التوافق على الإرهاب.. الفاعل والساكت
أحجار التأسيس والتوافقية في تونس تتساقط واحدة تلو الأخرى والجدار يريد أن ينقض« : هذه أهم حقيقة سياسية يجب التركيز عليها اليوم، أولا لأن الأمر يتعلق بما زعموه تأسيسا صالحا لأجيال ومناسبا بل ممثلا لثورة وشعب وثانيا لأن مقدار الزّيف والكذب في هذا التوافق هائل وممنهج ما يؤكد أن تونس منذ سنة 1955 تعيش الخديعة الكبرى … وجذب أول الخيط كفيل بكشف هذا الزيف بل الجريمة الكبرى المتواصلة إلى اليوم…
نفصل فنقول … إن اصطلاح التوافق المزعم انه عبقرية تونسية واستثناء تونسيا وأرضية صلبة يشهد اليوم على نفسه وعلى ألسنة من انتحلوا صفته أنه كان التفافا ونفاقا والمسألة تحتاج إلى دراسة سياسية مطولة تأخذ كل الجوانب استقراء واستقصاء… ولكن اليوم نكتفي بمقالة تمثل لهذه الجريمة من باب حفز الجميع على النضال على هذا الصّعيد لأن المقدّمات إذا سُكت عنها تحكمت في النتائج وعقّدت الإصلاح وزادته مشقة … والنتائج كما يرى الجميع كارثية وبان عورها في وقت قياسي… وهاكم بعض الأدلة والقرائن على أن هذا التوافق كذبة كبرى وأنه مغشوش إلى حد العفن … بل -وهذا الأخطر- بعض من غشه إزهاق للأرواح لتغيير المعادلات مع ضمان توافق السكوت … سنتناول هنا أخطر موضوع في هذا التوافق المغشوش: ألا وهو الإرهاب الذي كان المبرر الأوّل في تغيير المسار من ثورة إلى مجرد حالة إنقاذ مستعجلة… نتبين اليوم أكثر فأكثر وأوضح فأوضح أنه صناعة وله غرفة عمليات من القوى المضادة للثور ة فعملية المنيهلة (11 ماي 2016) مثلا صارت اليوم في حكم اليقين بالأسماء والوقائع أنها من تدبير جهات أمنية وسياسية افزعوا بها البلاد والعباد وأزهقوا الأرواح وتمعشوا منها للتضييق على الثورة وأنفاسها … حتى يكتفي الناس من الثورة بطلب السلامة وكفى… وها هي هذه العملية وهي جريمة دولة بامتياز تُسقط كثيرا من الرؤوس وان كانت المحاسبة كالعادة مجرد “تمويه” و”التفاف” ولكن البعرة تدل على البعير !! ومثل ذلك يقال عن أسبوع كامل من الصخب الإعلامي والقصف السياسي عن خلية إرهابية مزعومة في “منزل نور” وما تبع ذلك من اعتقالات واقتحامات ليلية كشفت عورات الناس وأعراضهم مع عناوين صحفية مرعبة تبيّن فيما بعد أنها زائفة جملة وتفصيلا. بل تأكد أن القضية من أصلها ملفقة كما قال لي بصريح العبارة الناطق الرسمي الأسبق للداخلية (محمد علي العروي) حتى أن النيابة أدانت المغالطة الأمنية وطلبت المحاسبة … ولكم أن تتصورا الأجواء التي عاشتها تونس حينئذ في ظل إعلام كارثي بعضه يعمل مع غرفة العمليات القذرة والبعض الأخر لا يكلف نفسه حتى مجرد التثبت والثمن لكل ذلك أعصابنا وأعصاب الثورة …. وقد قام زهير الجيس بتحقيق تلفزي مطول ميداني أثبت زيف الرواية الرسمية … اتصلت به لأشكره فقال لي “البلد يحكمها المجهول تعرضت من أجل ذلك البرنامج إلى ضغوط مرعبة… إنهم لا يحبون الحقيقة)
غرفة العمليات هذه بقيادة بعض النافذين وكثير من المرتزقة هي التي أشاعت فكرة “جهاد النكاح” والذي صدعوا به رؤوسنا وعبثوا به كما شاؤوا وبه اختزلوا خصومهم في صورة رمزية مقززة ومقرفة ساخرة كفتهم مؤونة الصراع الفكري والمواجهة السياسية وقد أكّد وزير الداخلية الأسبق لطفي بن جدو في تسجيل مصور على موقع الصدى أن الموضوع كاذب من الأساس وأنهم (غلطوه) وأنه يعتذر عن ذلك … وهو الموضوع الذي تصدر الإعلام أشهرا وارتزق منه تيار الثورة المضادة حد التخمة …
أما المغالطة الكبرى والمدبرة على عين بصيرة من خونة غرفة العمليات فهي ما تعلق بـ «أحمد الرويسي” المزعوم قائدا ومدبرا لكل العمليات الإرهابية وهو الذي كان عرّافا ودجّالا ومقرّبا من ليلى الطرابلسي “حاكمة قرطاج” … فقد صوّروُه عصيا عن الاعتقال في تونس وتبين فيما بعد أنه تحصل على جواز سفر وهو في حالة فرار وأنه انتقل إلى ليبيا… ومن بعد يعرف الجميع قصة حاسوب الرويسي الذي تبخر من المحجوزات ولا يعرف إلى اليوم مصيره ولكن الجميع يعرف مصير سقراط الشارني الأمني الذي كان حريصا على معرفة مصير الحاسوب اللغز فقد قتل في قضية مصطنعة من أولها إلى أخرها لأنه رفض المؤمرة وأراد كشف خيوط اللعبة وقد وقع تحييد والده عن التصريحات الإعلامية حين قال إنه يملك معلومات خطيرة حول مقتل إبنه… والأدهى في الموضوع أن أحمد الرويسي المزعوم العقل المدبر للإرهاب في تونس قد وقع اعتقاله في ليبيا بعد كشف خيانته من الثوار فاتصل سفير تونس في ليبيا بالخارجية التونسية ورئاسة الحكومة للقيام باللازم لتسليمه ولكن ماطل مهدي جمعة ورفض ذلك بل اعترف في تصريح لاحق رفض قبول عودة تونسيين إرهابيين من ليبيا في معرض الافتخار لا الاعتذار…
علما وأن أحمد الرويسي قد وقع اغتياله فيما بعد في ليبيا وقد تبين حسب الصّور وحسب تصريح أخيه في جريدة الصريح أنه لم يمت في مواجهة بل مات غدرا وقنصا .. أي قتل لتموت معه أسرار الاغتيالات في تونس…
ومن قبل لا يخفى اليوم على أحد ان مقتل شكري بالعيد ومحمد البراهمي كان بتدبير وتخطيط لدولتين أجنبيتين يدندن حولهما الجميع فيسكتون خوفا أو مقايضة فالبحث أدى إلى تقاطعات صريحة مع دولة الإمارات وتحديدا غرفة عمليات دبي وهو أمر كنا قد نبهنا له منذ سنة 2011… ويعرف الجميع قصة المكالمتين الهاتفيتين من الإمارات العربية لسائق شكري بالعيد قبيل وبعد اغتياله والقرينة الأكبر هي تصريحات ضاحي خلفان قائد شرطة دبي التي قال فيها “جهارا سنتفرغ لإحباط الثورة في تونس” وهي تصريحات مدونة وسمعها الجميع … ولكن هي معطلة عن نتائجها ومعطلة عن أي استنتاج واعتبار عند فريق جبان واخر خوّان هكذا !! .. وبمثل هذا وقع العبث بالثورة التي استكثروها على الشعب المقهور… وفي هذا السياق نأتي بشاهد من صلب جهاز الأمن نفسه على وزن “وشهد شاهد من أهلها” : قال علي الوسلاتي وهو محافظ شرطة مكلف بخزن الأسلحة في الداخلية في حوار مع صحيفة الصباح 22 فيفري 2015 أنه كشف بالدليل القاطع أن اغتيال شكري بالعيد تقرر من بعض الأمنيين الذين عقدوا اجتماعا قبل شهر من اغتياله وقال انه سلّم أسماء هؤلاء الأمنيين إلى حاكم التحقيق إلا انه لم يحرك ساكنا وأن عصابة اعترضت سبيله على مستوى نهج ابن خلدون وعنفته وهددته علما وأنا شكري بالعيد نفسه أخبر الجهات الرسمية في رسالة موثقة أن وجوها أمنية تتابعه وتراقبه وأن حوله أجواء مريبة.
والفاضحة الكبرى كانت عملية سوسة الإرهابية في صائفة 20155 والتي فاق الكذب فيها كل تصور … ويكفي تتبع التصريحات الرسمية حينها لتكشف من خلال فلتات اللسان كم التناقضات التي تدين السلطة أو أطرافا فيها:
أولها تصريح وزير الداخلية السابق ناجم الغرسلي التي قال فيها: هناك من تعمد إيجاد فراغ أمني يوم العملية الإرهابية في سوسة.
هكذا؟ نعم هكذا.
وثانيها ما قاله رئيس الوزراء الحبيب الصيد في ندوة صحافية حول من قام بالعملية بأنه مواظب على الدراسة ولا يتغيّب. ثم قيل انه تلقى تدريبات في ليبيا ثم قيل انه كان منشطا سياحيا وأن قوات الأمن انتدبته للقيام بعملية بيضاء يقوم فيها اختراق نزل للتثبت من مدى جاهزيتها وفاعليتها وقد بثت القناة الفرنسية الثانية برنامجا مفصلا في الغرض. زائد ما اقرته المحاكمة الأخيرة في بريطانيا حيث أكدت أن من قام بالعملية هم ثلاثة على الأقل لا واحد كما ورد في الرواية التونسية وهو ما يوافق ما قاله شاهد عيان يعمل في النزل حضر في بث متلفز ليلة الجريمة وكان بثا مشتركا بين إذاعة “جوهرة أف أم” وقناة “الحوار التونسي” إذ قال كان بجانبي في الطابق العلوي رجل يلبس على الطريقة الأمنية يطلق النار على السواح … وبعدها أبعد الشاهد عن كل اتصال اعلامي وأقرت المحكمة البريطانية أن الأمن متواطئ وبالأقل متخاذل.
نعم هكذا … في ظل صمت إعلامي تونسي مريب … أرأيتم حجم المؤامرة ؟…
كيف لا؟ وهم حسب تصريح نبيل القروي مدير قناة نسمة والإعلامي برهان بسيس قد توافقوا على إمكانية التضحية بعشرين ألف من أبناء تونس ضريبة دم لوأد الثورة وإخراج الإسلاميين من السلطة ودوائرها ورغم أن التصريحات موثقة ومتداولة وأنها خطيرة مرعبة لم يقع فتح تحقيق فيها البتة … إذن الجماعة كانوا مستعدين لقتل عشرات الألاف … فكيف لا يقتون شكري بالعيد أو محمد البراهمي لإدانة خصوم بلغ جبنهم حد معرفة الحقيقة والسكوت عنها توافقا (توافق على الصمت المتبادل)
ثم على الجميع الانتباه إلى هذا الأمر الخطير وبكل تركيز وتدقيق: قبل تغيير وجهة المرحلة المسماة بالتأسيسية من (عزل سياسي لأبناء النظام السابق) إلى تأهيل وإدماج ومن مسودة دستور جاهز تقريبا إلى دستور مستعجل سمّي توافقيا… قبل ذلك كله كان الخطاب المتكرر المتواتر لهذا الفريق (بدون توافق سيؤول الأمر إلى حرب أهلية) وفعلا هددونا عشرات المرات بالحرب الأهلية ولم يقولوا لنا من هم أطرافها؟
السلفيون مثلا؟ هل كان الدستور الثاني سلفيا او قريبا منهم حتى يمتنع هؤلاء عن هذه الحرب الإهلية؟ هل رفع الحظر والمنع عن أبناء النظام السابق هو الذي منع السلفيين من هذه الحرب الأهلية المدمرة التي هددونا بها؟؟
مسار التوافق كله كان تنازلا لأبناء النظام السابق والتيار العلماني عموما حتى أنه أبدل السن القصوى للترشح للرئاسة من 70 إلى 80 إلى 90 إلى إلغاء شرط السن حتى يحكم العاجز العجوز!
هذا هو الذي منع حربا أهلية اقتضت جائزة نوبل ما يعني أن الذي دبّر الخراب كله هم التيار الذي انتصر اليوم حاكما ومتحكما انتصر ولكن مؤقتا وإلى حين.
200 ألف أو يزيدون هي نتيجة أولية لحرب وفوضى دبروها واستعدوا لها إلى حد البراميل المتفجرة … هذا التدبير كان مبكرا منذ 15 جانفي كما قال الناطق الرسمي باسم نقابة الأمن الرئاسي سنة 2012 في حوار مع جريدة الصريح (4 افريل 2012) اذ قال: يوم 15 جانفي 2011 أي صبيحة فرار المخلوع التأم اجتماع طارئ في مقر وزارة الداخلية من السابعة صباحا إلى منتصف النهار جمع 4 وزراء سابقين وقتها واتفقوا على نشر الذعر في البلاد … وفعلا فان الذين ماتوا بعد هروب المخلوع كانوا أضعاف مضاعفة قياسا بالذين قتلوا أيام الثورة والانتفاضة على بن علي… ويذكر الجميع كيف هاجمت عصاباتهم ذات ثلاثاء أسود بعض المؤسسات وهددت التلاميذ بالسلاسل والعصي بأن بن علي سيعود ما اضطر المعاهد إلى غلق أبوابها ونشرات الأخبار تشهد على ذلك.
هذا بعض من التوافق الذي سرقت به الثورة والجميع في غفلة وبهتة رغم أن السياق كله مفضوح والوقائع مكشوفة والمصير الكارثي ينادي الجميع… وهناك وجه أخر لهذا التوافق وهذا النفاق مثل الانتخابات وكبح تيار المحاسبة على ثروات البلاد ونقل نفوذ السلطة من الساحل إلى العاصمة ومن عائلة حاكمة بائدة إلى عائلة حاكمة جديدة… والأخطر في التوافق أنه جعل البلد مرتعا للأجنبي مع اعتبار ذلك ضرورة أو تكتيكا أوأمرا لا حول لا وقوة لنا به… وهذا ما قد نتناوله في مقالة قادمة لننقذ تونس العزيزة من براثن هؤلاء المجرمين.
لك الله يا تونس …
رضا بالحاج