التجارة الخارجية في الإسلام
مصادر الاقتصاد الأساسية في أي بلد أربعة هي: الزراعة والصناعة والتجارة وجهد الإنسان. وبالرغم من أن زيادة الإنتاج غير متعلقة بوجهة النظر في الحياة إلا أن وجهة النظر لها أثر من حيث إنشاء المشاريع الاقتصادية وتوجيهها.
فالسياسة الزراعية في الإسلام مثلا، هي أن الأرض وجدت لتنتج وبأعلى مستوى، لذلك كانت الأحكام الشرعية المتعلقة بالأراضي قد جعلت من أسباب ملكية الأرض إحياؤها، ومن أسباب سقوط حق الملكية هو تعطيلها أكثر من ثلاث سنوات.
أما السياسة الصناعية في الإسلام فإن ”الصناعة تأخذ حكم ما تنتجه” و”المصنع يأخذ حكم ما يصنعه”، لذلك لم يكن تحديد القطاع العام والقطاع الخاص من اجتهاد الدولة والقائمين عليها، وإنما الشرع هو المحدد، فقد جعل الشرع المصانع التي تنتج ما هو من الملكية العامة كمصانع الحديد والصلب ومصانع استخراج الفسفاط وتثمينه ومصانع استخراج النفط وتكريره، جعلها مصانع تابعة للملكية العامة وتشرف عليها الدولة إشراف إدارة وتسيير.
أما ما تدره هذه المصانع من أموال فيقع توزيعها على الناس نقدا أو في شكل خدمات، كما يمكن صرفها فيما كان مصرفه واجب على الأمة، وهو ما يوفر للأمة مصدرا مهما يمكن استخدامه في المشاريع الصعبة كالتصنيع.
أما موضوع تصريف الإنتاج الذي تدره الزراعة والصناعة فهو موضوع آخر مبين في مصدر اقتصادي آخر هو التجارة.
والتجارة هي عمليات البيع والشراء، فهي مبادلة مال بمال، سواء أكانت تجارة داخلية أم كانت تجارة خارجية.
التجارة الداخلية في الإسلام
والتجارة الداخلية لا تحتاج إلى بحث أو بيان فتطبق عليها أحكام البيع التي جاء بها الشرع، ولا تحتاج إلى أية مباشرة من الدولة حتى ولا إشراف مباشر، وإنما تحتاج إلى إشراف عام في إلزام الناس بأحكام الإسلام في البيع والشراء ومعاقبة المخالفين لها كأي عملية من عمليات المعاملات كالإجارة والزواج وغير ذلك.
التجارة الخارجية
أما التجارة الخارجية فهي التي تحتاج إلى توضيح وبيان، لأن لها أحكاماً خاصة علاوة على أنها هي الأساس في كون التجارة مصدراً من مصادر الاقتصاد لأن زيادة ثروة البلاد من التجارة تأتي منها. وحين تبحث التجارة يجب أن يتبين الأساس الذي تبنى عليه: هل هو السلع التي تجري التجارة بها أو التاجر مالك السلع.
خطأ السياسة التجارية لتونس
لقد اتبعت تونس سياسة تجارية تقوم على أساس منشأ البضاعة لا على مالكها، أي على أساس جعل السلعة الأساس في المعاملة التجارية للتجارة الخارجية، و ليس على أساس تابعية التاجر، وهذا خطأ لسببين رئيسيين:
أحدها:
أنه يبيح لرعايا الدولة التجارة داخل البلاد ويحرمها عليهم خارجها إلا بإذن الدولة، لأنه حين دخول السلعة لحدود البلاد لا يسمح بدخولها إذا كان المنشأ الذي صدرت عنه تمنع البلاد دخول بضائعه، ولو كان التاجر من رعايا الدولة، ويسمح بدخولها إذا كان المنشأ الذي صدرت منه تسمح البلاد بدخول بضائعه، ولو كان التاجر من غير رعايا الدولة، وبهذا يحد من نشاط تجار البلاد ويحظر عليهم أن يتاجروا إلا مع بلاد معينة، وهذا ظلم فوق ما فيه من تأثير على ثروة الأمة من التجارة الخارجية. لأن ربح السلعة هو للتاجر، فإذا منع رعايا الدولة وسمح لغيرهم فقد ذهب الربح لغير البلاد.
ثانيها:
إن ضرائب الجمارك قد يدفعها رعايا الدولة ويعفى منها الأجانب، لأنه إذا اعتبرت البضاعة هي الأساس فإن ضرائب الجمارك توضع عليها بحسب منشأها وليس على التاجر، فيعفى الأوروبي من دفع ضرائب الجمارك بحسب اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995، في حين أن أهل البلاد يدفعون ضرائب للسلع التي يأتون بها من تركيا و الصين، لأن منشأ البضاعة من دول غير معفاة من الضرائب، وفي هذا خسارة للبلاد ووضع ضرائب زائدة على رعايا الدولة.
لذلك كان من الخطأ جعل البضاعة هي الأساس في التجارة، بل يجب أن يجعل التاجر هو الأساس في البحث التجاري وفي أحكام التجارة. لأن العملية التجارية لا يكون إلا بوجود تاجرين، سواء أكانت السلعة حاضرة أو غائبة، وسواء أكانت موجودة أم لا تزال لم توجد بعد. فالأصل في التجارة هو التاجر وليس السلعة.
السياسة التجارية في الإسلام
لقد جعل الإسلام الأساس في التجارة الخارجية التاجر وليس البضاعة، وجعل البضاعة تابعة له تأخذ حكمه.
أما جعل التاجر هو الأساس في التجارة الخارجية فلأن التجارة بيع وشراء، فتطبق عليها أحكام البيع. وأحكام البيع إنما هي أحكام لمالك المال وليست أحكاماً للمال المملوك، فالله تعالى يقول: ]وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ[ أي للناس، فهو حكم متعلق بالناس وليس بالمال، وقال صلى الله عليه و سلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» فالحكم للبائع والمشتري وليس للمال الذي جرى بيعه وشراؤه.
من هنا كانت أحكام التجارة الخارجية سائرة، باعتبار التاجر، بغض النظر عن البضاعة التي يتاجر بها.
وكان جعل السلعة هي الأساس والنظر إليها باعتبار المنشأ، بغض النظر عن التاجر، مخالف للحكم الشرعي ولنصوص الشرع، ولذلك كان غير جائز شرعاً.
أصناف التجار حسب تابعيتهم
وعلى هذا فإن الإسلام قد صنف التجار الذين يدخلون الدولة أو يخرجون منها ثلاثة أصناف: إما أشخاص من رعايا الدولة سواء أكانوا مسلمين أو ذميين، وإما أشخاص معاهدون، وإما أشخاص حربيون.
أما رعايا الدولة فيباح لهم التصدير والاستيراد إلا في حالتين، إحداهما: استيراد وتصدير السلعة التي يحصل من استيرادها أو تصديرها ضرر، فإنه يمنع استيراد وتصدير تلك السلعة فقط، عملاً بالقاعدة القائلة (كل فرد من أفراد الشيء المباح إذا تحقق فيه ضرر يمنع ذلك الفرد فقط ويبقى الشيء مباحاً) والحالة الثانية: الاستيراد والتصدير من البلاد التي نحن في حالة حرب فعلاً معها، فيمنع الاستيراد منها والتصدير إليها منعاً باتاً إذا كانت فيه أدنى تقوية لها أو أدنى إغاثة لأهلها أو تفريج لشيء من الضيق عنهم، ويكون حراماً يعذب فاعله من الله ويعاقب من الدولة.
أما المعاهدون فإنهم يعاملون في التجارة الخارجية حسب نصوص المعاهدة المعقودة معهم سواء أكان ذلك في البضاعة التي يخرجونها من بلادنا، أم في البضاعة التي يدخلونها لبلادنا لقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» ولأن المعاهدة عهد والوفاء به فرض: ]أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[.
وأما الحربيون الذين بيننا وبينهم حالة حرب قائمة فعلاً مثل إسرائيل، فإن التجارة معهم تمنع.
وأما من ليس بيننا و بينهم حرب فعلية، وليس بيننا وبينهم معاهدات، كاليابان مثلا، فإنهم لا يدخلون بلادنا إلا بإذن خاص بالدخول، وإعطاؤهم الأمان لأنفسهم يعتبر إعطاء للأمان لأموالهم، فلا يدخلون بضاعتهم لبلادنا إلا بإذن من الدولة.
هذا هو حكم التجارة الخارجية وهو أنها ممنوعة على الحربيين فعلاً ولا بد لها من إذن للحربيين حكماً، وتطبق فيها المعاهدات مع المعاهدين، ومباحة إباحة مطلقة لرعايا الدولة من مسلمين أو ذميين دون أي قيد أو شرط إلا في حالتين اثنتين فقط. وأما ضريبة الجمارك فإنه لا يؤخذ من أي شخص من رعايا الدولة أية ضريبة على أية بضاعة، لا البضاعة التي يدخلها ولا البضاعة التي يخرجها، لما روي عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «لا يدخل الجنة صاحب مكس» والمكس ضريبة الجمارك خاصة.
سياسة التجارة الخارجية: سياسة تجارية صناعية
لا شك أن تصريف الإنتاج هو من أهم الأمور التي تزيد ثروة البلاد، لذلك تعمل الدول على إيجاد أسواق خارجية لإنتاج البلاد. إلا أنه يجب أن يعلم أن إيجاد الأسواق لتصريف الإنتاج إنما هو هدف من الأهداف، وتوجد بجانبه أهداف أخرى هامة أيضاً وهي الحصول على العملة الصعبة اللازمة لنا لشراء ما يلزم للثورة الصناعية، والحصول على بضائع تلزم للثورة الصناعية وبناء على هذا تقوم سياسة إيجاد الأسواق الخارجية على أساس تجاري صناعي، وليس على أساس تجاري فقط.
فسياسة التجارة الخارجية هي سياسة تجارية صناعية سواء كان فيها الميزان التجاري لصالحنا أم لغير صالحنا.
إيجاد الأسواق الخارجية
وما دام الأمر كذلك أي أن إيجاد الأسواق يهدف منه إلى الحصول على العملة الصعبة والحصول على ما يلزم للثورة الصناعية إلى جانب تصريف إنتاج البلاد، فإنه يجب أن نختار البلدان التي نعقد معها الاتفاقيات التجارية فلا يسعى مع كل بلد خارجي لإيجاد أسواق فيها.
وأن يسعى دائماً للبلدان التي فيها تصريف بضاعة وفيها إمكانية الحصول على العملة الصعبة اللازمة لنا، أو إمكانية الحصول على ما يلزمنا للثورة الصناعية. فمثلاً يبحث عن بلد مثل ألمانيا وما شابهها من البلدان لأنه يوجد فيها تصريف بضاعة ويوجد فيها عملات صعبة لازمة لنا.
فالأورو يمكن الحصول به على بضاعة من أي بلد لقوته النقدية في العالم، ويوجد في ألمانيا إمكانية الحصول على ما يلزم لثروتنا الصناعية من مصانع الآلات وخبراء في الهندسة الثقيلة وعمال فنيين، ويوجد فيها إمكانية إرسال أبنائنا لتلقي التعليم اللازم لبلادنا من هندسة ثقيلة وغير ذلك. فمثل هذه البلاد ترسل لها الوفود، وتعقد معها الاتفاقيات التجارية، ويحصر الاتصال بها أو بالأكثر نفعاً لنا منها حتى لا يوزع في بلاد كثيرة فتضيع الفائدة المرجوة.
هذا هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه الاتفاقيات التجارية. وهو فتح الطريق أمام تجارنا في البلدان التي نجد فيها تصريف بضاعتنا والحصول على العملة الصعبة والحصول على ما يلزمنا للثورة الصناعية. وفتح الطريق أمام تجارنا هو الذي ينشط التجارة الخارجية وليس فتح الطريق أمام بضاعتنا، لأن النشاط التجاري إنما يقوم به التجار مالكوا البضاعة وليس البضاعة وحدها. ثم عقد اتفاقيات على أساس التجار لا على أساس منشأ البضاعة. وأن تكون للسماح للتجار والبضاعة بالتنقل بين البلدين. وبهذا يحصل عمل هام من أعمال تنمية الثروة.