التطبيع السياسي مع الأعداء، أنبته ويحرسه التطبيع الفكري

التطبيع السياسي مع الأعداء، أنبته ويحرسه التطبيع الفكري

       كم من الزمن يحتاج الوسط السياسي في تونس لينهي معاركه الدونكشوتية حتى يفرغ للانشغال بالقضايا الحياتية للناس، وقد تربعوا على صدورهم، فكتموا أنفاسهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت؟ أو لعلهم استمرؤا واستطابوا الوضع لئلا تنكشف سوءاتهم وتتعرى حقيقة كونهم لا شان لهم بالسياسة ونبل رسالتها في خدمة الشعوب ورعاية مصالحها، فهم  لا يقومون حقيقة على أفكار سياسية حبلى بقضايا الناس، ولا يربط بين تلك القضايا و عقولهم ذاك الحبل السري الذي يمدها بأسباب الحياة.

    وكم من الزمن يحتاج الناس في بلادنا، حتى يدركوا بعد كل هذه السنين وبعد كل هذه الخيبات، وهم يشاهدون بالعين المجردة ضياع أحلامهم وتبخر آمالهم مع هؤلاء، أن لا رجاء مع هذا الوسط السياسي وأنه من الخيانة للذات أن يتواصل الرجاء فيهم؟ ومتى سيدركون أن سكوتهم عن هؤلاء الساسة، وهم يعلمون أنهم رضعوا من لبن العدو فكرا وممارسة، لبنا نغيلا. فلا خطة، لهم، رصينة تؤسس لغد واعد بالوصول إلى المنعة والخروج من التبعية، ولا فلسفة اقتصادية معتمدة تركز قاعدة يمكن البناء عليها، ولا سياسة تعليمية كفيلة بأن تظهر الشخصية التي يجب نحتها من ناشئتنا، ولا أكسبونا مكانا بين الأمم يعُدنا في خانة المنازلين على الحياة وقيادتها، بل هم قد أسلموا أخص خصائصنا لأعدائنا يقررون لنا بما يخدم مصالحهم، فنطيع بل لا نملك إلا أن نطيع.

      ظل الناس يشاهدون يومهم وغدهم، مصيرهم بين فكي كماشة سوء، “ساسة وأحزاب” من جهة، يُزدرى بالسياسة والأحزاب إن ألحقوا بها، و”منظرين ومفكرين” احترفوا التفكير عن الناس والتنظير لهم، ولم يخجلوا أن يتخذوا من فكر عدونا قاعدة فكرية يفرضونها على الناس ومن نمط حياته وطريقة عيشه منوال حياة لنا يؤصلون لها ويدعون إليها بيننا، بل ويعملون على فرضها علينا.

     فالأحزاب ورغم كثرة عددها، قلت بركتها، وتهاوت رؤوسها ولم يعد لها وزن بين الناس لم تخرج عن إحدى فئتين:

      ــ تدعي إحداها الدفاع عن صورةَ  لتونس سليلة الإيمان وصاحبة الرسالة، لا تمت إليها بأي صلة. صورة ألصقت بها وصفة ألحقت بها كذبا وزورا بعد أن تقحم الاستعمار ديارنا، ومن ثم استعبد رهطا منا أصبحوا ناطقين باسمه بعد أن اصطبغوا بصبغته وتشربوا ماءه الآسن حتى صدقوا كذبهم وصاروا يعدون أنفسهم الأصل والفصل فاتخذوا نهج الاستئصال، وصاروا يقيمون النكير على من يعمل و يسعى في الناس إيقاظا على حقائق الأمور، وإحياء لطريقة عيش لعقيدة تجذرت فيهم.

      ــ وتدعي الأخرى الثورية والطهورية-  وهي تتخبط في وحل فكر وثقافة المستعمر وتتعمد بدمه النجس، واتخذت من كل ذلك سلاحا وأداة لتغيير الواقع ودفع الاستبداد بمثالية ساذجة حين ظنت أن النواحي الإجرائية والمظاهر الشكلية في الفكر المستورد كفيلة بأن تضعها في مصاف الساسة والأحزاب الغربية المبدئية التي تؤمن بالديمقراطية وفصل الدين عن الحياة عقيدة ومنهاجا وهي في الحقيقة توغل في الاستسلام والخنوع أمام الأعداء وتتخذهم سادة وقادة، فلاهي حققت غاية ولا نال الناس منهم نوالا، ولا عدت في العير ولا في النفير.

      ــ وكذلك ظل الناس يشهدون تسلُط من نصبوا أنفسهم مفكرين عنهم ومنظرين لهم بطرحهم النظريات السياسية المضللة وتبشيرهم بها وتسخيرهم لأبواق الدعاية وعوامل تنفيذها، وهم أدرى الناس بأن ما يبثونه فيهم ليس من تفكيرهم هم ولا من نتاج عقولهم، وإنما هي سيرة المهزوم في تقليد غالبه، حتى إذا انكشف للناس زيفها وافتضحت نتائجها  ودب فيهم لغط الرفض لها، سارعوا إلى ما يقوله سادتهم، وما تؤول إليه أبحاث مراكز دراساتهم، فتبنوها وجهروا بمحاسن “الفكر الإنساني” ليفرضوها على قومهم وناسهم كمسلًمات.

     لاغرو أن نجد عراب الفلسفة السياسية لمرحلة ما بعد الثورة ومحدد معالمها، عياض بن عاشور، يصرخ اليوم محذرا من الخطر الذي يتهدد نمط الحياة العلماني الذي يسعى لتثبيته والذي عرته نتائج السياسة التي خطها هو، وحدد إطار تنفيذها بالدعوة الملحة إلى إنشاء حركة ثقافية وسياسية علمانية كبيرة بخيارات واضحة ومن دون تنازلات سياسية تتجاوز الإيديولوجيات الحزبية وتدافع عن مكاسب الاستقلال والإرث البورقيبي وذلك من أجل الدّفاع عن المجتمع التونسي والدّولة التونسية ضدّ غزو الأسلمة السياسيّة والدستوريّة.” فهل أن إنشاء “حركة ثقافية وسياسية علمانية كبيرة” هو ما يؤرق الراعي الأعظم أمام تشظي حملة هذا الفكر فكان، لابد من المسارعة بلملمة الأمر حتى لا ينكشف الحال، فأسندت المهمة إلى من يرعاها؟ وأما سقطة الدعوة إلى تجاوز الإيديولوجيات الحزبية التي أصبحت تلوكها الألسن، كدليل على صدق اللهجة وسلامة المنهج، فهي التي تعري ضعفهم وتكشف انبتاتهم. أليس ما يدعون إليه ويبشرون الغافلين به، هو إفراز لإيديولوجيا انكشف زيفها وبان عوارها، حتى صار “حكماء” أهلها يُسرًون ويُعلنون عن نهايتها ويجدًون في البحث عن بديلها، فأعمتهم شقوتهم وكبرهم عن الحق والحقيقة؟ أليس ما تمر به بلادنا اليوم من وجع وضنك يُسعى لمعالجته هو من مكاسب “الاستقلال والإرث البورقيبي” ؟

      فلا عجب أن نجد من لا يرى ضيرا في الحديث عن التطبيع السياسي مع الأعداء، إذا صرنا نجد من بني جلدتنا من يعُدُ الدعوة لاتخاذ العقيدة الإسلامية أساسا فكريا لفهم الوجود ومنهاجا للحياة، غزوا وأسلمة سياسيّة ودستوريّة. فقد أنبته ويحرسه سرطان ذاك التطبيع الفكري الذي تجاهر وتفخر به “نخبنا”.

أ,عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This