحية أو أخلاقية أو إنسانية تحفظ الناس في أرواحهم وأنفسهم وأموالهم وعقولهم، هذه العقيدة هي نفسها التي ضحت بفرح مقابل 300 دينار ثمنا لإغلاق بالوعة بسرعة البرق بعد يوم من جريمة موت فرح.

نعم, هو نظام سريع التحرك حين ما يصبح الأمر متعلقا بإنقاذ أنفاسه الأخيرة التي تهددها احتجاجات الناس المتواصلة وغضبهم ورفضهم لواقع الحال الذي هو بعيد كل البعد عن الدولة الراعية والمسئولة عن رعيتها كما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.

ما زاد الطين بلَة بيان مندوب حماية الطفولة في تونس حين حمَل الأم المسؤولية مخليا الدولة من كل مسؤولية بتعلة أن جمعها للقوارير شكل من أشكال الاتجار بالأطفال؟؟ ولا ننسى انه مؤخرا حذفت وزارة المرأة والطفولة والأسرة وكبار السن -التي يمثلها المندوب- من اسمها لفظ الطفولة فكأنها تصارحنا بأنها تخلت عن الطفولة منذ زمن.

عجيب أمر هذه البيانات التي تتجاهل واقع الطفولة في تونس ففي كثرة ثقيلة من الاتفاقيات والقوانين الغربية التي تتبجح بحقوق الطفل فتارة قانون “كنس الأبوة” وأخرى مقترح إدراج التربية الجنسية في البرامج التعليمية وطورا تدريس الجندر والنوع الاجتماعي للطفل في تحد صارخ لعقيدة المسلمين، مفاهيم حتى الغرب أصبح يتململ منها ويشتكي، فلِما يقبلها الساسة ويدعو إليها النخبة في بلادنا التي لا تحضى فيها الطفولة بأبسط حقوقها وعلى رأسها حق التنشئة على قيم سليمة قويمة تحميه شرور المفاهيم الغربية وظلماتها ومفاسدها المهلكة.

لم لم يحتج مندوب الطفولة على النظام الفاسد ؟ على الأطفال في الشوارع؟ لم لا يحتج على آلاف الأطفال المنقطعين عن الدراسة بسبب الفقر وقلة اليد وذات الحيلة؟ لم لا يحتج على البرامج التعليمية التي تخرب عقول الناشئة فتنتج جيلا قاصرا عن القيادة والنهوض بنفسه عدا النهوض ببلاده؟ لم لا يحتج على زيف القوانين كالقانون عدد 58 وكذبة مناهضة العنف ضد النساء والأطفال المقيمين معها؟

المرأة في بلادنا تجمع وأطفالها القوارير من مكبات الفضلات لتأكل بشرف…

ثم تطل علينا وزارة المرأة ببيان ثان مخجل الذي اختزل القضية في تقديم مساعدة للأم فهل هذه المشكلة معلوم كراء أجرة البيت لمدة سنة؟ وبعد سنة ماذا يحدث؟ هل سيتغير الحال؟ أم تنتظرون أن يهدأ الناس وتبرد القلوب التي ضجت بكم وبظلمكم؟ هكذا هي وزارة المرأة ولهذا وجدت همَها الوحيد إرضاء الغرب وتمرير اتفاقياته أمَا تلك الكادحات فهن آخر همَها.

والأمر مما سبق أن المسئولين يطلبون التفاوض وجلسات نقاش مع أهالي الحي، والحال انه لو كنا في دولة تحترم نفسها لوقع إيقاف كل الأطراف المسئولة للتحقيق معهم في قضية فرح لكن هيهات هيهات! أين هي من دولة الإسلام التي يحاسب فيها عمر الفاروق على بغلة عثرت لان الطريق لم يعبد لها.

إن الفساد الذي استشرى ليس غريبا عن دولة تقوم على فساد الفكرة والطريقة، ولكن ما يجب أن يعيه الناس أن لا يسقطوا في فخ المطلبية والاحتجاج الساذج استنزافا لطاقاتهم التي تؤدي لإخماد نيران ثورة تغيير حقيقية على أساس الإسلام.
إنه النظام كما عهدناه يضحي بالبشر والحيوان والشجر مقابل عرض من الدنيا قليل، قال تعالى: “{الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} سورة الهمزة.

أيحسب النظام بعد كل هذا أن أصنامه وعملائه وكل قوته تخلده في دنيا فانية؟

يا أمة الإسلام إننا اليوم في أرض الزيتونة بل في العالم الإسلامي جمعا نجني محاصيل فاسدة جراء تطبيق أنظمة فاسدة عميلة للغرب ووفية لسياساته تحكمنا بالحديد والنار وقرارات الموت البطيء البعيدة عن ثقافة الإسلام ثقافة كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: فيها ينتهك الطفل والعرض والأرض والإنسان كلهم جميعا يلقى بهم داخل البالوعة في حين أن هذه الأخيرة هي المكان الطبيعي للأنظمة الفاسدة ، فهل نرضى وقد قال ربنا عز وجل في كتابه: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}
فهل لنا غير نظام رباني نظام الإسلام شمل جميع نواحي الحياة لقول الله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} سورة الإسراء. فهل لنا غير تشريع عادل كرمنا من خالق مدبر تدخل فيه امرأة للنار لهرة لم تطعمها فما بالك بروح بشرية تموت داخل بالوعة اللامبالاة؟
ختاما: اللَهم اجمع شتات أمتنا تحت راية واحدة وفي دولة واحدة تخافك فينا وتتخذ حكمك نظاما ومنهاجا به تحفظ عبادك وترعاهم حق الرعاية.

الطالبة رحاب عمري

CATEGORIES
TAGS
Share This