هل قُدّر لإفريقيا أن تكون قارّةً منهوبة بمثابة منجم العالم وخزّان محروقاته وسلّة خضرواته, ومحلّ مجوهراته ومنتجع باروناته ومصبّ نفاياته, وسوق للتالف والفائض من منتوجاته..؟؟ وهل قُدّر على الأفارقة أن يشغلوا آخر درجة في سلّم الفقر والبؤس والتخلّف وهم يجلسون على أضخم وأثمن ثروات العالم..؟؟ أيُعقل أن ترتدّ خيراتهم وبالاً عليهم وتحوّلهم إلى وقود احتراب للدّول الاستعماريّة مصداقًا لقول الشاعر (كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول)..؟؟
فعلى الرّغم من الفقر والمجاعات التي يعاني منها غالبيّة سكّان القارّة السمراء إلاّ أنّ الثروات التي حباها الله بها تجعلها الأغنى بين قارّات العالم وتحوّلها ـ في مفارقة ـ إلى قبلة المستعمرين وتضعها بشكل دائم تحت وصاية الاستعمار الغربي..فقد تعرّضت منذ مطلع القرن (17) لعمليّات نهب ممنهجة خاصّةً من طرف بريطانيا وفرنسا اللّتين اقتسمتا القارّة فيما بينهما، ثم تحوّل مشعل النّهب إلى الشركات الرّأسمالية العملاقة لاستكمال (رسالة الرّجل الأبيض الحضارية في القارّة).. ومنذ مطلع القرن (21) دخل التكالب الاستعماري على إفريقيا سرعته القصوى غارقًا في بحر من الدّماء مسجّلاً ظهور متنافسين جدد ومعتمدًا آليّاتٍ وأساليب استعماريّة جديدة ممّا قد يحوّل القارّة إلى برميل بارود على وشك الانفجار..
إمكانات مهولة
تعدّ إفريقيا ثاني أكبر قارّات العالم بعد آسيا من حيث المساحة وعدد السكّان، إذ تفوق مساحتها 30 مليون كلم² بحيث تغطّي 6% من إجمالي مساحة اليابسة، أمّا عدد سكّانها فيتجاوز 1.3 مليار نسمة ما يعادل 15% من سكّان المعمورة.. ويقسم خطّ الاستواء القارّة إلى نصفين ما يجعلها تشتمل على مناطق مناخيّة متعدّدة متباينة، فهي القارّة الوحيدة التي تمتدّ من الشمال المعتدل إلى الجنوب المعتدل بتضاريسها المختلفة (جبال ـ سهول ـ صحارى..).
هذا الامتداد الجغرافي والتنوّع المناخي والثراء الطّبيعي والرّصيد السكّاني جعل من القارّة السمراء تسبح فوق بحر من الثروات الطاقيّة والمنجميّة والفلاحيّة والسياحية يبوّئها مرتبة خزّان العالم.. فهي تضمّ تحت أرضها نحو 124 مليار برميل من النفط ما يعادل 12% من إجمالي الاحتياطي العالمي هذا بالإضافة إلى 100 مليار برميل أخرى في مياهها الإقليميّة.. وهي تنتج 6.5% من إجمالي الغاز الطّبيعي حول العالم وتمتلك نحو 500 تريليون متر مكعّب ما يعادل 10% من إجمالي احتياطي الغاز العالمي.. وتحظى إفريقيا بثلث احتياطي العالم من اليورانيوم الأساسي في الصناعات النوويّة وتساهم سنويًّا بأكثر من 20% من إجمالي الإنتاج العالمي منه..وللقارّة السمراء نصيب كبير من المعادن النّفيسة، إذ تمتلك نصف احتياطي العالم من الذّهب وقد أنتجت سنة 2011 وحدها 505 أطنان ما يعادل ربع إجمالي الإنتاج العالمي..كما تتصدّر سوق الألماس الدّولية حيث تقوم لوحدها بإنتاج 40% من إجمالي الألماس في العالم..وتنتج القارّة 80% من إجمالي البلاتين في العالم و27% من الكوبالت و9% من الحديد، ويُعتقد أنّها تمتلك احتياطات تقدّر بحوالي 90% للكوبالت والبلاتين والكروم و30% للمنغنيز والفسفاط.. كما تتميّز إفريقيا بالإنتاج المكثّف للأخشاب ذات الجودة العالية ويعدّ ساحلها الغربي أحد أهمّ مناطق صيد الأسماك في العالم حيث ينتج لوحده ما يفوق 6 ملايين طن سنويًّا..هذا دون أن ننسى السوق التجاريّة الواعدة والإمكانات السياحيّة وفرص الاستثمار واليد العاملة الرّخيصة والطاقات المتجدّدة (الطاقة الشمسيّة ـ الرياح ـ المياه..) لتكتمل صورة القارّة البكر مطمور العالم..
الجشع الرّأسمالي
هذه الإمكانات المهولة والثروات الضخمة فتحت شهية المستعمرين منذ القرن 17م لنهبها ولم يدخل القرن 19م إلاّ والقارّة برمّتها مقسّمة بين القوّتين العظميين آنذاك: بريطانيا (الشرق والجنوب) وفرنسا (الشمال والغرب) وقد كشّر الكافر المستعمر عن أنيابه واستنزف ما في المبدأ الرّأسمالي من مكيافليّة وبراقماتيّة مسفرًا عن كمٍّ هائل من البرود والتخشّب والجشع يلامس حدود الحيوانيّة بحيث أنّ ثروات إفريقيا تُنهب ملوّثةً بدماء أصحابها الأفارقة أنفسهم من أجل الحفاظ على مستوى عيش الغربيّين..فمع ولوج الولايات المتّحدة حلبة الاستعمار في إفريقيا ارتفع منسوب التوتّر بينها وبين رائدتي الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) لاسيّما في شمال إفريقيا وغربها جنوب الصحراء، وكثرت الانقلابات العسكريّة والحروب الأهليّة والمذابح وانتقلت العمالات والذمم الأستيكيّة من حضن إلى آخر وعملت الشركات العملاقة على الفوز بالثروات الإفريقيّة واستنزافها باعتماد كلّ الوسائل المتاحة: من شراء الذّمم ورشوة المسؤولين والحكّام إلى افتعال الحروب الأهليّة والصّراعات العرقيّة والدّينية وصولاً إلى الانقلابات والاغتيالات..
فلا تكاد تنطفئ حرب حتى تشتعل أخرى أشدّ منها وغالبًا ما يكون مسرحها هو المناطق الغنيّة بالثروات الطبيعيّة، بحيث أن تلك الثروات أصبحت لعنة على القارّة وأصحابها ورهينة بين يدي عصابات إجراميّة تنتهج صنع الأزمات وافتعال النزاعات وتفرض حياة مريرة على شعوب القارّة من أجل سلبها مواردها.. فقد سخّرت النّخبة الفاسدة المرتهنة كنوز القارّة لخدمة القمع ووأد تطلّعات الشعوب وترويضها وتدجينها في تواطؤ مفضوح مع القوى الاستعماريّة والشركات العملاقة وكبار رجال الأعمال..فالعديد من الحروب الأهليّة بغرب إفريقيا تمّ تمويلها باستخدام (ألماس الدمّ) أو (الذهب الأحمر)، بحيث أنّ الثروات إمّا أن تُنهب أو أن تُستعمل في سفك دماء الأفارقة ودونك ما أقدمت عليه فرنسا في رواندا (مليون قتيل من التوتسي) وما تقوم به الآن ضد المسلمين في إفريقيا الوسطى.. وفيما يزداد غنى المجموعة الصغيرة من النّخب العسكرية والمدنيّة العميلة فإنّ غالبية الشعوب الإفريقيّة ترزح تحت خط الفقر والتخلّف حيث تموت في النيجر 100 إمرأة أثناء الولادة بينما يغذّي يورانيوم النيجر جميع المفاعلات النّوويّة الفرنسيّة..
(الخطّاب عالباب)
منذ مطلع القرن الحالي اتّسعت دائرة خطّاب ودّ الثروات الإفريقيّة لتتجاوز القوى الاستعماريّة التقليديّة (بريطانيا ـ أمريكا ـ فرنسا) وتسجّل حضور قوى اقتصاديّة إقليميّة أخرى على غرار روسيا واليابان والصين معتمدة أساليب أكثر سلميّة لتحقيق نفس الأهداف الدّموية (التّعاون ـ التنمية ـ الاستثمار ـ التجارة ـ المساعدات ـ الاتّفاقات ـ المراكز الثقافية..) لتجد لها موطئًا حول المائدة الإفريقيّة وتتمكّن من مزاحمة الكبار عليها: فالدّب الرّوسي عاد ليتحسّس طريقه نحو استرجاع مكانته ونفوذه في القارة السمراء متّخذًا من تجارة السلاح والاستثمار والثقافة مداخل لذلك.. فبتاريخ أكتوبر 2019 استضافت روسيا في منتجع سوتشي أوّل قمّة روسيّة إفريقيّة ومنتدى اقتصادي جمع زعماء 50 دولة إفريقيّة بممثّلي النّخب السياسيّة و التّجارية الرّوسية وشهد إبرام العديد من المشاريع الاستثماريّة مع تعهّد الدّول الإفريقية بتوفير مناخ استثماري ملائم.. هذا وقد وقع تدعيم مكانة روسيا كرائدة التّسليح لدول إفريقيا جنوب الصّحراء وإبرام سلسلة من الاتّفاقات التّجارية المشتركة معها.. كما وقّعت وزارة التعليم الرّوسية اتّفاقات في مجال التّعليم والثقافة مع 13 دولة إفريقيّة بينما يتلقّى حوالي 17 ألف طالب إفريقي تعليمهم في روسيا..هذا دون أن ننسى المغامرة الرّوسية الدّموية في ليبيا من أجل عيون الثّروات النّفطيّة ولو من فتات المائدة الأمريكيّة.. أمّا فيما يتعلّق باليابان فقد خيّرت العمل تحت مظلّة الأمم المتّحدة وأخذت من مؤتمر طوكيو الدّولي للتنمية الإفريقيّة (تيكاد) مدخلاً لها للوليمة الإفريقيّة، وهو عبارة عن مبادرة حكوميّة حول التّنمية في إفريقيا وقد انطلق منذ سنة 1993 ويضمّ إلى جانب اليابان مفوّضيّة الاتّحاد الإفريقي ومكتب المستشار الخاص لشؤون إفريقيا التّابع للأمم المتّحدة وبرنامج الأمم المتّحدة للتنمية والبنك الدّولي..ويهدف المؤتمر ظاهريًّا إلى (تنمية إفريقيا من خلال عقد شراكة مع المجتمع الدّولي لتحقيق النّهوض والتّنمية في القارّة وتعزيز الحوار السياسي رفيع المستوى بين إفريقيا وشركائها وحشد الدّعم لصالح مبادرات التنمية الإفريقية وتحسين بيئة الأعمال والمؤسّسات من خلال إشراك القطاع الخاصّ وتحقيق الأمن والسلام والاستقرار..) وما إلى ذلك من المصروف اللّغوي لتلطيف النّهب والاستحواذ على مقدّرات الشعوب الإفريقيّة..ولم ينس المؤتمر أن يقدّم بعض المساعدات التّنمويّة لإفريقيا لتسهيل ابتلاع الطّعم..
طريق الحرير
غير أنّ خطّاب ودّ إفريقيا يتعيّن عليهم منافسة الولايات المتّحدة والصّين: فحجم تجارة إفريقيا مع الولايات المتّحدة يقدّر بحوالي 61 مليار دولار أي ثلاثة أضعاف تجارتها مع روسيا.. أمّا تجارة الصّين فتقدّر ب204 مليار دولار: وكانت الصّين قد بدأت بتنظيم مؤتمرات مع الزّعماء الأفارقة منذ 2006، وفي سنة 2018 وقّعت حوالي 150 اتّفاقيّة تعاون كما انضمّت 28 دولة إلى المشروع الصّيني (طريق الحرير) وهو مشروع اقتصادي بعيد المدى يهدف إلى إقامة سلسلة من الشّراكات الاقتصاديّة والمشاريع الاستثماريّة في الطاقات المتجدّدة والمبادلات التجاريّة ومشاريع البنية التّحتيّة تحت عنوان إحياء مسلك طريق الحرير التجاري كقاطرة تسويقية واستثمارية للتنّين الآسيوي تعزّز حضورها الإقليمي والدّولي وتستهدف افتتاح أسواق جديدة والسّيطرة على مجموعة موانئ بحرية وانتزاع امتيازات تجاريّة لفائدة السّلع الصّينيّة من أجل مكافحة الحصار الاقتصادي والحرب التجاريّة الأمريكيّة ومقاومة الرّكود الإنتاجي الذي تعاني منه البلاد والفوائض السلعيّة الصينيّة.. وتتجاوز خريطة هذه المسالك التبادليّة أفق الخطّ التاريخي لطريق الحرير الذي يربط إمبراطوريّة الجين القديمة بموانئ الشرق الأوسط ومصر إلى عمق إفريقيا وجنوب آسيا وجنوب أوروبا (إيطاليا ـ إسبانيا..) وقد ذهبت الصّين خطوات في هذا المشروع بالسيطرة على ميناء كراتشي في باكستان ووضع موطئ قدم في ميناء العاصمة دجيبوتي في القرن الإفريقي..كما تطمح الصّين في تعزيز علاقاتها مع دول شمال إفريقيا خاصّةً الجزائر وتونس، حيث عرضت على بلادنا توسعة ميناء بنزرت وتحويله إلى ميناء تجاري ضخم وكرائه مقابل مشاريع بنية تحتيّة ضخمة وهبات واستثمارات قيّمة إضافةً إلى عرضها لمشروع إنشاء أضخم ميناء تجاري في إفريقيا في جرجيس باعتبارها أقرب نقطة متوسّطية مطلّة على العمق الإفريقي من أجل تحويلها إلى قطب اقتصادي يستقطب مبادلات القارّة وذلك مقابل امتيازات جمركيّة مغرية..
دور مشبوه
إلاّ أنّ السّلطة التونسيّة رغم تثمينها لهذه العروض أثناء زيارة كلّ من يوسف الشاهد وراشد الغنّوشي إلى الصّين إلاّ أنّها تجاهلتها وماطلت في تنفيذها خضوعًا للضغوط الأوروبيّة والبريطانيّة التي تبدي تخوّفًا من طريق الحرير الجديد… فبريطانيا كبّلت عملاءها في إفريقيا بقمم استثماريّة وتكثيف المعاهدات لاسيّما مع تونس والجزائر، وكذلك الاتّحاد الأوروبي وفرنسا صاحبة الامتياز الأولى يمكن لكلّ متمعّن في تحرّكاتها في المنطقة أن يلمس تخوّفها من تحرّش القوى الصّاعدة والعظمى بالقارّة البكر الشيء الذي يفسّر الضّغط المستمرّ لتمرير اتّفاقيّة (الأليكا) هذه الاتّفاقيّة المشؤومة التي تؤسّس للاستحواذ على قطاعي الخدمات والفلاحة بعد أن استوفت قطاعي الصّناعة والتّجارة بحيث تجرّد تونس من جميع مقدّراتها وتسدّ منافذ التدخّل في الكعكة التّونسيّة.. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تونس لعبت دورًا مشبوهًا إزاء هذه الهجمة الشرسة على القارّة الإفريقيّة: فلم تكتف بدور الضحيّة حين فرّطت في مقدّراتها لاسيما لبريطانيا وأوروبا بل قامت أيضًا بدور العرّاب للمشاريع الاستعماريّة المستهدفة للقارّة السّمراء.. فقد شهدت تونس خلال هذا الشهر مراودة ثلاثيّة (أمريكيّة ـ روسيّة ـ يابانيّة) بصفتها (بوّابة إفريقيا): فقد مُنحت (شرف احتضان) النّسخة الثامنة من مؤتمر طوكيو الدّولي للتنمية الإفريقية الذي سينعقد بتونس سنة 2022 وهي ثاني دولة إفريقيّة تحتضن هذا الحدث الدّولي الكبير خارج اليابان بعد مؤتمر نيروبي بكينيا سنة 2016. كما تمّ اختيار تونس لاحتضان مبادرة (ازدهار إفريقيا) لتطوير التّجارة والاستثمار بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة وتونس وإفريقيا..كما نظّمت الغرفة التّونسية الرّوسية للتجارة والصّناعة والسياحة ندوة تحت عنوان (روسيا ـ إفريقيا) بالعاصمة الرّوسية موسكو بهدف تطوير التعاون والعلاقات الثّنائية بين تونس وروسيا..هذه (الثقة) المبالغ فيها من طرف الغرب الاستعماري يشي بالدّور القذر الذي أُسند لتونس بوصفها منصّة جغرافيّة ومنفذ سياسي لتحقيق المشاريع الاستعماريّة المستهدفة للقارّة السّمراء..