كثير من الناس في بلادنا، من مثقفين وغيرهم، يتخذون من النظرة الغربية المعاصرة مقياساً للحكم على الأمور، فما كان مقبولاً في النظرة الغربية كان مقبولاً عندهم ومستساغاً، وما كان مرفوضاً مستنكراً في الفكر الغربي فهو كذلك عندهم.
بدأ هذا التّحوّل في الساحات الفكرية والسياسية في بلادنا نتيجة الصدام الفكري والعسكري والسياسي مع الدول الغربية منذ غزو نابليون أرض مصر. ورغم هزيمة جيوش نابوليون العسكرية في مصر لم ينتهِ الصراع ضدّ الغرب بل كانت مشهداً من مشاهد هذا الصدام الذي استمر لقرون مديدة ولا يزال مشتعلاً حتى اليوم.
يتذكر الجميع بعثة الطلاب الشهيرة التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا للتزود من العلوم والمعارف الحديثة الكفيلة بتأسيس دولة “حديثة” قوية، ونتوقف عند الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي الذي رافق البعثة ليكون لهم مرشداً دينياً يعصمهم من الزلل في وحول الحضارة الغربية يومذاك. تلك كانت الفكرة على الأقل، إلا أنه لم ينج من التأثّر بما عاشه من واقع الحضارة الغربية فرجع إلى مصر داعياً لها ومبشرا بفضائلها. فكان الطهطاوي أول من أدخل مفهوم “العصبية الوطنية” في بلاد المسلمين، والتي اعترف القنصل الفرنسي في بيروت سنة 1856 أنه ليس لها وجود عند المسلمين.
واستمر الغزو الفكري الغربي وتكثف مع امتداد الهيمنة العسكرية والتي توجت بهدم دولة الخلافة العثمانية، ثم تقسيم المنطقة إلى كيانات هزيلة تعتمد في وجودها على دعم الدول الغربية.
هذه الهيمنة الغربية على المسرح العالمي بكل تفاصيله جعلتكثيرا من المثقّفين والإعلاميين ينكرون، على من يريد تحدّي النّظام الرأسمالي؛ يقولون: “ألا ترون أن النظام الرأسمالي لديه مفتاح واحد وباب واحد، وكل من لا يدخل من ذلك الباب يبقى في البرية خارج العالم والزمن؟
هذا هو المشهد الثقافي العربي وهذا ما يردّده “النخبة” الثقافيّة والسياسيّة في بلادنا، وفي المقابل يذكر المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي أنّ الموجة الغربية للهيمنة على العالم هي مجرد مشهد عابر أخير في مسيرة البشرية الطويل والممتد آلاف السنين. وقد حذر في كتابه الشهير “محاكمة الحضارة” أنّ الحضارة الغربية، برغم كل إنجازاتها المادية الباهرة، مآلها إلى الانحطاط والزوال لأنها لا تستند إلى أسس العقيدة الدينية المتينة، وحذّر قومه، الساهين عن عظمة الإسلام، ألا يغتروا بالتقدم التكنولوجي الخادع لحضارتهم التي ستنهار حتماً، وأن يتعظوا من مصير من سبقهم من الأمم والحضارات التي سادت ثم بادت. ولم يكتف بذلك بل دعا قومه إلى اكتشاف الحضارة الإسلامية التي ستقوم بدور الريادة في المستقبل القادم. وبيّن أن الأمّة الإسلامية، برغم ما يعتريها من كبوة مؤقتة، فهي مهيأة لتكرار انتصارها على الحضارة الغربية، تماما كما فعلت من قبل في تحرير الشام ومصر من الهيمنة الهيلينية التي دامت ألف عام، وكما تمكنت تحت قيادة نور الدين زنكي وصلاح الدين والمماليك من دحر الهجمتين الصليبية والمغولية، بل وتوقع توينبي أن مركز الحضارة العالمية القادمة سيكون في القوس الممتد من بغداد إلى وادي فرغانة.
إنّ النموذج الرأسمالي الحالي – حتّى عند المنظّرين له- ليس هو “نهاية التاريخ” بل هو مشهد عابر لا يؤخر دفنه إلا تأخر ظهور النموذج الحضاري البديل، الإسلام لا غير.
لقد آن الأوان أن نتحرر من عقدة الاتّباع للنموذج الغربي وليكن تفكيرنا مستقلاً نابعاً من عقيدتنا الإسلاميّة التي قامت الدّلائل القطعيّة على صحّتها بعيداً عن التقليد الأعمى.ونذكر في هذا المقام المفكر القبطي رفيق حبيب وهو يقول: “لا توجد أمة أو شعب حقق النهوض والتقدم والرخاء من خلال تقليد شعب آخر؛ فعملية تقليد الحضارة القوية المتقدمة يمكن أن توفر قدراً من التحسن في الحياة، ولكنها لا تبني حضارةً ناهضة ولا دولةً قوية، فالتقليد شكل من أشكال التبعية، والتقدم يقوم على الاستقلال الشامل، وكل شكل من أشكال التبعية يمنع التقدم الحقيقي الأصيل، ويمنع النهوض الحضاري”.
وعليه فإنّ التحرر من هيمنة الفكر الغربي بات ضرورة حيويّة، فلا حياة لنا كريمة ونحن خاضعين أتباعا يذلّنا الغرب كلّ حين. ولقد أكرمنا الله تعالى بأن أرسل إلينا رسولا حرّرنا فكريّا وثقافيّا وسياسيّا فكنّا سادة العالم، وإنّ شروط التّحرّر مازالت قائمة بيننا فديننا مازال محفوظا فكرا ومناهج تفكير ومعالجات لجميع مشاكل البشر وكيفيّات تطبيق المعالجات، لم يبق إلّا أن نزيل عن أنفسنا ذلّ التبعيّة وعقدة تفوّق الغربيّ.