التعليم والتعلم وطلب العلم… من الجذور الأساسية في هذه البلاد. إذ كان إشعاعها في هذا المجال يطغى على العالم أجمع منذ القرن الأول الهجري. ومدينة القيروان ثم مدينة المهدية.. فمدينة تونس شاهدة على ازدهار هذا المجال, وفي جميع النواحي المعرفية والعلمية. وقد كانت مُخرجات التعليم ماثلة وظاهرة في مجموع العلماء والمؤلفات والمكتبات… حتى في العهود التي شهدت فيها البلاد نكبات.
يمكن الحديث عن الإنهيار العلمي التام في عهد الاستعمار, ولو بقيت الجامعة الزيتونية تمثل منارة, لكنها في أفول. وقد قامت محاولات لإصلاحها وتنظيمها وأرشفة علومها لكن وقع قبر هذا المجهود الجبار من قبل دولة الاستقلال.
في العهد الاستعماري بدأ فعلا إدخال الأهالي في مسرب العلمنة وبخبث كبير. فقد صرح جول فيري وزير المستعمرات الفرنسية في نهاية القرن 19 انه من اللازم على الأجناس الراقية تمدين الأجناس الدنيا وهو يشير الى العقبات التي تعرضت إليها فرنسا في إدماج الأهالي في ثقافتها وعدم قبول المسلمين لفكرة الاستعمار .
من هنا تكونت إدارة التعليم العمومي في 6 ماي 1883 وكان على ادارتها المستعرب لوي ماشويل الذي يعتبر أول من ركز أسس المدرسة الفرنسية العربية بوضع القوانين والترتيبات والمناهج . وقد ركزت هذه المدرسة على إعطاء أولوية إلى تعليم ابتدائي إلى الأهالي يرتكز على التعليم الفني والصناعي وتحضير الأهالي الى ان يكونوا يد عاملة فلاحية وصناعية لا تتعب المعمر الفرنسي. وقد ساهمت هذه المدرسة في ترسيخ اللغة الفرنسية أكثر فأكثر في المدن والأرياف وفي المدارس الخاصة بالجاليات وباليهود. وقد استطاع مدير التعليم “سيباستيان شارليتي” تركيز هذا التوجه بتعميم التعليم وجعله مجاني. ومن الملاحظ ان خبث سلطة الحماية بدا واضحا من جعل هذه الإنجازات تظهر من كلام التونسيين انفسهم خاصة من حركة الشباب التونسي التي كان جهدها منصب على جعل السلط الاستعمارية تطبق ما جاء في معاهدة الحماية بالرفع من مستوى التونسيين ومساواتهم في التعليم الفرنسي. وقد كان المعمرون رافضين لفكرة الاختلاط خوفا على أبناءهم.
بالرجوع الى مداولات مؤتمر شمال افريقيا 1908 “عن التعليم الابتدائي للأهالي” وقد مثل لقاء المعمرين بالمقيم العام الفرنسي بمثلين تونسيين مثل محمد الصارم ومصطفى خير الله وعبد العزيز الزاوش (يمثلون الشق المتحمس لادماج الأهالي في التعليم الفرنسي) ما يثير في هذا المؤتمر مداخلة المُعمّر الفرنسي “دي كارنيار” وهو ممثل عن المعمرين حيث كانت آراءه تنصب على رفض الاندماج إلا بشروط وكانت هذه الشروط هي لبنة التعليم التونسي حيث قال بالحرف:
“ماذا علينا أن نفعل؟ سأعرض عليكم نظاما تربويّا ابتدائيّا لفائدة الأهالي. علينا أن ننطلق من المبدإ القاضي بأنّ المجتمع الأهليّ قائم كلّه على القرآن. هل تريدون إلغاء القرآن بالقوّة؟ هل تريدون تجريد الأهالي من ديانتهم؟ لا أظنّ ذلك، أوّلا، لأنّكم لا تقدرون على ذلك، ثمّ لأنّكم لوْ فعلتم ذلك سيكون الاعتداءَ الأشدّ قسوةً على الضّمير البشريّ: فالمجتمع المدنيّ، لدى المسلمين، قائم على القرآن. وبما أنّنا لا نستطيع حذف القرآن، فعلينا أن نستعمله، وأنْ ندرّسه في ظروف تزيلُ الاحتراسات العقائديّة والكراهية بين الأديان. إنّ على الحكومة أن تضطلع بهذا الأمر: عليها أن تعدّ أساتذة أهليّين يدركون، بعد تخرّجهم من مدرسة ترشيح متخصّصة، أنّ القرآن يتضمّن، إلى جانب الآيات الدّاعية إلى الكراهية، عقيدةً كاملة للإحسان ولمحبّة النّاس بعضهم لبعض. يمكن أن نصل إلى إلغاء قسم الكراهية، وأن نعوّضه بتعليم قائم على التسامح، ما من شأنه أن يحدث أثرا طيّبا، ولعله سيسمح بالتقارب بين الجنسين في البلد الذي استقررْنا به.أدعو، إذنْ، إلى أن تكون المدرسة الابتدائيّة قرآنيّة، لكنّها ليست الكتّابَ… وإنْ كان أفضل. إنّها مدرسة تجنح إلى تفسير القرآن تفسيرا ليبراليّا، وتعلّم الأهالي أنّه بإمكانهم أن يحبّوا “الرَّوَامى”، وتدرّسهم المبادئ الأساسيّة للغة الفرنسيّة. ينبغي أن يقوم التدريسُ على العربيّة، وأن يتضمّن مفاهيمَ العلوم وخاصّة الفلاحة، لأنّ البلاد التّونسيّة بلد زراعيّ.
تشكل التعليم الفرنكوعربي شيئا فشيئا إلى فترة الأربعينات حيث ظهر ما يسمى بإصلاحات ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث كان هناك سعي إلى مزيد تشريك التونسيين في التعليم المختلط لتوفير إطارات تكون في موقع حساس بالبلاد وتكون الوسيطة بين الفرنسي والتونسي وتمثل البلاد في المجالس البلدية والمجلس الكبير.
اذا كان للمدرسة الفرنسية العربية هدفين رئيسيين تمثلا خاصة في توفير يد عاملة تتقن ما يريده صاحب المال الفرنسي وإطارات تكون الحلقة الوسط بين الفرنسيين كسلطة استعمار والأهالي.
ماذا حصل بعد ما يسمى بفترة ما بعد الاستقلال ؟ هل وضعت سياسة تعليمية تستجيب لتطلعات الناس والى ما يريدونه لأبنائهم ؟ هل وضعت الشخصية المزمع بناءها ؟
ما حدث انه منذ 1958 أي بعد سنة من الاستقلال بدا قانون التعليم في العمل متمثلا في تطبيق فعلي ل 69 ورقة خطها آخر مدير تعليم فرنسي جون دوبياس والتي انطلق منها أول وزير تربية محمود المسعدي المتخرج من السوربون وتكوين جامعة تونس الأولى والثانية بعمداء من فرنسا.
إصلاح دوبياس هو أساسا نسخة منقحة من إصلاحات لوي ماشويل استجاب لطلبات المعمرين في بعث تعليم مختلط وقد استند أيضا إلى مقترحات الاتحاد العام التونسي للشغل التي قدمها سنة 1948. وهي ترتكز بالأساس إلى هدفين أساسيين . تكوين الإطارات التونسية التي ستحل محل الإطارات الفرنسية وتكوين يد عاملة تستجيب لمتطلبات سوق الشغل. هذه هي الشخصية التي كان المراد تكوينها. شخصية بملامح تونسية وعقل فرنسي متمكن من الثقافة الفرنسية ومبادئ الحريات والمواطنة والديمقراطية …يعني إلباس المسلم ثقافة أخرى مع ثقافته ليكون مغتربا مع نفسه لا يعرف كينونته ولا نفسه ويكون متماهيا مع الغرب يشعر بضعفه وحاجته إليه.
وقد نجح هذا التعليم في تكوين الشخصية التونسية المهترئة والضعيفة في تفكيرها والقوية في أن تكون آلة إنتاج لسوق الشغل. وقد منذ الثمانينات التحضير لإصلاح جديد ظهر للعيان منذ 1992 وهو ما يسمى بإصلاح محمد الشرفي حيث دأب على الإشراف عليه ثلة من السربونيين التونسيين الذين جعلوا الأهداف التربوية تنحصر في هدف واحد وهو ان تواكب المدرسة التونسية متطلبات سوق الشغل العالمية .
من هنا يمكن البحث في أن هناك أزمة فعلا أم لا ؟
بالنسبة لواضع الأهداف التربوية هناك نجاح منقطع النظير. وقد العملية بالتدرج من حيث وضع الشخصية المزمع تكوينها منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى الآن. فتكونت الشخصية المضطربة التي ليس لها جذور تتبنى الأفكار المستوردة ولا تعرفها وليست لها أي تعريف لها, مجرد مفاهيم غربية تفصل الحياة عن الدين تلبست بلباس إسلامي او مما بقي من العرف الموجود. شخصية فارغة عرضة للامتلاء من كل الأفكار وعرضة للاستقطاب العاطفي الغريزي.
لكن في المقابل هي أزمة من خلال ما يريده الناس من أبناءهم .فنظرة الاشمئزاز والتقزز والنفور من الشباب وأفكارهم وتحررهم وتقليعاتهم وسلوكهم وطريقة تواصلهم وانحلالهم, تشير إلى عدم معرفة الناس لخطورة التعليم في تكوين ما يريده المجتمع من تواصل أفكارهم ومشاعرهم ومقاييس أعمالهم في المستقبل. وهذا أخطر ما لعب بشأنه الكافر المستعمر وأتباعه من المضبوعين بثقافته. بالمناسبة تكمل الجمعيات والمنظمات الممولة من الخارج في تكوين الناشئة كما يريده المستعمر: مثال للعقل الفارغ القادر على الامتثال للأوامر مثل الآلة يعرف كل شيء ولا يعرف شيئا.
وما يقال عن أهمية المرحلة الأولى من إصلاح التعليم في تكوين نخبة مثقفة ,ما هو إلا خداع كبير فهذه النخبة هي التي عوضت المستعمر وأصبحت أحسن منه وأجرأ في محاربة الإسلام والتجرئ عليه وهي التي واصلت ما يريده الكافر من نشر لأفكاره الكفرية وأصبحت أدوات في يده كالعبيد الذين لا يرون إلا ما يراه السيد.
ما هي سياسة التعليم في الأصل ؟
هي أساسا المنطلقة من فكرة مبدئية يُراد زرعها في الناشئة وما تحمله من أفكار ومشاعر ومقاييس .يعني التعليم في الأساس يكون نمط العيش المنطلق من فكرة كلية مبدئية. ويكون المجتمع واعيا بمخرجاتها من خلال ما يتخرج من التعليم من متخرجين يحملون الأفكار ويثروها ويدافعون عليها بطريقة تجعل تواصلا بين القديم والجديد. فالإسلام منذ ظهور الدولة التي حملت لواؤه وضع أسسا للتعليم منطلقا من العقيدة الإسلامية ومن اللغة العربية حاملة الفكر. واستطاع هذا التعليم ان يُشع طيلة الألف سنة بعلماء وفقهاء وقضاة, تركوا إرثا ما زال أغلبه لم يكشف بعد, نظرا للتخريبات التي حصلت للمكتبات الإسلامية من قبل الصليبيين والمغول… وما أخفاه الغرب الكافر من مجلدات ومخطوطات هرب بها أثناء الفتن والحروب إلى أوروبا فأخفى الكثير منها وأظهر البعض.
إذن هناك أزمة من خلال النظر إلى ما يريده الناس من عزة مفقودة ونظرة إلى ما كانت عليه هذه البلاد من نخوة وعلم ونشر أفكار كانت رحمة للعالم. لكن من خلال النظر إلى ما يريده الكافر المستعمر وأتباعه, هو نجاح باهر في تكوين الشخصيات العبودية له. شخصيات منفصلة من حيث الفكر والشعور. إن لم نقل انه نجح في تكوين اليد العاملة المختصة او غيرها كما يريد. فالمدرسة التونسية أصلا تكونت لتندمج في النظام الرأسمالي والذي جعل منها مجالا خصبا لوسائل الإنتاج الرخيصة والمطيعة والطيعة. وما زال الكافر المستعمر يسعى إلى تجديد إصلاح على مقاسه بتوفير المنظمات التي تعمل في الخفاء على تنظيم المدرسة التونسية قانونيا و إداريا ووسائل وأدوات تستجيب لرغباته في النهب من خلال تشجيع الخوصصة والشراكة مع القطاع الخاص.
لكن ما يسمى الآن بأزمة التعليم بين القطاع النقابي والحكومي هي أصلا ليست لها علاقة بالتعليم والمناهج, رغم انها تحيط ببعض ملحقات التعليم الخاصة برجال التعليم والبنية الأساسية. وهي مجالات مرتبطة بالإجارة وبالإنفاق التي تقوم بها الدولة في مجال خدمة التعليم .يعني مجال الأزمة مرتبط بنفقات الدولة في ظل النظام الليبرالي الرأسمالي.