«التوافق»: أضاع الحقائق و الحقوق (غنائم حزبية)
في تونس رئيس جديد إنعزل عن الحراك السياسي و الشعبي و لم نعد نسمع له ركزا.. يعاني شيخوخة بيولوجية وشيخوخة سياسية لمنظومة مجربة مهترئة استنزفت نفسها منذ عشرات السنين.. و في تونس حكومة ملفقة مرتبكة لا تعرف من أين تبدأ و لا تملك إرادة و لا إدارة فضلا عن المنهج،
أغلب أعضائها تعرفوا للناس بخطاب تلفزي قائم على السب و الشتيمة و هجاء الخصوم.. و الشعب يتجرع المرارات بقدر الهواء الذي يتنفسه و أدرك أن مصيبته الكبرى هي التوافق.. و غنيمة هذا التوافق هي للحاكمين لا للمحكومين.. تعيش تونس على وقع هذا المصطلح الغامض الذي وقع به الإلتفاف على الثورة و امتصاص حيويتها و طمس عناوينها بعد أن وقع الدوس على سياق شعبي عريض إستغله السياسيون الجدد ركوبا و مطية.. و هذا التوافق هو عنوان عالمي من لعب الكبار و أسلحتهم إذ هو خضوع للشروط الليبيرالية الإقتصادية و السياسية طوعا أو كرها.. و كل مراحل هذا التوافق تمت في تونس بحضور مكثف و لصيق ظاهر و خفي للسفارات الأجنبية حتى لقد قيل حينها “إن الحوار الوطني بإشراف الرباعي الراعي أهم ما فيه هو الكرسي الخامس المسكوت عنه أي السيد الأكبر المتحكم” (انظر صحيفة المغرب في حينها).. و الغريب ان هذا التوافق لم يتم مع سياق الثورة و لا باسم الأغلبية المنتخبة و لا حتى باسم التمثيلية المتنوعة تحت قبة باردو.. بل تم “التوافق” بين أناس مخصوصين (حصرا) في الكواليس و تحت إشراف محلي -بعد الدولي- من إتحاد الصناعة و التجارة أي الأخطبوط المالي بما فيه من نفوذ و إكراه.. و قد كان الإتحاد مطلوبا للمحاسبة الشديدة على فساده في عهد بن علي لا أن يكون ممثلا للثورة..و قد شمل هذا التوافق مفاصل حساسة بأعلى درجات الإستخفاف و الإستضعاف للثورة و الثوريين:
1- الدستور الذي خرج من مشمول الأمة العقائدي و مشمولها الحضاري و صنع صناعة على أرضية فكرية و تشريعية غربية.. و هو دستور قال عنه عدنان منصر مدير الديوان الرئاسي السابق (أغلبه بيع و شراء) و قال عنه الدكتور قيس سعيد ( خذ و هات).. و قد تغيرت نسخ هذا الدستور تباعا على وقع إغتيالات كانت و مازالت هي الرديف الأمثل للتوافق.
2- التحايل على الحياة السياسية بتنصيب حكومة إدعوا لها الحياد و الإنقاذ و قالت جريدة “لوموند” في حينها(إنها تمت بتوافق غربي لا محلي) و قد قدم كثير من السياسيين أدلة فاضحة على ذلك.. هذه الحكومة التي اعتبر لزهر العكرمي رئيسها المهدي جمعة”ذهب معير” ظاهرها الحياد و باطنها الولاء، و أي ولاء؟ الولاء المستعجل المطلق و العجيب للغرب و نحن اليوم ندفع الثمن إرتهاننا إلى حد النخاع.. من ذلك تجديد إتفاقيات الإستثمار للشركات العملاقة في الطاقة و المناجم في مخالفة صريحة للدستور و القانون.. فعل ذلك المهدي جمعة مع أن حكومته عابرة سبيل و متعددة الجنسيات و من ثم فهي لا تتحمل أي مسؤولية سياسية مباشرة و لا تشملها أي محاسبة.. و لكن لاحظوا سكوت الأحزاب التي إدعت التوافق و قد قالوا فرادى و جماعات و من بينهم علي العريض و ياسين إبراهيم و محسن مرزوق (لا وجود لفساد في مجال الطاقة البتة و كفى فتنة)..توافق على الفساد.
3- التوافق العجيب على الفظاعات الإنتخابية بزعم أن هذه التجاوزات ليس من شأنها التأثير في النتائج (يا للمفارقة !!) و مُنع المراقبون من مواكبة الإنتخابات الأخيرة و هذا في أعراف الإنتخابات بمقياسهم هم فضيحة و جريمة، و لكن توافق المتوافقون على الزيف و الخديعة.. حتى الشكاوى التي عزم الدكتور المنصف المرزوقي على تقديمها نصحه الأستاذ راشد الغنوشي بالإمتناع عنها، و صنفت كل شكوى في خانة المشاغبة و التهريج.. ولا ننسى العبث المريع الذي أصبح محل تندر في القوائم الإنتخابية، ما يسمح لنا أن نؤكد أن التوافق شمل أيضا التلاعب بالإنتخابات للوصول إلى مشهد سياسي معد سلفا مرضي عنه و محل توافق.. و هذا ما أكده حزب التحرير في الصفحات الأولى من الجرائد منذ 2012 رغم الصخب و السياسات الممسرحة حينئذ.. و كان الأمر عندنا من باب اليقين بناء على تحليل و معلومات.
4- التوافق شمل أيضا و خاصة موضوع الإرهاب إما بممارسته جزئيا أو كليا أو بالرضوخ له و السكوت عنه رغم أنه سياسي بامتياز فيما يسمى توازن الرعب بين الفرقاء عفوا شركاء التوافق (ملف مقابل ملف.. تورط مقابل تورط.. جريمة مقابل جريمة.. و الحل هو الصمت المتبادل و توازن الرعب) و ما يرشح اليوم من تصريحات مسؤولين أمنيين و آخرهم محافظ عام للشرطة علي الوسلاتي يكشف أسرارا مروعة في موضوع “الإرهاب” ما يؤكد مرة أخرى أن الروايات الرسمية عن الإرهاب هي روايات تسطيحية تمويهية.. إذ يقول هذا الأمني في جريدة الصباح بعددها الصادر 22 فيفري 2015:”إن بعض الأمنيين عقدوا إجتماعا قبل شهرين من إغتيال شكري بالعيد و قرروا التخلص منه”. و أضاف :”إن التجمع المنحل و المنظومة الطرابلسية سعت بكل الوسائل لإثارة الفوضى و إشاعة الإرهاب”. و لكن التوافق بين طرفين سياسيين إحتضنتهما بريطانيا و رعتهما ألمانيا هما النهضة و النداء قررا بعد عشرات اللقاءات المنظورة و غير المنظورة على حد قول لطفي زيتون قررا المرور من التسوية إلى التصفية و نعني تصفية كل الملفات التي تصل المحاسبة فيها إلى الرؤوس الكبيرة أو إلى خط التماس مع الجانب الخارجي و الدولي.. و ها نحن نرى اليوم و بخطى حثيثة تقاسم الأدوار بين رجال أعمال و سياسيين و أمنيين وفق (خريطة العبور الآمن) لتسوية بل لتصفية كل ما هو مزعج و غير مشمول ب”التوافق” و الذي باسمه سيكلف الغرب أصحابه بأدوار خطيرة في المنطقة و سنرى ذلك رأي العين..
و من هذه المسائل التي هي قيد التصفية:
أ- العدالة الإنتقالية: و هي ميتة مع تأجيل التنفيذ و قد أجلت عمدا و قصدا بالتدرج و الدحرجة في السنوات الفارطة إلى هذا الوقت المتأخر الذي فقد الزخم الثوري و الضغط الشعبي و ستدخل هذه “العدالة” في بيروقراطية طويلة المدى تجعلها غير ذات جدوى و لا معنى إلاّ التصفية.. و لا ننسى ما قاله الباجي قائد السبسي عن هيئة الحقيقة و الكرامة و تحديدا رئيستها بعد فوزه في الإنتخابات “هز دبشك و قشع”.. و معلوم أن فتح الملفات في تونس و هي ثقيلة و صادمة ثمنه الإغتيال الصامت و السكتة القلبية السياسية و الجميع يذكر الموت المريب للدكتور عبد الفتاح عمر رئيس هيئة تقصي الحقائق.. و هو الذي وعد بكشف حقائق جديدة أخطر من السابقة.. و ما موت فوزي بن مراد المفاجئ إلاّ دليل ساطع على أن كل شيء يمضي بتوافق أو بالأقل تواطؤ الصمت، ففوزي بن مراد قال لصحفي كبير في تونس في آخر ليلة له عبر مكالمة هاتفية (عندي ملفات مرعبة ستهز تونس).. و كان له موعد على الفطور مع هذا الصحفي و لكن الموت كان أسبق.
ب- موضوع المساجد و بالأخص جامع الزيتونة.. قلنا في إفتتاحية سابقة إن من رفع شعار(تحييد المساجد) و ركز عليه كان منطلقه أحقادا أيديولوجية حتى لا تكون المساجد حاضنة لخطابها الطبيعي (الإسلام صالح لكل زمان و مكان) (الإسلام عقيدة و نظام حياة) (الإسلام دين و منه الدولة) و لكن حركة النهضة تبنت شعار تحييد المساجد هذا و كانت حريصة على تطبيقه لتقدم بذلك دليلا واقعيا و حاسما على فصلها التام و النهائي للدين عن الحياة أي عن السياسة و فعلت ذلك حتى لا يكون صوت المسجد أعلى من صوت تنازلات الحركة و لا يكون محاسبا لها و حتى لا يكون خطاب المسجد مذكرا بالواجب و الأصل أي بالإسلام الحق لا الإسلام المعدل و المبدل وفق البورصة العالمية العولمية، فالنهضة غادرت الإلتزام السياسي الإسلامي أي التقيد بالحكم الشرعي في الشأن العام و هي تشهد الأصدقاء و الأعداء على ذلك.. و لكم أن تلاحظوا أن حركة النهضة تولت هذه الأيام تطويع جامع الزيتونة بالصيغة البورقيبية القديمة و رده إلى الحاضنة العلمانية لتشرف عليه و ذلك من خلال الهيئة المؤقتة المنقلبة على الوضعية الطبيعية القائمة في جامع الزيتونة بعد رده إلى وضعه الأصلي بمقتضى حكم محكمة واضح و مفصل.. و هذه الخطوة تتم بتوافق و تفويض من تيار علماني حاقد على جامع الزيتونة و رمزيته العالية.. و للأسف سيسجل التاريخ لحركة النهضة هذه الخطوة الرجعية في ذمة الجامع الأعظم و هي التي أرهقته و أرهقت إمامه منذ كانت في السلطة.
ج- التوافق شمل الإعلام أيضا( أنظر فحوى كلام مهدي جمعة للإعلاميين في إجتماعه المشهور بهم) فكل متابع يلاحظ اليوم في الإعلام المودة العجيبة بين خصوم مفترضين و ما يلزم عن ذلك من عدم التركيز على المحاسبة و فتح الملفات الحارقة، فما حدث في انتفاضة الناس في الجنوب مر إعلاميا مرور الكرام.. و كشف الحسابات السرية في بنك سويسري لشخصيات معروفة من البلد طغى عليه التهوين بل التبرير (سبحان مبدل الأحوال) و فيضانات الشمال الغربي و ما تكشف من ظلم على أهلنا هناك يمر خبرها مر السحاب عدى بعض التعاطف.. فتغيب المنازعات و المشادات و المحاسبة الدقيقة.. بل إغتيال أربعة من أبناء الحرس الوطني تم بلا حداد بل بمظاهرة استعراضية مشتركة توافقية دون محاسبة لا للداخلية و لا للحكومة و لا للحزب الحاكم.. فكل تحاليل السياسيين الجدد على غير السابق صارت في سياق متناغم يسطح الإرهاب قصدا و يختزله في عنوان واحد.. ثم لاحظوا هذا التغييب المتعمد في وسائل الإعلام للوجوه المشاكسة و غير المرضي عنها و غير المشمولة بالتوافق و التي قد تفضحه و التي تتعهد ملفات الثورة و ترفض غلقها.. هذا الاستنتاج أكده لي بمعلومات تفصيلية أحد أصدقائي من الصحفيين.. زائد تصفية قنوات تلفزية عصية على التوافق و أبرزها قناة الزيتونة صاحبة البرنامج الشهير في كشف فضائح الفساد.. بقيت بعض مشاغبات النقابات الأمنية التي تغرد خارج السرب.. و ها قد أخذ القرار بترويضها أو إسكاتها و المسألة مسألة وقت.
**و هكذا يدخلنا هؤلاء السياسيون “طوعا” إلى منظومة العولمة الإكراهية لنتوافق لا على إستحقاقات الثورة بل على إعدام الثورة و إبطالها و أن نقبل الإذعان دون أن يكون لنا حتى شرف خوض المعركة و لسان حال التوافقيين( إنتهى الدرس يا غبي).. و ها هو الأستاذ راشد الغنوشي في مقالته الأخيرة في جريدة الشروق في عددها الصادر يوم 26-فيفري-2015 يؤكد أن ما حصل من “توافق” هو عين الحكمة و أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان و هو الذي قال من قبل لصحيفة الخبر الجزائرية ( لو قدمنا مرشحا للرئاسة لوقعت أعمال إرهابية و فوضى) و هو بالطبع لا يعني إرهاب TOM و لا فوضى Jerry و لكنه لم يقل لنا من هو الفاعل الحقيقي أو المفترض و الذي وضعنا في إقامة جبرية توافقية !! أي انه لم يفسر لنا كيف أن الإرهاب جزء من التوافق غير المعلن (الكل يعرف و الكل يصمت بل يتواطأ).
و هكذا تفرقت حقوقنا و دماؤنا بين القبائل السياسية في مشهد زئبقي ممسرح إسمه ديمقراطية و لقبه دكتاتورية يقع فيه تصفية الأشخاص و تصفية القضايا و تصفية الملفات بدم بارد.. و في الأخير نقول إن التوافق بين السارق و المسروق و الظالم و المظلوم دون رد الحق إلى أهله هو تطبيع مع الجريمة و الإجرام.. أما معاملتهم الإسلام -دين الأمة- معاملة الفصل و العزل و المحاصرة فهو العدوان و المعصية التي تغضب رب العالمين و إن توافق عليها البشر أجمعين.
بقلم أ. رضا بالحاج