التسريبات” دخان متصاعد من محرقة الفشل

التسريبات” دخان متصاعد من محرقة الفشل

لم يختلف جزئها الثاني عن الأول إلا من حيث الأشخاص وبعض العناوين والشعارات التي فرضتها مجريات الأحداث وطبيعة المرحلة أما من حيث المضمون فهو نفسه لم يطرأ عليه. الجزء الأول كان محوره “بورقيبة” الزعيم الأوحد والمجاهد الأكبر والمفكر الأبرز والملهم ومحتكر كل البطولات وصاحب الخوارق والمعجزات فهو من قضى على دابر الجهل وهو من أطرد الفقر من بلادنا وهو من سحق جحافل القمل ولولاه لما كانت تونس ولولاه لاندثرنا عن بكرة أبينا هذا ما كان يروج له المرجفون والمتمسحون على أعتاب المستعمر والمتيمون بثقافته وحضارته, وما كان لهم أن يرفعوا من شأن “بورقيبة” لو لم يشاقق الله ورسوله ويمعن في محاربة الإسلام وأحكامه قولا وفعلا. فكانت النتيجة تخلف على جميع الأصعدة ومعيشة ضنكا تستمر أوجاعها إلى يوم الناس هذا, وكانت جرائم “بورقية” تحت حماية دستور 1959 العنوان الأبرز بعد بورقيبة للجمهورية في جزئها الأول الذي تواصل مع “بن علي” صاحب ملحمة تحويل ما أسماها بمناطق الظل إلى نعيم مقيم وجنات تجري من تحتها ومن فوقها أنهار الازدهار والرفاه.

وبعد مرور ما يقارب ربع قرن اتضح أن “بن علي” كان ينافس “بورقيبة” في تفقير الناس وتجويعهم وتوطين الجهل والتخلف بين عموم أهل تونس ومصادرة جميع حقوقهم ومنعهم من مجرد التفكير، لكن في غفلة من “بن علي” وجميع حراس المعبد وكهنته تسرب شيء من الوعي إلى الأذهان وثار الناس وتمكنوا من طرد جلادهم وكنس زبانيته, وساد الاعتقاد بأن البلاد ودعت ظلمات العهدين السابقين, وقطعت مع سياسة “بورقيبة” و”بن علي” وفاتهم أن من سقط مجردُ أداة تنفيذ ليس إلا, وأن مكمن الداء هو النظام, وأن أحوالهم لن تتغير البتة مادام النظام الوضعي مازال جاثما على صدورهم وهذا ما فهمه كهنة المعبد فهرعوا جماعات وفرادا للذود عن معبد النظام الديمقراطي وحماية كل ما أنبثق عنه ودفعوا من ثار على “بن علي” إلى المطالبة بوضع دستور جديد يؤسس إلى مرحلة جديدة مختلفة عن سابقتها، وابتلع الغالبية الطعم ورابط الواهمون في ساحة القصبة مطالبين بمجلس تأسيسي, وكان لهم ما أرادوا.

وجاء “نوح فلدمان” على عجل وتمت صياغة الدستور الجديد على النحو الذي يخدم مصالح القوى الاستعمارية, وانطلقت إثرها هستيرية التطبيل للمفسدة الكبرى في جزئها الثاني تحت عنوان “الجمهورية الثانية”.

تعاقبت الحكومات, ومع قدوم كل حكومة يتجدد الأمل ثم سرعان ما يتبدد ويتلاشى, فالأوضاع تزداد تدهورا يوم بعد يوم, ولم تقدم أية حكومة ولو النزر القليل من تطلعات الناس، وبما أن زمن هيمنة الشخص الواحد والحزب الواحد ولّى وانتهى بمفعول الثورة انتهز المتسللون والزاحفون الوضع وأعلنوا النفير العام لاختطاف ما يمكن اختطافه من غنائم الحكم ونعم السلطة وأعلنوها حربا لا هوادة فيها من أجل الفوز بمكان في أحد القصور الثلاثة, قرطاج وباردو والقصبة, ومن ثمة التمتع بما تغدقه عليهم الكراسي من مكاسب, شخصية كانت أم حزبية مع اهمال كلي لشؤون الناس, مما زاد في تأزم الأوضاع, فجميع من قذفت بهم صناديق الاقتراع الخادعة إلى سدة الحكم لا يملكون فتيلا من الحنكة والكفاءة وحتى إن امتلكوها فنظامهم الوضعي التابع عقيم وقاحل لا ينتج غير الضيق والشقاء, وبناء عليه, تمحورت انجازات منتحلي صفة رجال الدولة -سواء كانوا في الحكم أو من يسمونهم معارضة- على الاقتتال, الكل يتهم الكل والكل  يشيطن الكل إلى إن جادت قريحة أحدهم بطريقة جديدة في ضرب الخصوم وتشويههم وتسببت في سيل عارم من الجدل وهذا ما يرغب فيه صناع الفشل وبشدة, فهم من جهة يحاولون خلق ألهيات تصرف الأنظار عن خيبة نظامهم الوضعي وخيبتهم بافتعال الأزمات واختلاق المعارك الجانبية, ومن جهة أخرى يشككون في مصداقية خصومهم بشتى والوسائل.

الطريقة الجديدة تلك هي التسريبات, وقد وبدأها نائب بمجلس الشعب, وكان أبرزها تلك التي كشف فيها تلقي الرئيس “قيس سعيد”، عندما كان مرشحا للانتخابات الرئاسية تمويلات من أطراف أمريكية, وكان هذا التسريب تتويجا للصراع القائم بين الرئيس “قيس سعيد” و”حركة النهضة” ونواب “ائتلاف الكرامة”. وبقطع النظر عن مدى صحة ما جاء في التسريب فانه يعكس طبيعة العلاقة بين الماسكين بدفة الحكم والذين يحملون مسؤولية إدارة شؤون البلاد, ويفضح مدى تكالبهم عن نيل الغنائم بشتى الطرق, وسواء تلقى “قيس سعيد” تمويلا من جهات أجنبية استعمارية أو لا فالحقيقة المرة لا يمكن إنكارها, فكل الجالسين على كراسي الحكم جيء بهم من أقبية أوكار التخابر والتآمر الاستعماري وما هم إلا دمى تحركها أصابع مسؤول كبير ما في دولة استعمارية ما.

أما التسريب الأخر الذي تتحدث فيه تلك الإعلامية عن اتصالها بسفير فرنسا وتعترف فيه أنها اتفقت معه على تعيين “هشام المشيشي” على أساس أنه “رجل القش” ويمكن التحكم فيه فهو أيضا يدخل في خانة نثر الألهيات هنا وهناك وتضرب طرف لمصلحة طرف آخر, فالأمر لا يحتاج لهكذا تسريب لنعلم تدخل مخابرات القوى الاستعمارية في شؤون البلاد, وأن جميع من في الحكم ومن يدور في فلكهم وما يسمى بالنخبة عملاء وأذيالا لتلك القوى..

ولم يتوقف زخم التسريبات عند هذا الحد وجاءت هذه المرة من وراء البحار وقالوا أن مصدر التسريب هو موقع “ميدل ايست أي” البريطاني, ويتعلق محتوى التسريب حول عزم “قيس سعيد” القيام بانقلاب والاستحواذ على جميع الصلاحيات والانفراد بالحكم معتمدا في ذلك على الفصل عدد 80 من الدستور, وبمجرد انتشار هذا الخبر أقاموا الدنيا ولم يقعدوها وتشكل كالعادة فريقان, فريق يفند وآخر يقر بصحة ما جاء في التسريب مستندا على موقف الرئيس الرافض لما يسمى بالنظام شبه البلماني.

شدّ وجذب, سخب ولغط, إشادة وتنديد.. يحصل هذا والبلاد ترزح تحت جبال من الأزمات عجزت الدولة عن حل ولو جزء بسيط منها بل أصرت وألحت على تعميقها بإتباع سياسة الهروب إلى الأمام بسلوكها نهج التسول والخنوع التام لصندوق النقد الدولي واغراق البلاد في مستنقع الارتهان للاستعمار وأذرعه. لقد نشروا محارق فشلهم في كل مكان  ودفنوا تحت عجزهم كل الآمال في الضفر بعيش كريم, حصل هذا منذ أن أسس “بورقيبة” جمهوريتهم الأولى, ويتواصل اليوم مع ما اعتبروها الجمهورية الثانية.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This