البرّ حسنُ الخلق
عن النَّوَّاسِ بنِ سِمْعانَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: {الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ , وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليْهِ النَّاسُ}. وعن وابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: )أتيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقالَ: “جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ قُلْتُ: نَعَمْ. قالَ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطْمَأنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ
الكلام على هذا الحديث العظيم من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: (تخريج الحديث) فاللفظ الأول لهذا الحديث أخرجه مسلم من طريق معاوية بن صالح عن عبد الرحمان بن جبير عن أبيه عن النواس عن النبي صلى الله عليه و سلم، أمّا اللفظ الثاني رُوِي في مُسْنَدَيِ الإمامَيْنِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ والدَّارِمِيِّ من طريق حماد بن سلمة عن الزبير بن عبد السلام عن أيوب بن عبد الله عن وابصة بن معبد رضي الله عنه، و فيه انقطاع بين الزبير و أيوب و لكن للحديث شواهد جيدة.
الوجه الثاني: يدل هذا الحديث على عظم حسن الخلق، و ذلك أنّ النبي صلى الله عليه و سلم فسر البرّ بحسن الخلق، و من معانى البر أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة كقوله تعالى:} وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ والملائكة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{ (البقرة)، فالبر بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والطاعات الظاهرة، كحمل الدعوة من أجل استئناف الحياة الإسلامية، و كإنفاق الأموال فيما يحبه الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر على الأقدار كالمرض والفقر وقد يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس شاملًا لهذه الخصال كلها لأن حسن الخلق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة والتأدب بآداب الله التي أدب بها عباده في كتابه كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:” وإنك لعلى خلق عظيم” (القلم) وقالت عائشة رضي الله عنها:” كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن” يعني أنه يتأدب بآدابه فيفعل أوامره ويتجنب نواهيه فصار العمل بالقرآن له خلقا كالجبلة والطبيعة لا يفارقه وهذا من أحسن الأخلاق وأشرفها وأجملها وقد قيل إن الدين كله خلق وأما في حديث وابصة فقال البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس وفي رواية ما انشرح إليه الصدر، وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقبوله وركز في الطباع محبة ذلك والنفور عن ضده وقد يدخل هذا في قوله في الحديث القدسي:” إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا”،
وقوله في حديث النواس بن سمعان الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجًا وضيقًا وقلقًا واضطرابًا فلم ينشرح له الصدر، ومن هذا المعنى قوله في حديث وابصة:” وإن أفتاك الناس” يعني أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، فأما إن كان مع المفتي دليل شرعي فالواجب على المستفتى الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره وهذا كالرخصة الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة في السفر ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال فهذا لا عبرة به وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم فيمتنعون من قوله فيغضب من ذلك كما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه، وكرهوا مفاوضته لقريش على أن يرجع من عامه وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى }وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ{ وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به والتسليم له كما قال تعالى} فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا{ (النساء)
الوجه الثالث: يقع الخلط لدى البعض عندما يتوهم بأن نهضة الأمة تكون على أساس أخلاقي، و هذا الخلط ناتج عن اعتبار الأخلاق مقوم من مقومات المجتمع ، و الواقع أن الأخلاق لا تعدو أن تكون مقوم فردي، يقول الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في كتاب نظام الإسلام:” مع أَن الشَرّيعة الإِسْلامِيَّة فَصْلَت الأَنظمة تفصيلاً دقيقاً، كأَنظمة العبادات والمعاملات والعقوبات، فإنها لَمْ تجَعَلَ للأَخْلاق نِظَاماً مفَصْلاً، وإنما عالجت أَحْكَام الأَخْلاق عَلَى اعتبار أَنها أَوَامِر ونواه مِن الله تعالى، فهي عبارة على أحكام شرعية، و هي لا تؤثر عَلَى قِيَام المجتمع بحَال، لأَن المجتمع يَقُومُ عَلَى أَنظمة الحَيَاة، وتؤثر فِيهِ المشاعر والأَفْكَار، وأَمَّا الخلق فلا يُؤَثِّرُ عَلَى قِيَام المجتمع، ولا في رقيه أَوْ انحطاطه، بَلْ المؤثر هُوَ العرف العام الناجم عَنِ المَفَاهِيم عَنِ الحَيَاة، والمسير للمجتمع لَيْسَ الخلق، وإنما هِيَ الأَنظمة الَّتِي تُطَبِّق فِيهِ، والأَفْكَار والمشاعر الَّتِي يحَمْلها الناس والخلق ذاته ناجم عَنِ الأَفْكَار والمشاعر ونتيجة لتَطْبِيق النِظَام.
وعَلَى ذَلِكَ فلا يَجُوز أَن تحَمْل الدَعْوَة إِلَى الأَخْلاق في المجتمع، لأَن الأَخْلاق نتائج لأَوَامِر الله، فهي تأتي مِن الدَعْوَة إِلَى العَقِيدَة، وإلى تَطْبِيق الإِسْلام بصفة عَامَّة. ولأَن في الدَعْوَة إِلَى الأَخْلاق قلباً للمَفَاهِيم الإِسْلامِيَّة عَنِ الحَيَاة، وإبعاداً للناس عَنِ تفهم حَقّيقة المجتمع ومقوماته، وتخديراً لَهُمْ بالفضائل الفردية يُؤَدِّي إِلَى الغفلة عَنِ الوسائل الحَقّيقِيّة لرقي الحَيَاة. ولهذا كَانَ مِن الخطر أَن تجَعَلَ الدَعْوَة الإِسْلامِيَّة دَعْوَة إِلَى الأَخْلاق، لأَنَّها توهم أَن الدَعْوَة الإِسْلامِيَّة دَعْوَة خلقية، وتطمس الصُورَة الفِكْريّة عَنِ الإِسْلام، وتحول دُونَ فهم الناس له، وتصرفهم عَنِ الطَرِيقَة الوحيدة الَّتِي تؤدي إِلَى تَطْبِيقه وهي قِيَام الدَوْلَة الإِسْلامِيَّة”.
فريد سعد