أصبح مفهوم التنمية – بغض النظر عن تعريفاته المتعدّدة – شغلا شاغلا لكثير من النّاس، وأصبحت التنمية هدفا وغاية يعمل على تحقيقها وتحصيلها وكأنّها هي التي خلق لها النّاس. ومن هنا، نرى تسويق بعض النّاس لأنظمة وحكومات لا تحكم بما أنزل الله بزعم تحقيقها للتنمية في بلادها لتتّخذ قدوة يتأسى بها، كماليزيا وتركيا، ونرى اهتمام بعض الشخصيات والجمعيات والمنظمات بهذا المفهوم ومحاولة التركيز عليه من أجل تحقيقه بزعم أنّه مقصد شرعي، فينظّرون ويقنّنون ويؤصّلون ويتأوّلون الأحكام الشرعية لتنزيلها في غير واقعها بحجّة أنّ الإسلام جاء لمحاربة الفقر مثلا والارتفاع بالنّاس والرفع من مستوى معيشتهم ومدنيتهم. ويحسب هؤلاء أنّهم يحسنون صنعا؛ لأنّهم يعالجون مشاكل الناس عمليا، ويسهمون في تحسين وضعهم في المجتمع إيجابيا.
لقد حوّل هؤلاء الدّين إلى مقاصد مفصولة عن أصلها، وإجراءات عملية غير مرتبطة بمصدرها، حتى أضحت أحكام الشريعة مجرّد أفكار وقوانين شأنها شأن أيّ فكر أو قانون وضعي بشري علماني. وإذا أراد بعضهم تمرير رأي ثبت في الأصل كركن ديني وأمر رباني، التمس له التبرير والإذن البشري كقول بعضهم محاولا إقناع غلاة اللائكية بحكم شرعي: “الزكاة لا تخالف مدنية الدّولة” وقصده: الزكاة لا تخالف لائكية الدّولة.
ليس العُلَى نُهزة تُطالِبُها … كُلُّ خَطيرٍ مِن دونهِ خَطَرُ
ونذكّر في هذا المقام بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِقَامَةُ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي بِلَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» (رواه ابن ماجه عن ابن عمر)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا»(رواه ابن ماجه عن أبي هريرة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ بِحَقِّهِ أَزْكَى فِيهَا مِنْ مَطَرٍ أَرْبَعِينَ عَامًا» (رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس).
فالعبرة ليست بالتنمية والتمدّن ومحاربة الفقر وإشباع الحاجات الأساسيّة للناس، وإنما العبرة بتطبيق شرع الله في الأرض. ذلك أنّ الغاية من خلق الخلق عبادة الله تعالى، ومهما عمّر الإنسان الأرض وأبدع في عمارتها، ومهما أشبع النظام حاجات النّاس الأساسية والكمالية وساهم في تقدّمهم المادي،فلا عبرة بالتنمية والمدنية إذا كانت منفصلة عن المنهج الرّباني والشّرع الإلاهي.
فليست الغاية من الدّين مجرّد معالجة مشاكل النّاس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغير ذلك، إنما الغاية أن تعالج تلك المشاكل بشرع الله، وأن يدرك النّاس أنّ علاج مشاكلهم بشرع الله، وأنّ عليهم تطبيق شرع الله. وبناء عليه، فالأصل أن ندعو الناس إلى استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة التي تعالج مشاكلهم وفق أحكام الشريعة الإسلامية، والأصل أن ندعو الناس إلى ربط مشاكلهم وعلاج مشاكلهم بعقيدتهم الإسلامية وما تقتضيه من وجوب تحكيم الشريعة في حياتهم الفردية والجماعية، وفي الأسرة والمجتمع والدولة.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} (المائدة). وقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} (الأعراف).وقال: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)} (هود). قال الطبري: “وقوله: (يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى)، يقول تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الآيات: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، فإنكم إذا فعلتم ذلك بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها، وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت”.
فالتنمية بكل ما تحمله من معان ومفاهيم، والحياة الكريمة، والعيش الآمن، هي نتيجة طبيعية لتطبيق شرع الله في الأرض؛ ومن هنا كان الوعد الربّاني بالتمكين في الأرض لمن يريد عبادته وتطبيق شرعه. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} (النور).