التجاذب الاوروبي الامريكي والحراك السياسي في تونس
في الوقت الذي يشتد فيه الاستقطاب الثنائي بين الجماهير المطالبة بسيادة الدولة على ثرواتها ومحاسبة الفاسدين, وبين الحكومة المصرة على بقاء الشركات الاستعمارية البترولية وعلى تمرير قانون حماية الفاسدين والمعروف بقانون “المصالحة الاقتصادية”, وبعد الانحياز الواضح لرئيس الدولة “الباجي قائد السبسي” لفائدة الشركات البترولية وتهديده بتسخير الجيش لحمايتها وإصراره على “قانون المصالحة” بحجة حاجة البلاد للنمو الاقتصادي, اُعلن الاسبوع الماضي عن صدور تقرير قاتم عن “مجموعة الازمات الدولية” حول استشراء الفساد في مفاصل الدولة, كما اُعلن عن إبلاغ الحكومة التونسية رفض صندوق النقد الدولي لمشروع “قانون المصالحة” وتهديدها بإجراءات عقابية ان تمت المصادقة عليه.
هذا التدخل الدولي السافر في الشأن الداخلي التونسي ليس بجديد, ولكن المثير هذه المرة أنه جاء بلهجة صارمة وقوية وعلى شكل أمر بشطب مشروع قانون عمل “الباجي قايد السبسي” في 10/05/2017 على تبريره, وكشف عن وضعية كارثية تمّ فيها تشبيه الحكومة والبرلمان بعصابات المافيا. وهذا الموقف يختلف عن موقف السفراء الاوروبيين الذين يشرفون على كل كبيرة وصغيرة بالحكومة والبرلمان والإدارة في تونس . فما هي طبيعة المواقف الدولية مما يجري في تونس.
الموقف الامريكي
باستعراض المواقف الدولية تجاه ما يحدث في تونس نجد ان ما صدر مؤخرا من انتقادات عنيفة صريحة و فاضحة كانت من مؤسسات معروفة باتباعها السياسة الامريكية. المؤسسة الاولى هي صندوق النقد الدولي وهو الذراع المالي للاقتصاد الرأسمالي الامريكي والذي ارسل مبعوثين الى كل من الحكومة والرئاسة لإعلامهم برفضه “قانون المصالحة” وتهديده بإيقاف مساهمة الصندوق في تمويل ميزانية الدولة اذا تمت المصادقة على هذا القانون, ومذكرا إياهم بما حصل مع “غينيا بيساو” سنة 2016 عندما لم تتبع تعليماته. والمؤسسة الثانية هي “مجموعة الازمات الدولية” وهي مؤسسة تقف خلفها المخابرات الامريكية ويمولها رجال أعمال أمريكيين الملياردير اليهودي والنمساوي الاصل “جورج سوروس” الذي كان وراء العديد من الثورات الملونة كتلك التي حدثت بأوكرانيا أوبلدان البلقان. التقرير الاخير ل”مجموعة الازمات الدولية” لم يكتف عن بالكشف عن حجم الفساد المستشري في البلاد بل أكد على أن مركز هذا الفساد موجود في البرلمان الذي اصبح رمزا “للزّبونية” و”السمسرة” لصالح رجال الاعمال الفاسدين ممّن تعتزم الحكومة تبييض فسادهم “بقانون المصالحة” والذين تولوا تمويل الحملات الانتخابية للحكام الموجودون بالسلطة حاليا.
الموقف الاوروبي
أما الموقف الاوروبي من “قانون المصالحة” فقد ظهر مبكرا منذ نشر النصوص التي صادق عليها البرلمان الاوروبي في 14 سبتمبر 2016 والتي هي عبارة عن بنود اُعدّت لتحكُم العلاقة بين تونس والاتحاد الاوروبي في الفترة القادمة, وقد وردت الاشارة ضمنيا الى أهمية “قانون المصالحة” في المادة عدد 16 حين ذُكر “ان النمو والمصالحة يجب أن لا يكونا متناقضين”. وهذه الحجة هي التي ارتكز عليها الخطاب الحكومي والإعلامي وأكده خطاب “الباجي قايد السبسي” في تبرير هذا القانون ألا وهي دفع النمو الاقتصادي.
الانتهازية الاستعمارية
وهكذا يتبين ان الاتحاد الاوروبي الماسك بمفاصل الحكومة والقرار السياسي في تونس هو من أعطى الضوء الأخضر لحماية رجال الاعمال الفاسدين من بطانة النظام السابق و تبييض فسادهم, ولكن ليس تقديرا لمساهمتهم في النمو الاقتصادي بل لأنه ثمن لخدماتهم في تمويل الثورة المضادة التي اوصلت وكلائها من “حزب نداء تونس “الى الحكم والذين تستأمنهم أوروبا على مصالحها من شركات بترولية وغيرها.
أما الموقف الامريكي الذي عبر عنه تقرير “مجموعة الازمات الدولية” فقد أصبح واضحا أنه يستغل الاحتجاجات الاجتماعية لمهاجمة الوسط السياسي بشكل عام والضغط على البرلمان والأحزاب الحاكمة ورجال الاعمال الذين مولوهم اوصلوهم الى الحكم. فالأمريكيون يدركون ولاء الوسط السياسي لذلك أمعن التقرير في فضحهم وتعريتهم ووصفهم بالزبونية والسمسرة وبرجال العصابات. ومن الجدير الاشارة أن هذا الموقف الامريكي ليس خاصا بحزب “نداء تونس” الحاكم الفعلي بل ان “حركة النهضة” معنية بهذا الفساد لدعمها لكل قرارات الحكومة ومنها قانون المصالحة وهو ما أشارت اليه صحيفة “الواشنطن بوست “في عددها ليوم 05 ماي 2017 .
رسالة الى العقلاء
وبما أن البلاد أصبحت ساحة للتجاذب الامريكي الأوروبي فإنه ينبغي تحذير العقلاء والمخلصين من أهل تونس من هذا السلوك الاستعماري ألانتهازي وعدم انتظار أي فائدة من هذا الصراع, فالأوربيون يسعون الى حماية عملائهم وتبييض فسادهم, والأمريكيون لا يترددون في الضغط عليهم وفضحهم امام شعوبهم والعالم, لا من أجل خير أهل تونس, بل من اجل موطئ قدم ونصيب لهم في خيراتها وحلول الشركات الامريكية مكان الاوروبية والتحكم في سياستها. فالتحرر الحقيقي لا يكون باستبدال عميل بآخر , أو بتحسين شروط نهب الثروات والاستعمار , بل في القطع مع جميع الروابط الاستعمارية السياسية والاقتصادية والحضارية, والاعتماد فقط على أبناء الامة المخلصين في بناء دولة ذات سيادة كاملة على أساس هوية الامة وعقيدتها الفكرية والسياسية.
محمد مقيديش