عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدّعي واليمين على من أنكر, حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في ” الصحيحين”
الكلام على هذا الحديث من أوجه :
الوجه الأول : في تخريجه والحكم عليه:
كما أشار النووي رحمه الله، هذا الحديث بعضه في الصحيحين يعني بلفظ مُقارب وليس بهذا اللفظ والفرق الأكبر بين اللفظين في زيادة (البينة على المدّعي) فهي ليست مذكورة في الصحيحين، وفي الصحيحين ليس بلفظ (اليمين على من أنكر) وإنما (اليمين على الـمُدّعى عَليه) أي من أُقيمت عليه الدعوى وليس من أقام الدعوى، ولذلك فإن هذا اللفظ الوارد في الأصل هنا من طريق البيهقي تُكُلِّم فيه من جهة الثبوت فإن هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من طريق نافع بن عُمر عن ابن أبي مُليكة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم وأيضا أخرجه البخاري ومسلم من طريق ابن جُريج عن ابن أبي مُليكة عن ابن عباس فمدار الحديث هو ابن أبي مُليكة رواه عنه ابن جُريح ونافع بن عمر. وفي البيهقي أيضا جاء الحديث من هذين الطريقين ولكن برواية بعض الرواة عن ابن جُريح وبعض الرواة عن نافع بن عُمر وذكر هؤلاء الزيادة، يعني مثلا عند البيهقي جاءت من طريق الوليد بن مُسلم عن ابن جُريج وهذه الرواية ليست بتلك القوة خاصة مع المخالفة, وأيضا جاء من طريق الحسن بن سهل عن عبد الله بن إدريس عن ابن جُريج وعثمان عن ابن الأسود عن ابن أبي مُليكة والحسن بن سهل لم يُعرف بكبير توثيق.
فهذه الزيادة (البينة على المدّعي) في ثبوتها نظر وإن كان قد أجمع أهل العلم فيما نقل ابن المنذر رحمه الله على أن البينة على المدّعي وهناك أحاديث تشهد لهذا منها ما رُوي عن وائل بن حجر قال: (جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي. قال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بيّنة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. فقال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلّفته عليه وليس يتورع من شيء. قال: ليس لك منه إلاّ ذلك)
الوجه الثاني : في معنى هذا الحديث:
الحديث معناه أنه لو كانت الحقوق من الأموال والدماء تُعطى لمُدّعِيها بمجرد دعواه لسارع رجالٌ في ادّعاء أموال أقوام بلا بينة وبلا شيء سوى مجرد الدعوى ولو أُعطيَ كل مدّعٍ على دعواه لصارت الأمور فوضى ولسُفكت الدماء وأُخذِت الأموال وانتقلت الحقوق بلا بيّنة ولا برهان وإنّما بمجرد الدعاوى, ولا شكّ أن الشريعة جاءت بحفظ الأموال والدماء, فلذلك مُخالفة هذا الأمر هو مُخالفة لمقصد من مقاصد الشريعة الأساسية. فهذا الحديث يدل على أنّ الأموال والدماء تبقى على حالها فإن ادُّعيَ شيء على خلاف الأصل فلا بد أن يأتي الـمُدّعي ببيّنة تنقل هذا الأمر عن أصله وإلا لما اكتُفيَ بمجرد الدعوى فإن ادّعى شخص بلا بينة فإنّ اليمين تتوجه على الـمُدّعى عليه، الـمُدعى عليه يحلف على أنّه لم يحصل هذا الشيء يعني يُنكر باليمين وإذا أنكر باليمين سقطت الدعوى وانتهت.
الوجه الثالث : الأحكام الشرعية المستفادة من هذا الحديث
في هذا الحديث كلف الرسول صلى الله عليه و سلم المدعي بالبينة، وهذا يعني أن المدعى عليه بريء حتى تثبت إدانته، و بيّن أن الأصل في وجوب البينة إنّما هو على المدعي، وهو دليل على أن المدعى عليه بريء حتى تثبت إدانته، و هذا هو الحكم الشرعي الأول المستفاد من هذا الحديث:” الأصل براءة الذمة” . وأمّا الحكم الثاني فهو :” عدم جواز التعذيب”. و دليله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أخذتُ له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن جلدتُ ظهراً فهذا ظهري فليقتص منه)، وقد قال ذلك وهو حاكم وهو يعني مَن عاقبته دون حق فليقتص مني، وهو دليل على تحريم أن يعاقِب الحاكم أحداً من الرعية من غير أن يثبت عليه ارتكاب ذنب يستحق عليه هذه العقوبة. وأيضاً ففي قصة الملاعنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنة لرجمتها)، وهذا يعني أنه لم يرجمها لعدم وجود بينة مع وجود شبهة فيها. بدليل ما ورد من حديث ابن عباس عن الذين لاعن الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما حيث جاء ما نصه: (فقال رجل لابن عباس في المجلس: أهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو رجمتُ أحداً بغير بينة رجمتُ هذه؟ فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تُظهر في الإسلام السوء)، أي كانت تعلن بالفاحشة ولكنه لم يثبت ذلك عليها ببينة ولا اعتراف. وهذا يعني أن شبهة الزنا كانت موجودة عليها ومع ذلك لم يرجمها الرسول صلى الله عليه و سلم و لم يعذبها، لأنه لم يثبت عليها فقال: (لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها)، و”لو” حرف امتناع لامتناع فامتنع الرجم لامتناع البينة، وهذا دليل على أن الحاكم لا يجوز له أن يوقِع عقوبة على أحد من الرعية إلاّ بعد أن يرتكب ذنباً نصّ الشرع على أنه مذنب، وبعد أن يثبت ارتكابه هذا الذنب أمام قاضٍ له صلاحية القضاء في مجلس قضاء، لأن البينة لا تعتبر بينة إلاّ إذا كانت أمام قاض له صلاحية القضاء وفي مجلس القضاء و هذا هو الحكم الشرعي الثالث المستفاد من هذا الحديث: “عدم ايقاع العقوبة إلاّ بحكم قاض”. إلاّ أن للحاكم أن يحبس المتهم بذنب قبل ثبوت التهمة ريثما يقدم للمحاكمة للبت في أمر التهمة، غير أن هذا الحبس لا بد أن يكون مدة محددة ولا يصح أن يحبسه من غير تحديد مدة، وأن تكون هذه المدة قصيرة، والدليل على جواز حبس المتهم ما روي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة ثم خلى عنه) وفي حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوماً وليلة)، والدليل على أنه لا بد من تحديد المدة في هذا الحبس أن الرسول حبسه ثم خلى عنه، وأنه حبسه يوماً وليلة، ثم إن هذا الحبس ليس عقوبة وإنما هو حبس استظهار لينكشف به بعض ما وراءه.
و قد وقعت صياغة هذه الأحكام الشرعية المستنبطة من هذا الحديث في المادة 12 من مشروع الدستور الذي يقترحه حزب التحرير على الأمة، و نصّه:
” المادة 12- الأصل براءة الذمة، ولا يعاقَب أحد إلاّ بحكم محكمة، ولا يجوز تعذيب أحد مطلقاً، وكل من يفعل ذلك يعاقَب.”
و تتضمن هذه المادة ثلاثة أمور، أحدها قاعدة الأصل براءة الذمة، والثاني عدم ايقاع العقوبة إلاّ بحكم قاض، والثالث عدم جواز التعذيب.