التغيير الشامل ومعركة استكمال الثورة
ونحن نعيش ذكرى انطلاق الثورة في أسبوعها الثاني تتواصل المؤشرات السياسية الدافعة إلى ضرورة التحرك الجدي لاستكمال العمل التاريخي الذي بدأه شباب تونس منذ سبع سنوات.
الإنهيار المتواصل
فبعد عناد الحكومة وإنكارها لحقيقة تصنيف الاتحاد الأوروبي لتونس ضمن القائمة السوداء “للجنّاة الضريبية”, والتذرع بالاخلالات الإدارية بكونها السبب الرئيسي وراء عدم وصول رد الحكومة على مراسلة الاتحاد الأوروبي , جاءتها الصفعة الموالية من المجموعة المالية” GAFI ” والتي أكّد فيها خبراء ” البنك الدولي” على وجود إخلالات إستراتيجية في القوانين التونسية المتعلقة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
هذه الحالة الكارثية التي عليها الاقتصاد التونسي وتسارع الانهيارات كانت اكبر من قدرة الحكومة على إخفائها, فقد أعلن “الاتحاد البنكي للصناعة والتجارةUBCI ” الأسبوع الماضي عن اعتزامه إغلاق 20 فرعا بنكيا وتسريح 200 موظف دفعة واحدة. كل هذه المؤشرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تؤكد أن تونس والبلاد الإسلامية بحاجة إلى تغيير حقيقي, لإنقاذها من حالة التفكك المتواصل والسقوط التدريجي الدولة القائمة, لكن هذا التغيير المنشود ليس من النوع الجزئي الذي يحافظ على البنية الهيكلية النظام القديم بل هو التغيير الكلي والشامل الذي يحصل في الفترات التاريخية الفاصلة.
التغيير الجذري والشامل
فالأوضاع في تونس وسائر البلاد الإسلامية قد وصلت إلى مرحلة من الفساد المستشري والأزمات المتواصلة والحلول الغائبة والمشكلات المتراكمة والانهيارات المتسارعة, ما يجعل الإكتفاء بتغيير رأس النظام دون المس من أسس النظام والدولة العميقة غير ذي جدوى, وما شهدته تونس خلال السبع سنوات الماضية خير مثال على ذلك.
إن التغيير الجذري الشامل هو هدف الجادين المخلصين لامتهم وهو عنوان الثورات التي تحدث أثرا في التاريخ وتحرر الشعوب من قبضة الاستعمار المباشر وغير المباشر, وهو غاية المفكرين الذين لا يُرضيهم تحسين شروط العبودية من إصلاحات شكلية واقتسام غنائم ومشاركة في الحكم, كما هو حاصل مع الأحزاب المشاركة في “حكومة الوحدة الوطنية”.
الوعي المُؤسّس للثورة
إن التغيير الجذري والشامل لا يتأتّى إلا بإيجاد الوعي المُؤسّس للثورة, والذي لا يكتفي بادراك مدى الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي والتشريعي بل يتجاوزه إلى إدراك حقيقة التبعية السياسية والحضارية لحكام تونس والبلاد الإسلامية للغرب الاستعماري, وإدراك أن العلاقة التي تربط تونس بالغرب الأوروبي والأمريكي ليست علاقة تجارية عادية بل علاقة تبعية سياسية وحضارية تصل إلى درجة الاحتلال الغير مباشر. وأن التغيير الجذري والتحرر الحقيقي لن يحصل إلا بقطع هذه الروابط الاستعمارية وتحقيق الاستقلال السياسي المقترن بالاستقلال الحضاري, أي بإيجاد دولة ذات سيادة قائمة على أساس هوية الأمة وحضارتها الإسلامية, ويختار فيها الناس عن رضى من يحكمهم بشريعة الإسلام.
معركة إسقاط النظام معركة هوية
ان الوعي المؤسّس للثورة واللازم لإحداث التغيير الجذري لا بد أن يتوفر فيه إدراك الجماهير لهوية النظام المنشود ووظيفته الأساسية وعلاقته بالمجتمع حتى لا تُختطف الثورة مرة أخرى كما حصل مع الموجة الأولى. كما لا يصح أن تكون عناوين الثورة مجرد شعارات إنسانية عامة تشترك فيها كل الشعوب والأطياف السياسية, فالحرية والعدالة والكرامة كلها شعارات إنسانية لا تصلح لان تكون عناوين ثورة, لأنها وان كانت مطالب مشتركة فان تفسيراتها وتطبيقاتها تختلف حسب الانتماء العقائدي والحضاري سواء كان إسلاميا أو علمانيا.
فلابد أن تكون مواصفات النظام المنشود واضحة وجلية وان تكون عملية إسقاط النظام التي يطالب بها الناس شاملة لإسقاط الهوية العلمانية للنظام القديم وإسقاط للتبعية السياسية والحضارية للمستعمر الأوروبي والأمريكي, وان أي استبعاد لطرح موضوع تغيير هوية الدولة ووظيفتها و علاقتها بالمجتمع هو مؤامرة على الثورة, كالتي حصلت مع “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة” بعد هروب “بن علي”, وهي محاولة مكشوفة للحفاظ على النظام العلماني القديم وإجهاض للثورة.
فالثورة تواجه نظاما فاسدا تابعا للغرب ومعاد لهوية الأمة الإسلامية, وان اكتمال الوعي الضروري للثورة لا يتم إلا بإدراك أهمية التحرر والاستقلال الكامل سياسيا وحضاريا, فهذه هي عناوين الثورات الكبرى.
هذا هو الوعي الذي ينتج حراكا شعبيا فاعلا , ويحقق مصالح الناس , ولا ينتج الفوضى ولا يسمح باختطاف الثورة, ولأجل ذلك لا بد أن تعرف الجماهير لمن تسلّم قيادتها, وأن تدرك الأساس الفكري والحضاري لكل من يتصدر المشهد السياسي, وان تتبين مدى صدقه وأمانته والى أي وجهة يعتزم السير بها بعد إسقاط النظام. فالأمة الإسلامية فُجعت في الكثير من القيادات و التنظيمات مما أشكل عليها الكثير من أزماتها وأضاع جهودها, ولكنها ستضل تتعلم من تجاربها حتى تصل إلى القيادة الرشيدة والتغيير المنشود.